القاعدة المعمول بها أدبياً من حيث الجندر، لم تعدّ أن الرجل عموماً (أبيض أو أسود، قصير أو طويل، شرقي أو غربي)، هو من يقرر وحده مجال النشر، فمن الإنصاف اليوم أن نقول إن مشاركة النساء (العربيات منهنّ تحديداً)، في النشر، سواء في مجال التأليف أو الإدارة، بلغ معدلات مذهلةً بعد العام 2000، وبشكل لافت في السنوات العشر الأخيرة.
وللأمانة، فقد طرقت المرأة هذا الباب كمبشّر لا كشرطي، مع أنها تدرك أنها تمضي في مهمتها هذه في حي مليء بالمسالخ والكهّان.
لتنتهي من تأنيب الضمير... كرري ذنوبكِ لكن بطريقة أخرى
دور المرأة العربية يتوسع بشكل درامي ومفاجئ، والسبب في ذلك ليونة المجتمع وتقبّله لكل جديد، فخلافاً للسابق لم يعدن يُطرَدن من الساحات من قبل رعاع مسلحين بالأحجار والسواطير كلما أعلنّ عن أفكارهنّ صراحةً.
بدأت المرأة العربية بدورها في الدفاع عن حقوقها الأدبية مع حركة النهضة العربية في التجديد الأدبي في بداية القرن العشرين، واقتصرت دعواتها على ضرورة تحديث الشعر والقصة والرواية
لهذا بات يقيناً أنها تزاحم اليوم الذكور في الأدب كواحدة من ثلاث أولويات لديها، ففي الوقت الذي ينشغل فيه الرجال في الحروب والهجرة والانهيار الاقتصادي، هناك من هنّ اليوم منشغلات بالثقافة والأدب ويحاولن -عن طيب خاطر- أن يرمّمن هيكل العدالة الاجتماعية في بلادنا بما لا ينزع الودّ بينها وبين المأثور الشرعي.
بدأت المرأة العربية بدورها في الدفاع عن حقوقها الأدبية مع حركة النهضة العربية في التجديد الأدبي في بداية القرن العشرين، واقتصرت دعواتها على ضرورة تحديث الشعر والقصة والرواية، في حين أخذت في ستينيات القرن الفائت تهدف إلى تأسيس مدرسة أدبية جديدة تضع المرأة في مقدمتها، وتعبّر عن معاناتها وتطلعاتها.
ثم عملت على تنمية الجهود الأدبية والثقافية التي يمكن أن تعبّر عن موقع المرأة في المجتمع. وفي الثمانينيات نادت خصوصاً في بلاد الشام وإقليم المغرب العربي بالتحرر والانعتاق من القيود المحرّمة على المرأة والمجتمع، وعملت على تجسيد ذلك في الشعر والرواية والقصة. وذهبت من جديد، خصوصاً في الريف، لتصبّ تركيزها على محو الأمية للمرأة والنضال من أجل حقوقها من جديد، أما في المدن فقد توجهت نحو الانخراط في الإنتاجات الأدبية بشكل أكبر.
لكن مع بداية القرن الجديد، خصوصاً في العقد الأخير، باتت المرأة تنزع، في تكرار لذنوبها بطريقة مختلفة، إلى إدارة وتأسيس دور للنشر. وهنا اختُلف في توصيف دورها الجديد من حيث أهدافه وقدرتها عليه، فأثير الجدل حول توصيف الهدف من وراء ذلك: أهي حركة منظمة بالفعل بهدف تغيير سلوك المجتمع حولها وأنها ترغب من وراء ذلك في توجيه الأدب نحو قضيتها، أم هو مجرد عمل تزاوله المرأة كأي عمل آخر وهدفه مادي لردم احتياجاتها المعيشية؟
سلسلة ديون وراثية
قبل بضع سنوات، تواصلت معي إحدى دور النشر العربية لنشر مجموعتي القصصية الأولى. مديرة الدار مشكورة والمدققة اللغوية والمنسّقة ومسؤولة المبيعات (ولربما عمّال المطبعة)، جميعهن كنّ نساءً. قلت في نفسي إنها قد تكون مصادفةً، وحالةً عرضيةً لا أكثر، لكن تكرر الأمر عينه مع دار نشر ثانية في كتابي الثاني، وتكرر أيضاً مع دار نشر ثالثة في الكتاب الثالث، وكذلك مع دار نشر رابعة في الكتاب الرابع. ناهيك على أني أمتلك الآن أرقام هواتف عشرات دور النشر العربية، وليست هناك مبالغة في القول إن ثلاثة أرباعها تقودها أو تديرها نساء بملكية شبه كاملة.
