في خضم التطوّرات المتسارعة التي تطرأ على أرض المملكة، يقف الفرد السعودي حائراً بين أن يكون متفرجاً يُبدي رأيه في ما يرى، وبين أن يكون جزءاً من هذا التغيير الضخم، وبين أن يخلو إلى نفسه قليلاً ليتأمل آثاره على ذاته وحياته، حيث تتباين درجات التأثر بين كل شريحة من شرائح المجتمع السعودي، وبين الفئات العمرية المختلفة. أتحدث هنا عن الشباب السعودي نساءً ورجالاً، والفرد السعودي المتوسط، الذي يمرَ بالكثير، ويبني الكثير، ويفكر طويلاً وهو مثقَل بالمشاعر المختلطة.
عندما ننظر إلى عناوين المعارض الفنية في وقتنا الحالي، وإلى الأعمال الفنية داخل صالاتنا، هل نشعر بأنها تتحدث عما يهمنا؟ هل تلامس شيئاً في داخلنا؟ أو تطرح فكرةً جديدةً تستحق أن نتأملها؟
أزمة هوية
في السنوات الأخيرة، ارتكزت مواضيع معارضنا حول الهوية، التاريخ، العادات والتقاليد، لهدفٍ سامٍ، ألا وهو تعزيز الجذور أمام إعصار التغييرات المستمرة الذي يواجه الفردَ السعودي، وتوحيد الصورة الذهنية لشخصية الفرد السعودي وبنائها بقوة والحفاظ عليها من الانقسامات والتجزئة. لكن للوصول إلى هذه الغاية، ينبغي أن نستخدم الوسيلة المناسبة، بالقدر المناسب، حتى لا تفسد النتائج.
في خضم التطوّرات المتسارعة التي تطرأ على أرض المملكة، يقف الفرد السعودي حائراً بين أن يكون متفرجاً يُبدي رأيه في ما يرى، وبين أن يكون جزءاً من هذا التغيير الضخم، وبين أن يخلو إلى نفسه قليلاً ليتأمل آثاره على ذاته وحياته
كم عدد السنوات التي ستقضيها معارضنا الفنية في سرد الرسالة نفسها؟ وكم عملاً فنياً سيملأ المتاحف يتحدث عن المفهوم ذاته؟ ألم تصل الرسالة بعد؟
"المعارض الفنية صارت تشبه بعضها"؛ جملة سمعتها من فنانين، مقتنين، وزائرين للمعارض الفنية، بل شاهدت بعض الأعمال الفنية تنتقل من معرض فني إلى آخر، ومن مؤسسة إلى أخرى، لأن جميع المؤسسات تقلّد بعضها، وهذا ليس عيباً، لكن المؤسف أن الفرد السعودي أصبح يشعر بالملل، ويعرف أن هناك من يلقّنه رسالةً ما، وهنا ينافي مغزى الرسالة. لم يُخلَق الفن يوماً ليُطعم العامةَ الأفكارَ بالملعقة. يكفي أن يلفت نظرنا إلى أمرٍ ما وينصرف.
مشاعر الحنين... ثم ماذا؟
كل عمل يعبّر عن مفهوم أو شعور هو عمل فني، لكنه ليس بالضرورة عملاً قوياً. حين نقيّم الأعمال الفنية ننظر إلى أمور عدة، لكن ما نودّ الحديث عنه الآن هو ما يجعل العمل الفني مؤثراً؛ إلى متى سيبقى هذا العمل الفني في ذهنك؟ هنا يظهر الفرق بين عملٍ عابر في محل ديكور، وبين قطعة فنية عظيمة وخالدة! متى كانت آخر مرة وقفنا فيها طويلاً في معرض لنتأمل عملاً؟ ولماذا؟
ما يجعل هذا العمل يبقى في ذاكرتنا بعد وقتٍ طويل من مغادرة المعرض، ليس جمال العمل؛ فإما أن العمل قد حمل مفهوماً قوياً أثار في عقولنا الكثير من الأسئلة، أو أنه جعلنا نتعرف على فكرة جديدة، أو تحدانا أن نغيّر رأينا في مسألة ما. في حالاتٍ أخرى، قد يثير فينا العمل الفني شعوراً قوياً، نعتقد أنه يرفض المغادرة، لكن في الحقيقة، المشاعر التي تثيرها عوامل خارجية مثل العمل الفني هي مشاعر مؤقتة - ما عدا المشاعر التي نملكها ونتجاهلها وتنتظر من يُخرجها إلى السطح-، لكن ما يدوم هي أفكارنا حول هذه المشاعر وكيف نتعامل معها.
