شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
خزّان الحكمة والذكاء وحتى

خزّان الحكمة والذكاء وحتى "العنصرية"... الأمثلة الشعبية التونسية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتاريخ

الأحد 23 يوليو 202301:03 م

تحتل الأمثلة الشعبية مكانةً مهمةً لدى الشعب التونسي، ولدى سائر الشعوب في العالم، ولعل هذه الأهمية مكتسبة من الحِكَم التي يتضمنها المثل، والتي تقدَّم في شكل كلمات مقتضبة تتضمن سجعاً وهي خفيفة في النطق والحفظ وقابلة للانتشار بسرعة.

إن هجر التونسيون العديد من العادات والتقاليد القديمة، فإن ترديد بعض الأمثال الشعبية واستحضارها لدى كل موقف يؤكد أن هذا التراث الشفوي اللا مادي أبى الاندثار وفرض نفسه على كل الأجيال، وفي صفوف جميع شرائح المجتمع وقد اكتسب ديمومته من حاجة المجتمع إلى نتائج تجارب السابقين الذين لخصوا ما عايشوه في مواعظ وحكم عفوية لا تخلو من فكاهة وطرافة.

هذه الحكم المترجمة في شكل أقوال شعبية، لم تتمكن من الحفاظ على بيئتها وكلماتها الأصلية، وذلك بسبب انتشارها في العديد من المناطق إذ تضفي كل جهة خصوصياتها على المثل الشعبي، سواء عبر اللهجة أو عبر إضافة أو حذف مصطلحات لكن المعنى العام للمقولة الشعبية محفوظ ومعلوم لدى الجميع.

المثل الشعبي... صالح لكل مكان وزمان

يرى صالح فالحي وهو محافظ مستشار للتراث في المعهد الوطني للتراث، أن أهمية المثل الشعبي وقوته تتمثلان في ديمومته وصلاحيته لكل مكان وزمان، واختزاله حكايات وتجارب سابقةً مبيّناً أن العبرة من الأحاجي والحكايات والأمثلة الشعبية هي تقديم درس في صالح المجتمع، وتالياً حافظت الأمثلة الشعبية على قيمتها بسبب حاجة المجتمع إليها كونها حاملةً لرسالة ذات قيمة معنوية ورمزية لها تأثير على الإنسان كإنسان وعلى حياته اليومية.

وبيّن الفالحي في حديثه إلى رصيف22، أن أغلب الأمثلة الشعبية يصعب تحديدها بزمن، فمثلاً الأمثلة المتعلقة بجحا، وهي الشخصية التي حيّرت العالم لا يمكن تحديد زمنها، ويمكن أن تكون غير موجودة من أساسه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المكان، فمعظم الأمثلة مجهولة المصدر ولا يمكن التعرف على المنطقة التي صدر منها المثل الشعبي إلّا بإضافة اسم الجهة أو حدث معيّن على غرار المثل الذي يقول "ماجا الفزع من فريقا كان الغبر اتخذو"، مضيفاً: "الغبر نسبة للقب الغابري، وهي قبيلة متواجدة في مدينة المكناسي التابعة لمحافظة سيدي بوزيد، ذهب رجالها للحصاد في منطقة بعيدة يقال لها 'فريقا'، وعندما أغارت عليهم قبيلة أخرى واستنجد بهم أهاليهم، برز هذا المثل. أما المثل الذي يقول 'داهم على جبل بقادومة' فلا يمكن فيه تحديد لا المكان ولا الزمان وهو مثل يختزل فقط صعوبة الحياة".

هجر التونسيون العديد من العادات لكن ترديد بعض الأمثال الشعبية واستحضارها يؤكد أن هذا التراث الشفوي اللّا مادي يأبى الاندثار 

يشير المتحدث إلى أن ميزة الأمثلة الشعبية تكمن في سرعة انتشارها ووصولها إلى المتلقي بطريقة مفهومة وسلسة تخوّل له استخلاص الموعظة فالمثل الذي يقول "اخْدَم بصوردي (عُملة قديمة) وحاسب البَطَّال"، يُبرز قيمة العمل ويثمنها بطريقة مختلفة وهو أنجع من درس أو محاضرة في أهمية العمل، لافتاً إلى أن الهدف الأساسي للإنسان هو كيفية تحويل التراث القولي الشفهي إلى أداة للتربية، وذلك عبر تحويل مثل شعبي على غرار "كل من تجرحو يعاديك إلا الأرض تجرحها تعطيك"، إلى رسم فني أو حكاية توظَّف لخدمة المجتمع والتشجيع على العمل ويفهمها الكبير وكذلك الطفل الصغير في المدرسة.

