يعرف الباحثون العديد من النسخ القديمة التي وصلتنا من الكتاب المقدس. من أشهر تلك النسخ النص الماسوري المكتوب بالعبرانية، والترجوم المُترجم بالآرامية، والفولجاتا المدونة باللاتينية. تُعدّ الترجمة السبعينية -المعروفة باسم "السبتوجنت" Septuagint- والتي تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد واحدة من أشهر الترجمات القديمة للكتاب المقدس عند اليهود. ما هي قصة تلك الترجمة؟ وكيف نظر إليها اليهود والمسيحيون؟ ولماذا ارتبطت هذه الترجمة بالكثير من الأساطير والقصص الفلكلورية؟
ما قبل الترجمة السبعينية
عرف اليهود الكتب المقدسة منذ فترة مبكرة من تاريخهم. تذكر أسفار العهد القديم أن بني إسرائيل بعد أن خرجوا من مصر وصلوا إلى شبه جزيرة سيناء. هناك، صعد النبي موسى فوق جبل حوريب وتلقى التشريعات والوصايا الإلهية بشكل مكتوب على ألواح حجرية. بحسب ما ورد في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر الخروج: "ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء لوحَي الشهادة: لوحَي حجر مكتوبين باصبع الله". نزل موسى من الجبل فوجد اليهود وقد عبدوا العجل الذهبي. غضب عندها غضباً شديداً وألقى الألواح أرضاً. بعد فترة سيصعد موسى مرة أخرى ليتسلم نسخة جديدة من الألواح. وسيستنسخها الكهنة والحفاظ، بينما ستوضع الأحجار في تابوت العهد الذي سيُحفظ في هيكل سليمان.
الترجمة السبعينية قد تمت في الإسكندرية في ثمانينيات القرن الثالث قبل الميلاد. كان البطالمة اليونانيون يحكمون مصر في تلك الفترة، وكان الملك بطليموس فلاديلفيوس سوتير مهتماً
في 587 ق.م، سيجتاح البابليون أورشليم. وسيتم تدمير الهيكل المقدس، وسيُنهب ما فيه من كنوز وتحف ونفائس. بعدها، سيُقتاد اليهود إلى أرض العراق فيما اشتهر باسم السبي البابلي. وبعد خمسين سنة تسقط الإمبراطورية البابلية على يد الفرس الإخمينيين، وسيُسمح للمسبيين بالعودة مرة أخرى إلى أورشليم. ومع عودتهم سيتم جمع أسفار الشريعة وباقي الكتب اليهودية المقدسة على يد النبي عزرا.
بحسب الكتابات الأبوكريفية -غير القانونية- فإن كتابة عزرا لأسفار الشريعة قد تمت بواسطة معجزة إلهية، إذ ورد في السفر المسمى بـ"سفر عزرا الرابع"، أن عزرا –الذي اشتهر بلقب الكاتب نظراً لكتابته لأسفار الشريعة- قد ناشد الرب: "أرسل في روحك القدوس، فأكتب كل ما صُنع في العالم من البداية، كل ما كُتب في شريعتك، ليستطيع الناس أن يجدوا دربك، وينال الحياة من يرغبونها في نهاية الأزمنة"، فردّ عليه الربُّ وأمره أن يبتعد عن الشعب اليهودي لمدة أربعين يوماً، كما أمره أن يصطحب معه خمسة رجال "وفي اليوم التالي، دعاني الصوت وقال لي: يا عزرا، افتح فمك واشربْ ما أنا أسقيك. ففتحت فمي، فقُدمت لي كأس ملآنة. امتلأت بشيء كالماء، وكان لونها شبيهاً بالنار، فأخذت الكأس وشربت. وحين شربتُ، فجر قلبي للفهم، وانتفخ صدري بالحكمة، واحتفظ فكري بالذاكرة، فانفتح فمي وما عاد ينغلق، فأعطى العلي أيضاً الفهم للرجال الخمسة، فكتبوا ما كنت أقوله لهم بتنظيم بواسطة علامات ما كانوا يعرفونها".
منذ ذلك الوقت، أضحت الأسفار التي جمعها عزرا هي الأسفار المقدسة الوحيدة عند اليهود، وكانوا يحتفظون بها في الهيكل المقدس الذي أُعيد بناؤه مرة أخرى عقب الرجوع من السبي البابلي.
قصة الترجمة السبعينية
تُعدّ رسالة اريستياس -التي ترجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد- هي المصدر الرئيس لمعظم المعلومات التي نعرفها عن الترجمة السبعينية. توجد أيضاً بعض المصادر الثانوية التي تناولت تلك الترجمة، ومنها على سبيل المثال، كلّ من كتابات الفيلسوف اليهودي فيلو الإسكندري في القرن الأول الميلادي. وما ذكره المؤرخ اليهودي يوسفيوس في نهاية القرن الأول الميلادي في كتابه "عاديات اليهود".
بحسب ما ورد في تلك المصادر فإن الترجمة السبعينية قد تمت في الإسكندرية في ثمانينيات القرن الثالث قبل الميلاد. كان البطالمة اليونانيون يحكمون مصر في تلك الفترة، وكان الملك بطليموس فلاديلفيوس سوتير مهتماً بتأسيس مكتبته الضخمة التي احتوت على أهم المصنفات المعروفة في ذلك الزمن.
استحوذت الترجمة السبعينية على قدر كبير من الاهتمام في الثقافة الكتابية-اليهودية والمسيحية- منذ ظهرت إلى الوجود في القرن الثالث قبل الميلاد وحتى الآن.
بحسب القصة المشهورة فإن أمين المكتبة أخبر الملك البطلمي أن مكتبته العظيمة تخلو من نسخ الكتاب المقدس عند اليهود، ووصف للملك أهمية تلك الكتب وعظمتها. استجاب الملك لكلام أمين المكتبة، وأرسل إلى أليعازر رئيس كهنة أورشليم يطلب منه علماء يجيدون اللغة اليونانية والعبرية والآرامية للترجمة، وكذلك طلب منه نسخة من التوراة. بالفعل، رضخ أليعازر لطلب الملك البطلمي فأرسل بستة شيوخ من كل سبط من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر.
سافر اثنان وسبعون شيخاً من علماء اليهود إلى الإسكندرية، وحملوا معهم نسخة من الكتاب المقدس مكتوبة بحروف من ذهب على رقوق من الجلد. يُقال إن اثنين من الشيوخ قضوا نحبهم في الطريق. استقبل الملك السبعين شيخاً بحفاوة بالغة وأسكنهم في غرف متفرقة في القصر الذي بناه في جزيرة فاروس بالقرب من الإسكندرية. وأمرهم أن يترجموا أسفار موسى الخمسة -التكوين، والخروج، والعدد، واللاويين، والتثنية- إلى اللغة اليونانية. واشترط عليهم ألا يتواصل أي منهم مع الآخر طوال فترة الترجمة.
بعد اثنين وسبعين يوماً انتهى الشيوخ من الترجمة وعرضوها على بطليموس. فحص الملك التراجم وقارنها ببعضها بعضاً. ولمّا تأكد من تطابق جميع النسخ منح المترجمين جوائز ضخمة وأمر لهم بالأموال والهدايا. كما أطلق جميع الأسرى اليهود الموجودين في السجون المصرية، وأمر بصنع مائدة عظيمة من الذهب عليها صورة البلاد المصرية ونهر النيل ورصعها بالجواهر الثمينة ثم أرسل بها كهدية إلى الهيكل المقدس في فلسطين.
بين اليهود والمسيحيين والبحث التاريخي: الترجمة السبعينية في الميزان
استحوذت الترجمة السبعينية على قدر كبير من الاهتمام في الثقافة الكتابية -اليهودية والمسيحية- منذ ظهرت إلى الوجود في القرن الثالث قبل الميلاد وحتى الآن.
قبِل اليهود الترجمة السبعينية في بداية الأمر، ولكن تغير ذلك الموقف بالتزامن مع التوسع في حركة التبشير المسيحي في القرن الأول الميلادي. يشرح الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية" أسباب ذلك التغيير فيقول إن المسيحيين الذين كتبوا أناجيلهم باليونانية استفادوا كثيراً من بعض المفاهيم والتراكيب اللغوية الواردة في الترجمة السبعينية. وبنوا عليها بعض القصص والتفسيرات والنبوءات التي تؤكد على صدق يسوع.
في أواخر القرن الأول الميلادي قرر علماء اليهود وضع حدّ لذلك الأمر، فعقدوا مجمعاً في مدينة جامنيا بفلسطين، وعكفوا على فحص جميع الكتابات والأسفار التي تتسم بالطابع الديني. في نهاية المجمع استقر رأي الشيوخ على قبول الأسفار القانونية الأولى التي جمعها عزرا. وقرروا رفض جميع الأسفار اليونانية التي دونت من بعده. في السياق نفسه رفض شيوخ اليهود الترجمة السبعينية ليشككوا في شرعية النبوءات التي استخدمها المسيحيون في التبشير بيسوع.
يمكن فهم الموضوع بشكل أكثر وضوحاً من خلال التعرض لقصة سمعان الشيخ الواردة في الإصحاح الثاني من إنجيل لوقا. جاء في هذا الإصحاح: "وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورُشَلِيمَ اسْمُهُ سِمْعَانُ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ بَارًّا تَقِيًّا يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ أَنَّهُ لاَ يَرَى الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ الرَّبِّ. فَأَتَى بِالرُّوحِ إِلَى الْهَيْكَلِ. وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِالصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ، لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ النَّامُوسِ، أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ اللهَ وَقَالَ: "الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ. "وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ. وَبَارَكَهُمَا سِمْعَانُ".