وكانت أيضاً في إحدى دور النشر العربية، مديرة على قدر لطافتها واحترامها لي، وعلى غاية من الشدة والغيرة حيال "قضيتها"، فحدث حينها أنها أرجعت إليّ الكتاب لإعادة تصويب بعض الأفكار. اللافت أن الدار ذاتها قبلت بنشر الكتاب بناءً على مقترحات لجنة من القرّاء كانت قد أعدّتها في وقت سابق لغرض المسابقات الأدبية. بالنسبة لي هي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، لهذا أثارها ردّي حين قلت إن ما ورد في الكتاب هو "مجرد وجهة نظر محايدة عن المرأة وإنه بالإمكان تصويبها"، فكان ردها بطريقة انفعالية يوضح لنا حجم سوء الفهم الحاصل من سلسلة ديون أورثها المجتمع في حق المرأة، إذ قالت: "لا يمكن أن أكون حياديةً في مسألة الدفاع عن المرأة، وإلا أكون قد غدرت ثقة النساء العربيات وهذه أمانة". هنا تبيّن لي أن انفعالها مردود إلى سلسة من الموروث المتصادم.
افتراض التباين كإطار تفسيري
الكاتب المصري فتحي محمد، صاحب رواية "شبح الثائر" و"تعويذة باب زويلة"، يرى أن السبب وراء تفوق المرأة في مصر في الاستحواذ على إدارة دور النشر لا علاقة له بدوافع أيدولوجية بقدر ما هو "عامل نفسي" وفق وصفه.
وفي هذا يقول: "في مصر أغلب دور النشر التي تديرها نساء مملوكة لرجال، وتالياً أصحاب دور النشر يلجؤون إلى وضعهن في الإدارة لأهداف مختلفة منها في الدرجة الأولى استغلال التعاطف وكسب دعم الحركة النسوية لأي امرأة تدير دار نشر، وتالياً الأمر يدفع لتكون الدار قد خرجت عن المألوف في مجال كان العمل فيه حكراً على الرجال لوقت مضى، وتالياً الحصول على شعبية أكبر وعدد من القرّاء أكثر عبر مواقع التواصل الاجتماعي".
دور المرأة العربية يتوسع بشكل درامي ومفاجئ، والسبب في ذلك ليونة المجتمع وتقبّله لكل جديد.
ويضيف محمد: "كذلك للأمر علاقة بالأجور المادية، فالنساء عموماً يرضين بالقليل من الأجر مقارنةً بالرجال، والعمل في مجال النشر بعكس العمل في مجال الشركات الأخرى لا تترتب عليه أي ترقيات أو مزايا وتالياً المسؤوليات الكبيرة، فالرجال تترتب عليهم مسؤوليات أكبر من المرأة كمصاريف المنزل والعائلة والزواج والدراسة وهذا يحتاج إلى عائد مادي أكثر وعدد ساعات عمل أكثر لا تلبّيها مهنة إدارة دار نشر".
لهذا السبب يرى فتحي محمد، أن النساء يعتمدن في مصاريفهن اليومية على جهد أزواجهن أو إخوتهن الذكور، لذلك تجدهنّ متفرغات للعمل في مجال النشر ولديهنّ الوقت الكافي أكثر من الرجال، كما يرى أن هكذا عمل لا يحتاج إلى مجهود عضلي وأن النساء عموماً لديهنّ تقبّل للعمل بأجور قليلة في مهنة يرغبن فيها كهواية.