كما لفت إلى أن الأمثلة الشعبية استعملت في الأغاني الريفية الشعبية كصور شعرية وأبيات شعر وكان لديها وقع كبير على المتلقي على غرار الأغنية الشعبية التي استُعمل فيها مثل "كتيت ما كت الجمل في البورة طوال مرجعه وصعبت عليه الدورة".

وقد أشار صالح فالحي إلى أن الكاتب رضوان عبادي، أصدر مدوّنةً تحتوي على أكثر من 3،000 مثل شعبي جمع فيها كل الأمثلة التونسية تقريباً، ما عدا 50 مثلاً جريئاً رفض إدراجها من بينها "العاهرة تتباهى بالشرف"، لكن المختصين في التراث والتاريخ أجمعوا على ضرورة الإبقاء على هذه الأمثلة كونها جزءاً من ذاكرة الشعب.

ميزة الأمثلة الشعبية تكمن في سرعة انتشارها ووصولها إلى المتلقي بطريقة مفهومة وسلسة تخوّل له استخلاص الموعظة

أما بالنسبة إلى الأمثلة العنصرية التي تنتقص من قيمة الفرد على أساس لونه أو عرقه، فقد أكّد صالح فالحي أن التراث الثقافي المادي يُعرّف في "اليونسكو" على أنه إنساني وإذا ما احتوى على استنقاص للأشخاص أو استخفاف يمس من كرامة الإنسان وحقوقه، فإنه لا يعدّ تراثاً، ولا يندرج في خانة الموروث الشعبي، عادّاً أن المثل الذي يقول "تحب تعلم ولدك الكلام حطو عند قهواجي ولا حجّام"، فيه تقزيم لبعض الحرف التونسية المهمة في المجتمع.

الأمثلة الشعبية التونسية وإشكالية العنصرية

يمكن تبويب الأمثلة الشعبية التونسية في أبواب عدة وفقاً لدلالاتها ومعانيها، فهي تتراوح بين التثمين والتحذير والتشجيع، لكن البعض الآخر يحمل طابعاً عنصرياً لا يتطابق مع القيم الإنسانية، لذلك يتفادى الناس اليوم استعمالها مع أنها شائعة ومعروفة على غرار المثل الذي يقول "دار عليا زماني وحتى مالوصيف (ذو البشرة السمراء) يرمي عْليَّا في المعاني"، وكذلك "الوحلة في الكحلة (صاحبة البشرة السمراء) أما البيضة خذات (تزوجت) راجل".

كما تسخر بعض الأمثلة الشعبية الأخرى من المرأة وتحطّ من شأنها، ونذكر منها "بو البنات ما يبات متهني"، وكذلك "البنت والخادم رايهم عادم"، وللتقليل من شأن المرأة يتم استعمال هذه الأمثلة والعمل بها في بعض المناطق على الرغم من المكانة المهمة التي تحتلّها المرأة التونسية.

الكاتب رضوان عبادي، أصدر مدوّنةً تحتوي على أكثر من 3،000 مثل شعبي جمع فيها كل الأمثلة التونسية تقريباً، ما عدا 50 مثلاً جريئاً

بدوره ظُلم الرجل التونسي في العديد من المقولات الشعبية، فاتُّهم في البعض منها بالخيانة على غرار المثل الذي يقول "الرجال والزمان مفيهمش أمان"، و"الي تكثر فلوسو بين ايديه تخياب مرتو في عينيه"، كما حطّت بعض الأمثلة الأخرى من قيمته ومن بينها "الراجل عيبو جيبو".

ولئن حملت بعض المقولات الشعبية معاني سيئةً تشجع على العنصرية ولا تتلاءم مع حقوق الإنسان اليوم، فإن أغلب الأمثلة الأخرى تشجع على القيم الفضلى وتعكس أفكار وأخلاق شعب عريق نذكر من بينها "يوفى مال الجدّين وما تبقى كان صنعة اليدين"، وهو مثل يشجع على اكتساب مهارة في حرفة معيّنة، و"كُلْ ما حضر والبس ما ستر"، وهو مثلٌ يشجّع على القناعة، و"يد واحدة ما تصفقّش" ويشجع على أهمية التعاون والتضامن.

الأمثلة الشعبية... أرضية خصبة للكتّاب والمؤلفين

كرّس العديد من الكتّاب والنقاد وقتاً طويلاً لتجميع الأمثلة الشعبية وتحليلها وتصنيفها، بهدف حفظ الموروث اللا مادي من النسيان ومعه الذاكرة الشعبية، وكذلك إيلاء هذه الأمثلة التي تُعدّ عصارة تجربة من سبقونا، الأهمية اللازمة وحفظها في كتب ومدوّنات تطّلع عليها جميع الأجيال وتتّعظ منها.

رأى الكاتب حسن نصر، في كتابه "مختارات جديدة من الأمثال والأقوال العامية التونسية"، أن الاهتمام بالأمثال والأقوال الشعبية وما يراد من وراء جمعها والعناية بها، هو لأنها "الكنز الثمين الذي يحفظ لنا الذاكرة الجماعية التي تراكمت عطاءاتها عبر الزمن وانصهرت مع الأحداث التي تعترض الأفراد في حياتهم اليومية، وهي تقدّم ثورةً توضيحيةً لما يجري في الحياة من أحداث".

كما رأى أن "الأمثال تستلهم مقولاتها وموضوعاتها من وقائع وتفاصيل حياة الناس وما فيها من تشابك في المصالح وما ينتج عن ذلك من تقارب وتباعد وتصالح وتخاصم، فيأتي الإنسان الحكيم العاقل ليقدّم لنا خلاصة ما يجري في كلمات ولمحات ذكية موجزة ليجعل هذه الحياة أكثر خفةً وسهولةً".

الأمثال تستلهم مقولاتها وموضوعاتها من وقائع وتفاصيل حياة الناس وما فيها من تشابك في المصالح وما ينتج عن ذلك من تقارب وتباعد وتصالح وتخاصم

يرى نصر أن كل كتاب يتعلق بجمع الأمثلة الشعبية يقدّم إضافةً ويسدّ ثغرةً حتى يحقق النفع المرجو منه، عادّاً أن كلّ من كتب عن الأقوال الشعبية ساهم في إنعاش الذاكرة لأن الأمثال الشعبية التونسية من التراث اللا مادي الذي يجب الحفاظ عليه وتعهده حتى لا يمحى ولا يتلاشى كما لاحظ أن قصر تركيبة الأمثال العامية الجديدة مقارنةً بالقديمة التي فيها بعض الإطالة وتستلزم حفظاً، يدل على طبيعة إنسان اليوم الذي صقل عصر السرعة طبيعة تعامله مع الذاكرة الشعبية وفق قوله.

أما الكاتب الطاهر الرزقي، فقد رأى في تحقيقه وتعليقه في كتاب الأمثال العامية التونسية وما جرى مجراها، أن "الأقوال السائرة أو الأمثال التي هي موضوع من مواضيع الفلكلور تعتبر مصادر معرفة لعالم الإنسان روحاً وعقلاً ولسلوكياته وتقاليده وعاداته وهي مصادر لكثير من المعطيات العلمية خصوصاً ما تعلق منها بالفلك والطب والفلاحة والتجارة والصناعة وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم التربية وغيرها. وهي بذلك تقدّم إضافات مهمةً إلى حصيلة المعرفة الإنسانية".

وقد فسّر شهرة هذه الأمثال وتداولها بين الناس بأنها تجد استحساناً منهم لذا أقبلوا عليها وحفظوها وتداولوها لفصاحة ألفاظها ومعانيها وبُعد مراميها ولرشاقتها ووقعها الموسيقي المطرب ولما حوته من فكاهة ومرح وتسلية.

جدير بالذكر أن تونس تتشارك مع العديد من الدول العربية، خاصةً المغاربية في الأقوال الشعبية، ويكون الاختلاف فقط في اللهجة وطريقة نطق المثل، ففي تونس مثلاً يقال "الفلوس ترد الشايب (الشيخ) عروس"، أما في مصر فيقال "معك قرش تساوي قرش". 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard