شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
كرز جبل الزاوية والذاكرة... رحلة مصوّرة مع الأحمر القاني وعيون الفلاحين

كرز جبل الزاوية والذاكرة... رحلة مصوّرة مع الأحمر القاني وعيون الفلاحين

إن صادف مرورك بين شهري أيار/ مايو وبداية تموز/ يوليو، بجوار الحقول الشاسعة المحيطة بقرى جبل الزاوية في ريف إدلب الجنوبي، فلا بد أن ترى الفلاحين وهو يقطفون ثمار الكرز غير مبالين بالقصف الذي يستهدف المنطقة بين الفينة والأخرى.

كان أبو عمر يُطعمنا الكرز، عندما رأينا الدخان يتصاعد من قرية كنصفرة المجاورة بفعل قصف مدفعي لقوات النظام السوري على البلدة. كان صوت أبي عمر يتداخل مع صوت القذائف، وهو يقول إن الأرض هي "الحيلة والفتيلة ولازم نقطف الموسم لنقدر نعيش ونعيّش الأرض ونصرف على حالنا وعليها... آه يا عمي لقمتنا مغمّسة بالدم".

قطاف تحت القصف

البلاد دخلت فصل الصيف رسمياً، بالتزامن مع ارتفاع وتيرة العلاقات العربية مع النظام السوري، واستمرار الأوضاع الميدانية على ما هي عليه منذ أكثر من ثلاث سنوات، والتي رسمت حدودها جولات أستانة التي أُعلن عن انتهاء مسارها مؤخراً، وهو ذاته المسار الذي يعدّه الفلاحون في ريف إدلب، سبب خسارتهم لأراضيهم وممتلكاتهم، وسبب استمرار الاعتداءات المتكررة عليهم في جبل الزاوية.


مزارعو الكرز موسم القطاف

وبرغم القصف المتواصل الذي ينقض اتفاق خفض التصعيد الذي ترعاه كلّ من روسيا وتركيا، إلا أن الفلاحين يصرّون على التمسك بأراضيهم لجني محاصيلهم التي ينتظرونها من عام إلى عام، علّها تخفف من أزمتهم المعيشية وتغنيهم عن انتظار المساعدات الإنسانية الأممية التي توقفت حالياً، في انتظار قرار مجلس الأمن.

القصف بات أمراً اعتيادياً لا يمنع الأهالي من الذهاب إلى أراضيهم في جوّ من الحذر خلال أيام جني محاصيلهم، حيث يخرج أهالي الجبل مع زاد بسيط من الشاي، المشروب الشعبي المفضل لديهم، وبعض الطعام، لقضاء يوم في الطبيعة يمتزج فيه التعب والمتعة كما تتمازج ألوان الكرز ولون الدم على أشجار جبل الزاوية.

كانت وجوه الفلاحين يملأها الحزن وهم يجنون المحصول الذي كانوا يأملون أنه سيكون داعماً لهم اقتصادياً، في ظل ظروف صعبة للغاية يعيشها السوريون اليوم

كانت وجوه الفلاحين يملأها الحزن وهم يجنون المحصول الذي كانوا يأملون أنه سيكون داعماً لهم اقتصادياً، في ظل ظروف صعبة للغاية يعيشها السوريون اليوم. إذ ضاعفت الحرب في سوريا من معاناة قطاعات كبيرة من السوريين ومنهم المزارعون في منطقة جبل الزاوية مع دخول موسم قطاف وبيع الكرز الذي يُعدّ أحد المحاصيل الاقتصادية في المنطقة، خاصةً مع تراجع المبيعات بشكل كبير، بسبب ضعف القدرة الشرائية وتراجع الإنتاج نتيجة نقص مواد الفلاحة في ظل الوضع الحالي وتحت القصف المستمر منذ أكثر من عشر سنوات.

موسم يقلّب المواجع

على أطراف بلدة أحسم، وفي حقل تتقاسمه أشجار الكرز والمحلب، كانت أم علي تجلس في ظل شجرة الكرز عندما جذبَنا صوتها وهي تصدح بإحدى "العداويات" عن الفراق (أغانٍ شعبية كانت تغنيها النساء في الأعراس). اقتربت منها لأرى لماذا تغنّي تلك الأغاني التي لم أسمعها منذ خروجنا في رحلتنا القسرية نحو إدلب قبل نحو سبع سنوات، فروت لنا قصة ولدها الذي فقدته في مجزرة وادي بداميا في جبل الزاوية، حينما قتل النظام المتظاهرين السلميين بعد هربهم إلى وادي بداميا، كما روت قصة فقدانها ولدها الثاني في معارك حلب ضد قوات النظام لترسل ولدها الوحيد المتبقي إلى ألمانيا خوفاً عليه وتعيش مع ابنتها وصهرها في منزلها في البلدة.


