شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
دليل السعودي الحائر إلى عالم الفن والترفيه

دليل السعودي الحائر إلى عالم الفن والترفيه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 30 أبريل 201804:12 م

كتاب "الرجل الصنم" هو من مستلزمات إعداد الشاب عندما يلتزم إسلامياً، حتى تتكون شخصيته ونمطية تفكيره فيستحق موقعه في "الحركة الإسلامية". سيصله هذا الكتاب إما هدية من معلمه أو من صديق أو حتى سيُطلب منه قراءته وإعداد ملخص عنه يعرضه في جلسة "الأسرة" القادمة، والأسرة هنا هي رفقة من زملاء الحركة يُصبحون له أهلاً وخلاناً مدى العمر، أو طوال فترة التزامه بالحركة. إنه عالم العمل الإسلامي الحركي.

"الرجل الصنم" هنا هو مصطفى كمال أتاتورك، النموذج العلماني للشرق العربي، والذي كان الإسلاميون في ستينيات القرن الماضي وما بعدها يخشون أن يكون المصير الذي ينتظر بلادهم. لذلك كان الاهتمام بالكتاب المنسوب إلى ضابط في الجيش التركي، رافق الباشا في حرب الاستقلال وسجل بعد ذلك روايته سراً، ذلك أن القانون التركي لا يزال يجرّم الإساءة إلى "أتاتورك".

لم يرَ المؤلف في "أبو الأتراك" بطلاً يحرر بلاده من الغزاة بل رجلاً كارهاً للدين، متغرّباً حتى الاستلاب، شهوانياً ونرجسياً. لم أختلف كثيراً مع المؤلف، فقد كان قوى الحجة وهو يعزز آراءه الحادة بشهادات موثقة. ولكن على غير ما يرمي، أثارت رواية مرورهم ليلاً، بجوار قرية يونانية كان صوت الموسيقى يأتيهم عالياً منها، تساؤلات في نفسي. فقد قارن أتاتورك بين فرح هؤلاء وتمتعهم بالحياة وسكون قرية تركية لا تبعد عن الأخيرة كثيراً.

استوقفتني هذه الرواية كسعودي، إذ إن مقارنة أتاتورك ستبقى صحيحة لو استُبدلت القرية التركية وقتذاك بقرية سعودية، خاصة في تلك المرحلة في بلادي، منتصف الثمانينيات، حين ازداد منع "متع الحياة" عن السعوديين، مع سماح الدولة للمؤسسة الدينية بفرض وصايتها الصارمة على المجتمع، فاحتكرت الفتوى وحرّمت قائمة لا تنتهي مما يفعله السعوديون يومياً، وتعدّى الأمر ذلك إلى تمكين هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الذراع الميداني لهيئة كبار العلماء، لفرض تلك الفتاوي بالقوة والتهديد على المجتمع. ما عشته وكتبت عنه خلال تلك الفترة يجعلني أرحّب بالانفتاح الجاري اليوم في السعودية والذي تقوده الدولة في مجالي الفن والترفيه، وأراه استعادة المجتمع لطبيعته وحريته في الاختيار.

صحيح أن هذا الانفتاح لم يأتِ "تطوراً" من داخل المجتمع وإنما بعملية قيصرية، ولكن لا يوجد حل آخر بعدما رفض علماء السعودية استيعاب التغيير والمواءمة بين الدين والعصرنة مثلما فعل علماء الإخوان الذين لا تحبهم الدولة عندنا، رغم أن عملية المواءمة في السعودية كانت أسهل، إذ لم يكن فيها يوماً مثل شارع "محمد علي" القاهري الشهير للهو والسهر والسينما والرقص والشرب والذي أضحى نموذجاً يُحتذى به في كل عاصمة عربية وهي "تتحدث"، ولكن كان هناك قدر من "اللهو المباح" في الأعراس، واحتفالات الأحياء والمناسبات المغلقة، وهذا القليل جرى منعه والتضييق عليه.

حتى الأناشيد الإسلامية التي كانت "موضة" تلك المرحلة تعرّضت لفتاوي التحريم والتضييق. أتاتورك معه حق. لدينا مشكلة كمسلمين مع اللهو والترفيه. وقد حاول علماء الحركة الإسلامية معالجة هذه المسألة كالشيخ يوسف القرضاوي في كتابه الشهير "الحلال والحرام في الإسلام"، وكتابه "فتاوى معاصرة". وتقدم الراحل حسن الترابي على القرضاوي في إباحة المزيد من أوجه الترفيه والفن في كتابه المثير للجدل "حوار الدين والفن"، بل شجع ممارسة شتى الفنون من خلال موقعه القيادي في السودان، ما أغضب كثيرين من المتزمتين. القرضاوي والترابي وغيرهما كانوا يقودون مسعى للمؤامة بين الإسلام والمعاصرة، فأقروا بضرورة معالجة دينية عصرية لحاجة المجتمع إلى الفن والترفيه، والذي أضحى صناعة هائلة خرجت من قصور الخلفاء والأمراء إلى العامة بفضل تقنيات الاتصال. السلطان عادة لا يحتاج إلى فتوى، ولكن عامة الناس بحاجة إليها.

جمال خاشقجي في رصيف22: الانفتاح على الفن والترفيه في السعودية لم يأتِ "تطوراً" من داخل المجتمع وإنما بعملية قيصرية، ولكن لا يوجد حل آخر بعدما رفض علماء السعودية استيعاب التغيير والمواءمة بين الدين والعصرنة
جمال خاشقجي في رصيف22: أتاتورك معه حق. لدينا مشكلة كمسلمين مع اللهو والترفيه
في نفس الوقت، تمسك علماء السعودية بالفتاوي المتشددة التي تميل إلى التحريم، بل حتى واجهوا أفكار "العصرانيين"، كما سمّوا القرضاوي والترابي وأمثالهما، بالرفض والإنكار والمنع. الفرق بين المجموعتين أن "العصرانيين" كانوا ينظُرون باتجاه مجتمع يتغيّر بحكم واقع سماح الدول العربية الحديثة بممارسة الفن وتشجعيها له ورغبة هذا المجتمع في الاستمتاع به، وكانوا في نفس الوقت يقدّمون مشروعاً إسلامياً بديلاً للحكم ينافس تلك الأنظمة التي استقرت بعد الحرب العالمية الأولى وفق قيم غربية، فعملوا على المواءمة بين مشروعهم وبين الفن والترفيه.

أما في السعودية، فكان العلماء ينظرون إلى "الدولة" وليس المجتمع، فكانوا في مرحلة ما قبل 1979، الفترة التي شهدت محاولات للنهضة في مجال الفن والترفيه قادها شباب نهضويون متأثرون بالانفتاح في مصر والشام، يسارعون إلى الدولة، يشكون ويطالبون بالمنع، وكانت تستجيب لهم أحياناً، وتتجاهلهم أحياناً أخرى، ولكنهم لم يحاولوا أبداً أن يدفعوا بطروحات توائم بين الإسلام والفن، بل حتى منعوا قبل عقود "كتب الإخوان" المتسامحة مثل "الحلال والحرام في الإسلام" للقرضاوي، قبل "هوجة" منع الكتب التي تسود السعودية هذه الأيام. وقام الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، والذي زاره قبل أيام سمو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في بيته واحتفى به، بتأليف كتاب للرد عليه و"تفنيد" ما ورد فيه من "أخطاء"،

حسب قوله. لعل هذا التشدد، هو ما دفع "الدولة" إلى تنحية صلاحياتهم وكتبهم وفتاويهم المتزمتة جانباً، والمضي في توفير "اختيار" الترفيه للمجتمع. لربما لو فعلوا مثل الترابي والقرضاوي وحاولوا المواءمة بين الإسلام والعصر، لاستمعت لهم الدولة وطورت معهم ترفيهاً لا يتصادم مع الدين. لقد تأخر الوقت، فالشباب غالبية المجتمع، والثورة المعلوماتية باتت تمكن الشاب السعودي من مشاهدة الحلقة الأحدث من "بريزون بريك" في نفس الوقت الذي يراه الأمريكي في لوس أنجلس. أضيق بتعليقات البعض حول أن ما يجري "إفساد" للمملكة، خاصة عندما تأتي من غير السعوديين ممّن يتمتعون بحقهم في "الاختيار".

هذا الحق هو حق طبيعي لأي مجتمع ولا يُستثني منه السعودي. وفي نفس الوقت لا أتوقع أن تذهب المملكة، وهي المؤسسة على فكرة أنها "دولة إسلامية" والتي تحتضن الحرمين، إلى الحد الذي انتهت إليه معظم البلاد الإسلامية في توفير اختيارات الترفيه والفن. القضية التي يجب أن تهمنا كسعوديين الآن، هي شفافية الإنفاق الجاري على صناعة الترفيه، إذ لا يجوز أن تتوقف الدولة عن دعم السلع الأساسية بينما تدعم الترفيه، فالمجتمع (لنقل بعضه) لا يحتاج إلى مَن يُقنعه بالترفيه، إنه متلهف عليه، وعادة تدعم الدول الثقافة لا الترفيه. لننتظر ونرى. ربما هي مرحلة ريثما تستقر صناعة الترفيه، ثم تترك للقطاع الخاص دون مزيد من الهدر، ولنتذكر أن التمتع بالحياة يستلزم أيضاً الاستقرار والعدل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image