البُعد من دون سبب قلّة أدب
ترى كاتبة وصحافية سوريّة، فضلت عدم ذكر اسمها، أن كل فعل تفعله المرأة في مجتمعنا ينمَّط برداء أخلاقي، ودائماً ما يُنظر إليه (إلى هذا الفعل)، من هذه الزاوية الضيقة حتى لو كان في أقصى انفتاحه، لهذا تقول ممازحةً إن "عمل المرأة العربية في الأدب هو ربما حتى لا يقال عنا إننا قليلات أدب"، بهذا وبشيء من المزاح تبرر الكاتبة توجه العديد من النساء العربيات نحو إنشاء وإدارة دور للنشر.
لكنها ترى أن وجودها في هذه الساحة هو أمر مفروض عليها، سواء أحبّت أم لم تحب، "لأن بُعد المرأة عن الساحة الأدبية من دون سبب، قلة أدب".
وتجد أن هناك فارقاً بين أدب تكتبه المرأة وأدب يتحدث عن المرأة، ففي الثانية يستطيع الرجال ممارسته، حتى أن الكثير من الرجال تناولوا قضايا المرأة العربية ومشكلاتها المجتمعية بطريقة أدبية جميلة، لكن ذلك وفق رأي الكاتبة لا ينصف المرأة. فلا أحد يستطيع أن يكتب عن المرأة مثل المرأة نفسها.
سجيّة نسائية
هشام مبيضين، شاعر أردني نبطي لديه تجارب في الشعر الفصيح، كما لديه ديوان شعري مطبوع ويتجهز الآن لإصدار ديوانه الجديد، يرى أن دور المرأة الأردنية في مجال الأدب عموماً محدود جداً مقارنةً بدول عربية أخرى، لكن هناك العديد من الكاتبات الأردنيات الشابات اليوم، وأن دور المرأة الأردنية في إدارة دور النشر أيضاً ضعيف والسبب أنها لا تمتلك خبرةً جيدةً في مجال الإدارة، وكذلك بفعل طبيعة المجتمع الأردني القائمة في تكوينها على النظام العشائري. في هذا يقول: "عموماً، طبيعة المرأة هي التي تفرض عليها هذا الدور، دور أن تتجه نحو الأدب، فالساحة الأدبية متاحة للجميع في الأردن، لكن تتغيب الكثير من النساء عن المشاركة فيها، فقد قدّمت المرأة الأردنية أعمالاً مهمةً في الرواية والشعر والكتابة، وتسلمت نسبة منهن إدارة شؤون بعض دور النشر، فانتخبت مثلاً رناد الخطيب رئيسةً لاتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين لدورتين متتاليتين في الأردن عام 2006، وهو توجه رائد حقاً".
كما يضيف مبيضين: "في العام 1996، أصدرتُ ديواني الشعري 'جلسة مضطربة'. في تلك السنوات كانت إدارة دور النشر حكراً على الرجال، وقلّما صدف أن سمعت بدار نشر تديرها امرأة، أما اليوم فالوضع مختلف ففي السنوات القليلة الفائتة نالت المرأة حصةً جيدةً في هذا المضمار خصوصاً في مصر ولبنان".
ويختم مبيضين: "ديواني الشعري الجديد الذي أعتزم نشره الآن، بين أيادٍ أمينة إذ أوكلت أمره إلى زميلة تتابع إعداده وتنسيقه وطباعته وأنا مرتاح في التعامل معها، فالعمل الأدبي هو سجية نسائية قبل أي شيء".
الأبطال الخارقون يستمرون في عاداتهم
منذ ستين عاماً وأكثر، استمرت المرأة العربية في تلك العادة، عادة أن تبقى قويةً لأنها باتت تدرك أن الأبطال الخارقين أصبحوا كذلك لاستمرارهم في عاداتهم.
