يقطع شادي أزقةً وطرقاً فرعيةً عدة بين أحياء إسطنبول، للوصول إلى مكان عمله في حي الفاتح، محاولاً الابتعاد عن أماكن تجمّع الشرطة التركية ونقاط التفتيش في الطرق الرئيسية وعند مفارق الشوارع والساحات العامة.
محاولات شادي تأتي بعد حملات الترحيل المكثفة التي بدأتها السلطات التركية بشكل ملاحظ منذ بداية الشهر الجاري، ضد المهاجرين غير الشرعيين، ومن ضمنهم اللاجئون السوريون المخالفون والموزعون بين الولايات التركية.
"كثيرة هي الليالي التي صرت أبيت فيها في مكان عملي تاركاً زوجتي وأطفالي في المنزل وحدهم"؛ يقول الشاب السوري (الذي طلب عدم ذكر اسمه كاملاً)، لرصيف22، معللاً السبب بأن "الشرطة تحيط بنا من كل مكان، ولا مجال للخطأ. إذا وقعت بين أيديهم فقد حكموا عليك بمفارقة عائلتك ورميك على معبر سوري لتمضي بقية حياتك في الشمال".
لم يستطع شادي خلال إقامته في إسطنبول، أن ينقل بطاقة حمايته المؤقتة (الكملك)، من ولاية إصدارها، أورفا، إلى إسطنبول، بسبب امتناع ربّ العمل عن منحه إذن عمل يسمح له بالانتقال وهو ما دفعه للعيش مخالفاً في المدينة ساعياً وراء لقمة عيشه.
في دراسة نشرتها الأمم المتحدة، 82% من المواطنين الأتراك يرون ضرورة إعادة السوريين إلى بلادهم
يشير الشاب ذو الـ28 عاماً، إلى أن "السوريين الموجودين اليوم في المدينة حتى من يملكون 'كملك' ولاية إسطنبول نفسها باتوا يعتمدون كلياً على مجموعات الواتساب التي تضم سوريين يكشفون الطرق والممرات والساحات التي تتمركز فيها نقاط التفتيش، برغم عدم فائدتها بشكل كبير بسبب انتشار عناصر البوليس باللباس المدني ومرورهم في الأزقة والحارات ومداهمتهم أماكن العمل والمعامل والسكن".
ارتفاع وتيرة الترحيل
منذ أسابيع عدة تتصاعد عمليات ترحيل اللاجئين السوريين من الولايات التركية إلى الشمال السوري، فيما بلغت الحملة أوجها منذ بداية الشهر الجاري بالتزامن مع تصريح وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا، بأن تركيا تكافح المهاجرين الأجانب غير النظاميين، وأنه "أصدر تعليماتٍ لملاحقة المهاجرين غير النظاميين في عموم تركيا، وأن أعدادهم ستنخفض بشكل ملحوظ خلال 4 أو 5 أشهر".
ويمثّل السوريون العدد الأكبر من اللاجئين على الأراضي التركية، إذ يقيم ثلاثة ملايين وأكثر من 395 ألف لاجئ سوري خاضعين لنظام "الحماية المؤقتة"، وفق آخر تحديث لإحصائية المديرية العامة لرئاسة الهجرة التركية.
وتستهدف الحملة التي تشمل جميع الولايات التركية المهاجرين الأجانب الذين يعيشون في الولايات التركية بطرق غير قانونية، أو الذين يعملون فيها دون تصريح رسمي، خاصةً اللاجئين السوريين الذين يخضعون لنظام الحماية المؤقتة لكنهم مسجلون في ولايات أخرى، مع التركيز على إسطنبول كونها أهم مركز أو محطة تجمّع للمهاجرين من مختلف الجنسيات، حيث يُحوّل المخالف إلى إدارة الهجرة لترحيله إلى دولته الأصلية.
وبحسب إحصائيات وزارة الداخلية أيضاً، يوجد حاليًاً مليون و206 آلاف و153 أجنبيّاً في إسطنبول وحدها، منهم 670 ألفاً و988 أجنبيّاً يحملون تصريح إقامة، و531 ألفاً و381 مواطناً سوريّاً يخضعون لنظام الحماية المؤقتة، بما في ذلك 3 آلاف و784 من المتقدمين للحصول على الحماية الدولية.