أم علي والكرز

تقول أم علي: "موسم الكرز يفتح مواجعي. أتذكر زوجي وأولادي. أتذكر أيامنا معاً. أتذكر كل واحد منهم أي شجرة كان يفضّل، وأتذكر آخر العنقود أحمد الذي كان يحبّ مربى الكرز وكان يقول لي إنه في حال تزوّج، يريد مني أن أعلّم زوجته صناعة المربى".

تتنهد ثم تكمل: "ولكن لم يعد بإمكاني أن أعلّم زوجته يا عين خالتك. فزوجته التي تزوجها في ألمانيا غير عربية. وحتى عندما تكلّمني مع ولدي هو من يترجم لي ما تقول. فكيف لي أن أعلّمها صناعة مربى الكرز؟".

موسم الكرز يفتح مواجعي. أتذكر زوجي وأولادي. أتذكر أيامنا معاً. أتذكر كل واحد منهم أي شجرة كان يفضّل، وأتذكر آخر العنقود أحمد الذي كان يحبّ مربى الكرز

قبل رحيلي، جلست بجوارها أتقاسم معها بعض حبات الكرز، فغنّت "عداويةً" جديدةً عن الغياب، فهممت لأغني أنا أيضاً "عداويةً" تعبّر عن شوقي، فاليوم أتذكر قريتنا، وأتذكر أمي، وأتذكر كرم جدّي الذي قُطّعت أشجاره عقوبةً له لمشاركة ذريته في الثورة. تذكرت جدتي وما كانت تغني من أغانٍ شعبية. أردت البكاء كما فعلت أم علي، لكن سريعاً وجدت نفسي أحمل كاميرتي وأمضي.


الذاكرة والحزن

زراعة عمادها التصدير

يؤكد معظم من التقيناهم أن زراعة الكرز تعتمد بشكل رئيسي على تصدير المنتجات إلى خارج البلاد، بسبب قلّة الاستهلاك المحلي الذي لا يتجاوز الـ20 في المئة، بينما يُصدَّر باقي الإنتاج إلى الأقطار العربية عبر الأراضي التركية.

تُعدّ منطقة جبل الزاوية من أبرز الأماكن في شمال سوريا لـ"شجرة الكرز"، وتتميز معظم البساتين فيها بأنها بَعْلية بسبب عدم قدرة المزارعين على ريّ هذه الأشجار لخطورة المنطقة وتعرّضها للقصف بشكل يومي.


إلى محاولة التسويق

وتتعدد أنواع الكرز في بساتين جبل الزاوية، ولعلّ أبرزها وأكثرها ذكاءً هو "أبو نقطة"، وتكون الكرزة منه عليها نقاط بيضاء اللون، والنوع الآخر هو "أبو قشرة" الذي يمتاز بقشرته السميكة، وهذا النوع تحديداً مخصّص لعمليات التصدير بسبب قابليته للتخزين، وأمّا النوع الثالث فيطلَق عليه اسم "أبو حز"، ويتميز بوجود خط أسود في وسط الحبة ويؤخذ هذا النوع لصناعة المربيات.

وتتفاوت مواعيد قطاف الكرز في كل عام، إذ تلعب الظروف المناخية بموعد قطافه، ولكن الموعد يتركز بشكل عام بين أيار/ مايو وحزيران/ يونيو، والبساتين البعلية تسبق البساتين المروية، إذ تنضج ثمارها قبل قرابة شهر إن كانت الأشجار سليمةً وغير حاملة لأي مرض.


وللأطفال دورهم

تتعرض شجرة الكرز كغيرها لمخاطر ومشكلات عدة تقع في النهاية على عاتق المزارع، إذ تصاب بـ"النخر والتسوس" الأمر الذي يودي بالشجرة إلى الهلاك، إذا لم يتم تدارك الموقف سريعاً وذلك عن طريق رش الشجرة دورياً بالمبيدات الحشرية والأدوية الفطرية.

وعلى الرغم من جميع الصعوبات التي ذكرناها، لا يزال موسم الكرز هو المهنة الأولى لأهالي منطقة جبل الزاوية، إذ يصرّ الأهالي في كل عام على متابعة بساتينهم ومراقبة أشجارهم متحدّين كل المخاطر التي تحيق بهم من قصف يستهدفهم أو ظروف اقتصادية صعبة قد تمر عليهم. 


الأحمر القاني


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image