"راسك كبير من صغرك"، جملة أسمعها مع كل موقف خاطئ لا أسكت عنه، جملة حفرت الكثير داخل رأسي وعزّزت معالمَ الذل أمامي، رأيتها في الطفل الذي ينام على الشارع، وفي الرجل الذي يحمل صناديق الخضار والفواكه الثقيلة على ظهره في سوق الهال، رأيتها أمام الفرن الآلي صباحاً عندما يتم بيع الخبز، وعند مراكز بيع الغاز، وفي المؤسّسات، وأمام وسائل النقل، وجدتها في كل زاوية أنظر إليها في هذا البلد، ربما أصبحتْ طبيعية في مكان ليس طبيعياً.
ذكرى سيئة ما تزال تراودني، أخبرتني عنها أمي في لحظة حزن، عندما كانت تعيش مع جدتي وقرّرت حرمانها من الطعام لأنها لا تنفّذ أوامرها، وطلبت من جيرانها الذين لديهم محال وأبقار، عدم بيع الحليب لأمي فقط لأنها حامل بطفلة أنثى، عرفت حينها أنّ جدتي قوية وأنّ أمي تعرّضت للذلّ، وبأنني أكره كل ما حصل وأ"كره جدتي". أحاول التخلّص من هذه الأفكار التي نتوارثها، أجاهدُ للبحث عن نفسي في تلك الزوايا التي ترى ضوء الحرية والحياة.
الذلّ بطعميك خبز
تقول أمي: "الواحد فينا عم يسكت حتى ما يتقلّع، هون القوي بياكل الضعيف"، جملة كرّرتها مراراً على مسمعي، فهي تنتقد أي شيء لا يعجبها، وتراني خاطئة في أي قرار قد يزيدُ من كبريائي وثورتِي، لكنني لا أريد أن أكون ضعيفة حتى وأنا لا أملك مقوّمات القوة في هذا البلد، أريد أن أتمرّد على العادات والتقاليد وهذه القوانين التي تتحكّم في الهواء وطريقة تنفّسنا له، فكلّ شخص يتلفّظ بكلمة ولو خطأ سيفقد شيئاً مثل عمله، طعامه، حريته وأرضه، لكني لا أجد أنني أتمسّك بشيء من هذا، لا شيء يستحق سوى أنّنا نعيش هنا كل يوم على أمل ألا يأتي الغد.
قررت جدتي حرمان أمي من الطعام لأنها لا تنفّذ أوامرها، وطلبت من جيرانها الذين لديهم محال وأبقار، عدم بيع الحليب لأمي فقط لأنها حامل بطفلة أنثى.تقول أمي: "الواحد فينا عم يسكت حتى ما يتقلّع، هون القوي بياكل الضعيف"
أعرف الكثير من النساء اللواتي يصمتن عن حقوقهن خوفاً من النوم جوعاً، وتخبرني صديقتي التي تعمل ليلاً نهاراً من أجل راتب لا يكفي بضعة أيام، عن كرهها لمديرها الذي يكلفها بمهام ليست تخصّها، ولكنه يوفّر عن نفسه دفع المال والبحث عن موظف جديد لتنفيذ المهام، فالمدير في الشركات يرى في الموظف عبداً صامتاً، لا يجب أن يتضوّر جوعاً أو يمرض حتى، بل عليه أن يكون كالآلة، مع اختلاف أنّ الآلة ستتعطل وهو لا، هكذا ينظرون إلينا نحن الذين نُعتبرُ أقلّ منهم مادياً ونفوذاً، ورغم هذا كلّه يعتبرون إذلالك أمراً واجباً كالفروض التي يؤمنون بها.
اعتيادنا على قول "حاضر" لا يعني قبولهم بالأمر
مديري في العمل يحبّ الموظفة الأخرى ويفضّلها علي؛ لأنها تقول "حاضر" دائماً على كل شيء، لكنها تخبرني سراً بأنها لا تستطيع أن ترفض فهي لا تحبّ المشاكل ولا توريد التورّط مع لسانه وعصبيته التي يلقيها، ولكنه يلقيها علي فقط لأنني لا أقول "حاضر"، يخبرُ الجميع عن وقاحتي، يدور بين الأقسام ليقول لهم "أنا لا أريدها"، لكنه لا يجرؤ على قولها لي.
أبحث عن سبب لكرهِه لي، عن رغبته بطردي دائماً، أحاول أن أسأله: ما العلّة بي؟ لكنه يبقى صامتاً، لا يجيب سوى بجملة: "لدي مشكلةٌ مع عقلك"، ما بهِ عقلي؟ ولماذا دائماً عقلي يجذب المشاكل؟ هل فعلاً عقلي مشكلة تجعل المدير يتجنبني؟ أسئلةٌ كثيرة تجبرني أن أدور في متاهة الانصياع والأوامر، وأعود لكلمة واحدة قالتها صديقتي: "لا تعملي مشاكل، قلّيلو حاضر وبس، ما في داعي للمشاكل مشان ما تخسري شغلك".
تدور حولي غمامة المشاكل لكنني أحاول الابتعاد عنها دائماً، تلاحقني في كل مكان، لا أحبّها كما يراني الكثيرون من أصدقائي وعائلتي، لكنني لم أخلق لأقول "حاضر" فقط، أليس لديّ لسان، رأي؟ وهل خلقتُ للانصياع فقط، ولأقول "نعم" لأبي وزوجي ومديري وسائِق التكسي؟
يقول لي صديقي: "لسانك طويل وبدو قصّ"، وأمي توبّخني على سرعة غضبي، والمجتمع ينتظر مني أن أكون الفتاة اللطيفة التي يجب أن تقول "حاضر" على كل شيء، مع ابتسامة خفيفة ونظرات تلتصق بالأرض
يقول لي صديقي: "لسانك طويل وبدو قصّ"، وأمي توبّخني على سرعة غضبي، والمجتمع ينتظر مني أن أكون الفتاة اللطيفة التي يجب أن تقول "حاضر" على كل شيء، مع ابتسامة خفيفة ونظرات تلتصق بالأرض، ومدير العمل يطردني لأنه لا يراني كما يريد أن أكون، موظفة مطيعة لا تقول "لا" على أي طلب، حتى لو كان يريدُ ممارسة الجنس معي عليّ أن أقول "حاضر"، فالرفضُ مقبرةٌ لي ولأحلامِي، فعندما أرفض تنبذنِي عائلتي ومديري والمجتمع ومرآتي.
صورة على هيئة عقولهم
لا نرى أي شخص كما هو، فنحن نرسمه وننحته كما نريد في عقولنا، ونحاول جاهدين تغييره وقولبته ليناسبنا، وحتماً نجد العلامات النمطية التقليدية هي الرائجة والرائعة والتي تعتبر مثالية في العمل والمنزل والشارع. لا أريد أن أكون صورة نمطية محدودة في فكر أحد، ولا أريد أن أقول "نعم" موافقة فقط لأن الجميع يريد ذلك. أواجه نفسي دائماً بسؤال يوقعني في فخ الوهم والتردّد والاعتذارات، هل أنا على حق والجميع خاطئ، أم أنّني الخطأ الوحيد في هذا العالم الذي لا يستطيع أن يسكت عن تخطي حدود كرامته، وهل بقيت لنا كرامة هنا؟
ليس لديّ جواب عن أي موقف عشته في عملي، فكل مواقفي كانت تحدّياً أمام الخسارة، خسارة العمل تعني خسارة المال، وخسارة المال هنا تعني الموت البطيء، أأريدُ أن أموتَ هنا حقاً؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...