وتواجه تركيا انتقادات واسعةً في ما يتعلق بإجراءات ترحيل الأجانب، إذ يشير المرصد السوري لحقوق الإنسان، إلى أن السلطات التركية وبذرائع كثيرة تقوم بترحيل ما بين 50 إلى 100 لاجئ سوري يومياً من داخل أراضيها باتجاه مناطق الشمال السوري الخاضعة لإدارة المعارضة السورية عبر المعابر الفاصلة بين الجانبين السوري والتركي، ومن بين هؤلاء اللاجئين نساء وأطفال وشبّان أوراقهم نظامية ويحملون بطاقة الحماية المؤقتة (الكملك).
الكاتب والمحلل التركي عبد الله سليمان أوغلو، يرى أن "الحملة كانت كبيرةً وموجودةً سابقاً في إسطنبول واستمرت لكن بوتيرة أكبر وأسرع بعد تسلّم والي إسطنبول علي يرلي كايا، وزارة الداخلية، والذي عمل على تكثيف الدوريات والتدقيق على الهويات وجوازات السفر والوثائق"، لافتاً في حديثه لرصيف22، إلى أنه "أحياناً تتم إساءة استخدام السلطة من قبل أفراد الأمن، فحتى لو كانت كل أوراق اللاجئ نظاميةً، يتم احتجازه وإطلاق سراحه في ما بعد، أو يتم ترحيله ظلماً وعدواناً بشكل عشوائي دون وجود ضوابط معينة ودون الأخذ بعين الاعتبار بعض خصوصيات الناس ووضعهم الصحي ووضع أسرهم وأملاكهم في تركيا".
توقّع كثير من السوريين في تركيا أن فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية في أيار/ مايو الفائت، سيضع حداً لتهديدات المعارضة بترحيلهم وإعادة علاقاتها مع نظام الأسد، برغم تعهّد الرئيس التركي آنذاك بالعمل أيضاً على تقليص عدد اللاجئين في تركيا.
التعهد لم يعبأ به السوريون ظنّاً منهم بأنه ورقة انتخابية يريد الرئيس التركي سحبها من يد المعارضة التركية، وكان ملف إعادة اللاجئين أبرز ما تُركّز عليه، لتسود حالة من الإحباط بين أوساط اللاجئين، بعد فترة من التفاؤل بانتهاء التضييق عليهم.
يرى أوغلو في حديثه، أن الحملات الانتخابية قبل الانتخابات الرئاسية والنيابية كانت مركزةً على موضوع إعادة اللاجئين قسراً أو طوعاً، ونتيجة الحملات الإعلامية وخطاب العنصرية والكراهية التي اتبعتها بعض أحزاب المعارضة والشخصيات المعارضة ولّدت ردّات فعل لدى الشارع التركي وأصبح هناك تذمر وامتعاض من وجود السوريين، خاصةً في المدن الكبرى، مضيفاً أن أي حالة فردية يقوم بها لاجئ سوري كان يتم تضخيمها على الإعلام حتى أدى ذلك إلى بعض حوادث القتل والضرر الجسدي بحق سوريين.
الشرطة تحيط بنا من كل مكان، ولا مجال للخطأ. إذا وقعت بين أيديهم فقد حكموا عليك بمفارقة عائلتك ورميك على معبر سوري لتمضي بقية حياتك في الشمال
وتؤكد ذلك دراسة نشرتها الأمم المتحدة، في تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، تشير إلى أن 82% من المواطنين الأتراك يرون ضرورة إعادة السوريين إلى بلادهم.
ويبدو أن الحملة ستستمر لغاية نهاية شهر آذار/ مارس القادم 2024، حين انتهاء الانتخابات البلدية القادمة، فبحسب أوغلو "الحكومة والمعارضة تعولان على الفوز بأكبر عدد ممكن من البلديات ومجالس المدن، خاصةً أنقرة وإسطنبول اللتين خسرتهما الحكومة لصالح المعارضة في الانتخابات السابقة".
مناطق غير آمنة
لم تكتمل فرحة سليم نصار، بعد فوز الرئيس التركي أردوغان في انتخاباته الأخيرة أمام منافسه كمال كليجدار أوغلو، الذي أغرق أنصاره شوارع الولايات آنذاك بلافتات عنصرية تجاه السوريين تدعو إلى ترحيلهم.
يقول نصار (45 عاماً)، الذي يعمل في معمل خياطة في إسطنبول: "لا فرق بين المعارضة وحكومة أردوغان. كلاهما ينتهجان النهج نفسه في ترحيل السوريين إلى مناطق غير آمنة"، متسائلاً عن الفرق بين المعارضة التي كانت تريد تسليم اللاجئين إلى حكومة النظام أو حكومة أردوغان التي تسلّم اللاجئين إلى مناطق يستهدفها النظام، فالموت واحد.
وعاد نصار قبل أسبوع إلى مكان إصدار بطاقة حمايته المؤقتة في عينتاب، خوفاً من ترحيله كونه يقيم مخالفاً دون إذن سفر أو عمل في إسطنبول، متحملاً خسائر ماديةً فادحةً، إذ توقف عن العمل وتوجّه إلى بيت أقربائه في عينتاب مع استمراره في دفع أجرة بيته في إسطنبول.
ويشير إلى أنه لم يستطع إخراج إذن سفر، إذ يقتصر الإذن على الأسر التي تضررت منازلها جراء الزلزال تضرراً كلياً، وبناءً على ذلك قرر الفرار من إسطنبول إلى حين هدوء حملة الترحيل.
ويخشى نصار الذي ترك زوجته الحامل وطفلته الوحيدة في بيته في إسطنبول من أن تطول الحملة والتي تؤثر بشكل كبير على المتضررين من الزلزال الذين يعيشون في غير ولاياتهم، ويواجهون صعوبات في التنقل والاستقرار من جهة، وصعوبات مادية أخرى بعد خسارتهم أرزاقهم وعملهم بعد زلزال شباط/ فبراير، ويقول: "هذا هو قدر السوري، من الزلزال إلى الترحيل إلى الشمال السوري الذي يعيش قاطنوه أصلاً على إحسان المنظمات، هذا إن بقيتَ على قيد الحياة ولم تكن هدفاً لقذائف النظام وطيران روسيا ومفخخات قسد".
في تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، وثَّقت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، في تقرير لها حالاتٍ لمئات السوريين الذين أعادتهم السلطات التركية قسرياً بين شباط/ فبراير وتموز/ يوليو 2022، بعد احتجازهم وضربهم وإجبارهم على توقيع استمارات العودة الطوعية، مؤكدةً أن سوريا بكامل جغرافيتها ما تزال غير آمنة للعودة.
يقول طه الغازي، وهو ناشط حقوقي مهتم بقضايا اللاجئين في تركيا، لرصيف22، إن "هناك تمايزاً وفرقاً بين الوجود السوري في تركيا ووجود باقي الجنسيات من أفارقة وأفغان وغيرهم، فالمجتمع السوري موجود في تركيا نتيجة حالة حرب في بلاده عكس الحالة الباكستانية أو الأفغانية أو غيرهما".
وثَّقت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، في تقرير لها حالاتٍ لمئات السوريين الذين أعادتهم السلطات التركية قسرياً
ويُعدّ غياب التوصيف القانوني للإنسان السوري، من أهم أسباب وضعهم القانوني المعقّد في تركيا، لأنه لا يُعدّ لاجئاً، بل يندرج تحت مسمّى الضيف، ما يجعل نظام الحماية المؤقتة للسوري هشاً وخاضعاً للتجاذبات السياسية والقانونية.
وتزامن ترحيل قرابة 130 سورياً بشكل جماعي من مركز الإيواء المؤقت (Elbeyli)، في كلس التركية، في 25 حزيران/ يونيو الفائت، مع تعرض منطقة جسر الشغور في ريف إدلب قبل يوم من الترحيل لقصف عنيف من سلاح الطيران الروسي أدى إلى مقتل 11 مدنياً، فيما شهدت قاعدة عسكرية تركية في مركز البحوث في أعزاز في ريف حلب خلال الشهر الجاري، قصفاً عنيفاً من قبل ميليشيا قسد المتمركزة في مدينة تل رفعت، ما ينفي مزاعم الحكومة التركية بأن المنطقة آمنة.
عشوائية الترحيل وقانونية اللجوء
يرى الباحث أوغلو، أن "الحزب الحاكم وعد في حملته الانتخابية الماضية بإعادة مليون سوري بشكل طوعي إلى سوريا، وبناء مساكن في 13 موقعاً بدعم قطري وإماراتي، وتالياً هو ينفّذ هذه الوعود، لكن دون وجود خطة واضحة، لأن هناك عشوائيةً في الترحيل، كما أن المساكن التي وعد بإنجازها في الشمال السوري غير جاهزة أصلاً، والشمال السوري ينوء بأعداد كبيرة ولا يستطيع تحمل هذه الكتل البشرية الكبيرة، فضلاً عن أن هناك مشكلةً في السكن والمخيمات وضائقةً اقتصاديةً في المعيشة ونقصاً في تمويل المنظمات العاملة هناك، تضاف إليها مشكلة تمديد إدخال المساعدات الدولية عبر معبر باب الهوى الحدودي".
في المقابل، يؤكد الغازي، أن "اللاجئ السوري الموجود في تركيا لا يُعدّ مخالفاً حتى لو لم يملك بطاقة الحماية المؤقتة، إذ له الحق في اللجوء لأن الوضع في سوريا غير آمن". فبحسب الغازي هناك قانون أقرّته رئاسة الهجرة بالتنسيق مع وزارة الداخلية في 6 حزيران/ يونيو 2022، ينظّم واقع اللاجئين السوريين الموقوفين في مراكز الترحيل أو مراكز الإيواء والذين لا يملكون بطاقات حماية مؤقتة، وهذا القانون كان قائماً على الفقرة الثالثة من المادة الثامنة والتي نصّت على أنه يتم النظر في وضع كل السوريين الموجودين في مراكز الترحيل والذين لا يملكون وثائق الحماية المؤقتة، ويتم تقييم أوضاعهم من حيث الحالة الاجتماعية والصحية ويتم منحهم 'كملك' بناءً على ذلك".
وكانت تركيا قد وقّعت في عام 1951 على اتفاقية جنيف، وبروتوكولها الاختياري 1967، بشروط زمنية وجغرافية تمنح بمقتضاها حق اللجوء للقادمين من الدول الأوروبية فقط، أما القادمون من غيرها فيتم منحهم الحماية المؤقتة، وهو ما انطبق على السوريين، وفي هاتين الاتفاقيتين يوجد مبدأ أساسي في ميدان حقوق اللجوء وهو عدم الإعادة القسرية خاصةً في حال وجود خطر على حياة اللاجئ أو أسرته.
يتابع الغازي: "حتى لو افترضنا أن السوري في تركيا غير موجود أساساً ضمن قائمة اللجوء بصفة قانونية، باعتبار أن تركيا عند توقيعها الاتفاقيتين أضافت شرطاً جغرافياً اعتبرت فيه القادمين من أوروبا فقط هم من يمكن منحهم صفة لجوء، لكن مع ذلك لا بد من الإشارة إلى أمر مهم، وهو أن نظام الحماية المؤقتة هو نظام قائم على المادة 91 من قانون الأجانب والحماية الدولية، وقد أعطى ميزات حقوقيةً للإنسان السوري في تركيا برغم أنه لم يعطِه صفة اللجوء، وأهم هذه الميزات عدم الإعادة القسرية مهما كانت الأسباب".
عملية الترحيل مستمرة، وهي جزء من حملة انتخابية دعائية مسبقة تتبعها الحكومة في سبيل كسب صوت الناخب التركي في انتخابات البلدية
لطالما كان ملف اللاجئين السوريين في تركيا على مر السنوات الماضية، في ميدان الأهداف السياسية، فالمعارضة التركية استخدمت الملف ضد الحكومة التركية كأداة سياسية، والحكومة التركية استخدمت هذا الملف ضد الاتحاد الأوروبي في موضوع الحزم المالية، كما أن التحالف الحاكم بات من الآن يبحث عن دعاية انتخابية من أجل استعادة استلام زمام السلطة في بلديات مهمة كأنقرة وإسطنبول بعد أن خسر انتخابات البلديتَين في العام 2019، لصالح المعارضة، وهو ما أثّر على التصويت لصالح أردوغان وحسمه معركته الانتخابية من الجولة الأولى.
وينبّه الغازي إلى أن عملية الترحيل مستمرة، وهي جزء من حملة انتخابية دعائية مسبقة تتبعها الحكومة من أجل إظهار طابع السعي إلى إعادة اللاجئين إلى بلادهم في سبيل كسب صوت الناخب التركي في انتخابات البلدية المزمع إجراؤها في آذار/ مارس القادم، فضلاً عن محاولات الحكومة في الحد من الضغوط التي تواجهها على الصعيد الاقتصادي والتي تتسبب بها أعداد المهاجرين الكبيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.