لِفهمِ قصة سمعان وعلاقتها بالترجمة السبعينية ينبغي الرجوع لما جاء في السنكسار القبطي، وهو الكتاب الذي احتفظ فيه الأقباط بقصص القديسين والشهداء وآباء الكنيسة. جاء في السنكسار أن سمعان كان واحداً من السبعين شيخاً الذين ترجموا التوراة من العبرانية إلى اليونانية في الترجمة السبعينية. لمّا وصل سمعان إلى ترجمة قول اشعياء النبي: "هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً"، خشي أن يكتب "عذراء تحبل" فيهزأ به الملك بطليموس، فأراد أن يكتب كلمة "فتاة" عوض كلمة عذراء. فأعلن له الله في رؤيا أنه لا يرى الموت قبل أن يُري مسيح الرب المولود من العذراء. وعاش سمعان بعدها لمدة تقترب من ثلاثة قرون الثلاثة حتى ولد السيد المسيح. وكان سمعان عندها قد أصيب بالعمى، فلما حمل الصبي على ذراعيه "أبصر وأعلمه الروح القدس أن هذا هو الذي كنت تنتظره".
من هنا يمكن أن نفهم سبب رفض اليهود للترجمة السبعينية تزامناً مع انتشار المسيحية. كانت الآية الواردة في سفر أشعيا -بحسب النص العبراني- تقول إن: "هو ذا الفتاة تحبل وتلد ابناً". ولكنها تحولت في الترجمة السبعينية إلى أن العذراء تلد ابناً. وهو الأمر الذي استغله المسيحيون في تبشيرهم بالدين الجديد.
على الجانب المقابل، سنجد أن الكثير من آباء الكنيسة المسيحيين قد أكدوا مراراً على أهمية واعتبارية الترجمة السبعينية. ذهب هؤلاء أن الترجمة قد تمت بمعرفة الروح القدس نفسه. على سبيل المثال يقول القديس أوغسطينوس في كتابه "مدينة الله": "أنهم -أي الشيوخ- نجحوا في اختيار تعابيرهم بحيث كان التوافق بينهم رائعاً وعجيباً وإلهياً حقاً... ظهر تفسير الجميع موحداً لأن الروح القدس في الكل روح واحد وكانوا قد نالوا من الله تلك الهبة الرائعة لكي تأخذ سلطة الكتب المقدسة لا بصفتها عملاً بشرياً بل بصفتها عملاً إلهياً... لأن الروح القدس كان يعمل في الأنبياء وهو أيضاً مع مفسري ترجمة السبعون".
مشروع الترجمة السبعينية كان مشروعاً جماعياً تولد من حاجة المجتمع اليهودي المتحدث باليونانية إلى ترجمة العهد القديم من أجل التعاليم والعبادات. وبدون شك أنها تأسست على كتابات سابقة أو محاولات شفوية متعددة
في سياق آخر، إذا ما حاولنا تفسير ظهور الترجمة السبعينية بعيداً عن القصص الفلكلورية الشائعة في الثقافة المسيحية، سنجد أن لها مبررات وسياقات تاريخية مفهومة إلى حد بعيد. يتحدث بيشوي فخري في كتابه "الترجمة السبعينية للعهد القديم" عن أوضاع اليهود في مصر في القرن الثالث قبل الميلاد فيقول: "...وجاء بطليموس في العصر اليوناني بأعداد كبير منهم -أي اليهود- كأسرى فوصل عددهم إلى 100000 يهودي، واندمجوا في الحياة حتى نسوا العبرية وتكلموا باليونانية مثلما تكلموا بالآرامية نتيجة السبي. من هنا صار احتياج شديد لوجود نسخة من العهد القديم باللغة اليونانية لقراءتها خاصة للأجيال اليهودية الجديدة التي لم تتعلم العبرية".
تُكمل الدكتور سلوى ناظم توضيح تلك الفكرة في كتابها "الترجمة السبعينية للعهد القديم بين الواقع والأسطورة"، فتقول: مشروع الترجمة السبعينية كان مشروعاً جماعياً تولد من حاجة المجتمع اليهودي المتحدث باليونانية إلى ترجمة العهد القديم من أجل التعاليم والعبادات. وبدون شك أنها تأسست على كتابات سابقة أو محاولات شفوية متعددة، حيث أنه من المعروف أن هذا الكتاب المقدس السكندري أو "النسخ السبعينية"، لم تكن نسخة واحدة ولكن سلسلة من النسخ انتجت في فترات مختلفة وقام بالترجمة مترجمون مختلفون في الأفكار والمعتقدات واللغة. وظلت هذه المجهودات تتابع حتى تبلورت في تلك الترجمة اليونانية للعهد القديم".
وهكذا، استخدم المترجمون السكندريون لغة "الكوين" في الترجمة السبعينية، ومن المعروف أن الكوين كانت اللغة اليونانية السائدة المستخدمة في الفترة الهيلينية التي عاصرت الترجمة السبعينية. وكانت إحدى اللغات المنحدرة من لغات أثينا القديمة المسماة "أتيك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...