سيدة الأعمال الجزائرية د. سميرة ڤنون، المديرة العامة لدار "ومضة الجزائرية للنشر والتوزيع والترجمة"، ومديرة "مجمع ومضة للأعمال Wamda business"، كغيرها من نساء عربيات واصلن عاداتهنّ حتى أصبحن على ما هنّ عليه الآن، ترى أن "هناك توجهاً كبيراً للمرأة العربية للانفتاح على مجالات عدة كانت في الماضي القريب حكراً على الرّجل، حيث أصبحت تدير مؤسسات منها دار النشر مثلاً، بحنكتها وقدرتها على إدارة العلاقات وإدارة الأزمات ضمن المؤسسة، خاصةً أن مجال النشر في الوطن العربي يشهد تغيّراً كبيراً مع دخول التقنية ومزاحمة الكتاب الرقمي للكتاب الورقي، ومزاحمة الأقلام لبعضها البعض في جميع التخصصات، إذ لم يعد التأليف حكراً على مجموعة ما".
ما زالت المرأة العربية أسيرة الموروث الشرعي المتمثل في أنها تأسست من ضلع أعوج، وعليه بات الحديث عن تقييمها وإصلاحها وإعادة تأهيلها ودمجها في مجتمعاتنا، ضرباً من ضروب الخيال وعامل كسر قد يطالها ويطال من حولها
وحول قدرة المرأة على الإدارة تتساءل فنون: "إذا كانت المرأة العربية قادرةً على إدارة بيتها بدءاً من زوجها وأطفالها وتحمّل أكبر مسؤولية وهبها الله إياها، فكيف لا تكون قادرة على تحمل مسؤولية الكتاب الذي يُعدّ أحد أبنائها المعنويين والذي يمنحها تجربةً استثنائيةً في عالمها؟".
كما لا تخفي ڤنون، رأيها حول إمكانية رفض نصوص أو أعمال مرسلة إلى الدار تخالف أي بند من البنود المتفق عليها ضمن القوانين، لهذا تقول: "هنا نطلب من الكاتب تعديل الفكرة مع الشرح، أو نرفض الكتاب إذا كانت فكرته تتنافى والقيم الإسلامية والإنسانية والعربية"، بما في ذلك ما يسيء إلى المرأة أو يحقّرها ودورها في المجتمع.
في النهاية هي معركة إراقة شعور بلا شعور
مع كل ذلك، ما زالت المرأة العربية أسيرة الموروث الشرعي المتمثل في أنها تأسست من ضلع أعوج، وعليه بات الحديث عن تقييمها وإصلاحها وإعادة تأهيلها ودمجها في مجتمعاتنا، ضرباً من ضروب الخيال وعامل كسر قد يطالها ويطال من حولها.
هذه السردية، وإن كانت تبدو عاديةً جداً وغير مثيرة للريبة، لكنها للأمانة تؤسس لقصور في تفسير فكرة عميقة في العقل الجمعي الذي على أساسه بُنيت القطيعة بين الرجل والمرأة، وكيلت في أغلبها ظلماً للشرع، وذلك عبر هواة من النساء والرجال على حد سواء ممن قرروا تفسيره على هواهم. لهذا صارت إلى ما صارت إليه.
وبرغم كل ذلك، في الوقت الذي يهوى الرجال فيه تأسيس مواقع إخبارية مختصة بالنزاعات السياسية والصراعات العسكرية وانهيار سلّات العملات، هناك توجه تقوده المرأة في شغل وإدارة دور نشر عربية بالدرجة الأولى، بغض النظر عن الهدف من وراء ذاك التوجه. وهذا الأمر يستطيع أن يلمسه أي صحافي أو كاتب على اتصال مباشر مع دور النشر، أو له علاقة بالكتب.
هذه السيطرة الأدبية -وإن كانت عفويةً وغير منظمة بشكل مدروس- يجدر بنا وصفها بأنها حركة حرّة قوية في عالمنا العربي اليوم، وأنها قد تكون حالةً صحّيةً وطبيعيةً في حال استطاعت المرأة أن تستغلها وتوجّهها في إعادة رسم علاقة طيبة مع شركائها في المجتمع من دون بذلها أي جهد آخر لتكون امرأةً. فقط عليها أن تكون امرأةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...