للمشاعر مفاهيم وتصنيفات مختلفة، لا يكفي أن يستفز العمل شعوراً ما لدى الزائر حتى يكون مؤثراً، إذ قد ينساه الزائر بمجرد خروجه من الباب. على العمل أن يطرح مسألةً جديدةً حول هذا الشعور، أو يناقش جانباً يستحق الاهتمام، وإلا ضعفت قيمة الشعور الذي تناوله العمل الفني. حسناً، نظرنا إلى بابٍ قديم وتذكّرنا بيوتنا وشَعَرنا بالحنين، ثم ذهبنا إلى معرضٍ ثانٍ ونظرنا إلى نافذة قديمة مطلية بالألوان وشعرنا بالحنين أيضاً، وذهبنا إلى آخر ووجدنا لعبةً من أيام الطفولة، ثم ماذا؟ نعرف أن هذا بيتنا وهذه طفولتنا، ما الجديد هنا إذاً؟
رموز فقدت معناها
لكلّ بلاد ثقافة مختلفة، تشتهر فيها بعض الرموز التي تكشف عن معانٍ وقيم جميلة تحملها، ويكثر في الأعمال الفنية استخدام تلك الرموز. لا يوجد معرض في المملكة لم يشهد عملاً يحمل النخلة، الخيل، الناقة، العرضة، السيوف، المسبحة (السبحة)، والكعبة وغيرها من الرموز الدينية والثقافية. أعرف أنه من الجميل أن نشاهد سبحةً عملاقةً أو كعبةً من الزجاج، لكن ما الذي سيختلف عندما نرى جذع نخلة للمرة العشرين في المعرض؟ ما الذي ستعبّر عنه لوحة الخيول العربية الأصيلة سوى أنها "خيول عربية أصيلة"؟
عندما تحضر الرموز لمجرد الحضور، تفقد قيمتها! ومعارضنا الفنية مليئة بالرموز، بلا قصة، أو دلالات مثيرة للاهتمام، بلا ابتكار في طريقة عرض الرمز، أو منظور جديد نكتشفه أو نتأمله حول معنى الرمز الضمني أو حتى الحرفي في ثقافتنا. هناك عشرات اللوحات في متاحف إيطاليا تحكي قصة العشاء الأخير، وتصوّر الشخصيات نفسها، لكنّ لكل لوحة منظوراً مختلفاً تماماً، ودلالاتها الخاصة التي تعبّر عنها.
الأنثى... عنصر جمالي لا أكثر
لوحة عن الأم، صورة مقرّبة ليَدِ الجدة المزيّنة بالحنّاء، بورتريه لفتاة جميلة ترتدي البرقع، إلخ؛ مظاهر جمالية مختلفة نعبّر بها عن الأنثى، دون أن نقول شيئاً. كأنثى سعودية، لم أرَ عملاً فنياً يلامسني بصدق منذ عمل "سأتبع الريح" للفنانة مروة المقيط، في بينالي الدرعية العام الماضي. ما عدا ذلك، حضور الأنثى في العمل الفني محدود ومقتصر على عناصر تزيّن العمل الفني، ذات معانٍ متكرّرة ولم تعد مؤثرةً الآن.
الأنثى السعودية مثيرة للاهتمام بالدرجة الأولى! وقد نقول إنها المسألة الأولى التي تُطرح في النقاشات حول التغيّرات في السنوات الأخيرة في المملكة، ومن هذه المسألة نستطيع استلهام الملايين من المفاهيم، ونمتلئ بالمشاعر العميقة والمتفجرة التي عاشتها النساء في السعودية من مختلف الأعمار. لماذا ما زلنا نحبسها في إطار صورة جميلة خالية من المعنى؟
هوس المواكبة
لم أتخيّل يوماً أن كلمة "تراند" قد تطرأ في حوار حول المشهد الفني. أصبح الفنانون السعوديون يتساءلون في ما بينهم: "أي مادة يستخدم كبار الفنانين الآن لأُدخلها في أعمالي الفنية"، و"عمّ تتحدث المعارض الآن؟"، بدلاً من: "ماذا أريد أن أقول من خلال عملي؟ وما هي المادة الأفضل للتعبير عن ذلك؟"، لذلك كل حساب على إنستغرام لمعرض فني الآن لا يخلو من: مواد البناء، التراب، القماش المنسدل، أضواء النيون، فيديو يُعرض داخل غرفة صغيرة أو ألوان ملقاة بعشوائية على سطحٍ ما.
عندما يشعر الفنان بأن عمله لن يُقبل إلا إن وضعه في إطار محدّد، سيبقى حبيس هذا الإطار في حالة انتظار للإطار القادم، وسيخسر جدوى التجربة والاكتشاف، وسنخسر نحن جمال الاختلاف والتنوّع في أشكال الأعمال الفنية
"صاحب المعرض قال لي: لا ترسمي مرةً ثانيةً"؛ قالت فنانة سعودية بنبرة من الإحباط والحيرة عندما قررتْ أن تغير من أسلوبها الفني تماماً حتى يقبلها مديرو المعارض الفنية في مدينتها.
عندما يشعر الفنان بأن عمله لن يُقبل إلا إن وضعه في إطار محدّد، سيبقى حبيس هذا الإطار في حالة انتظار للإطار القادم، وسيخسر جدوى التجربة والاكتشاف، وسنخسر نحن جمال الاختلاف والتنوّع في أشكال الأعمال الفنية التي سنراها في المعرض الفني المقبل، وقطعاً فنيةً خالدةً ومتميزةً نضمها إلى أرشيف الفن السعودي.
"وبعدين؟"
سؤال يُطرح دائماً عند المرور بمرحلة انتقالية كبرى، ونكاد نجد جوابه في كل المجالات إلا الفن. تعمل الجهات المسؤولة على قدمٍ وساق لبناء أسس قوية لمشهد الفنون البصرية في المملكة من خلال التعليم، المتاحف، إقامة المهرجانات والأحداث المتعلقة بالفنون، وإتاحة البرامج التأهيلية والتمويل للفنانين. تبدو الصورة واضحةً في هذا الجانب، لكن من الناحية الأخرى، من يجيب عن هذا السؤال هم أصحاب الفن أنفسهم (الفنان، القيّم الفني، الجهات المهتمة بالفنون، وغيرهم). لن يثمر التمكين شيئاً إن لم تكن لدى كلٍّ منهم رؤية فنية فريدة ومستقلة، فهم أبناء المملكة، ومن المؤكد أنهم يفهمون المجتمع السعودي والقضايا التي تهمه الآن، والتي تستحق أن يدور حولها العمل الفني.
إلى متى سيبقى الفن السعودي يكرّر ذاته؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون