هل سبق لكم/ نّ أن قلتم/ نّ "مرحباً" لشخص ما، ولم يقل شيئاً في المقابل؟ هل بادرتم/ نّ إلى مجاملة مراهقة وأهملت أن تقول لكم/ نّ "شكراً لك"، واكتفت بالصمت؟ ماذا عن الطالب الذي لا يتحدث مع أحد في صفّه؟ ماذا لو كان الشخص الذي قدّم مساعدةً لك لا يريد شيئاً أكثر من "شكراً" بابتسامة كبيرة على الوجه، لكنك كنت عاجزاً عن الكلام؟
هؤلاء ممن يصارعون مع الصمت الانتقائي: حوار داخلي ومشاعر متضاربة. يريدون التحدث لكن التفكير في الكلام يجعلهم قلقين، كما أن ردود الفعل الصريحة أو المضايقات من الآخرين أو حتى الأحكام المسبقة قد تزيد من مخاوفهم، مما يجعلهم أقل عرضةً للتحدث مرةً أخرى. حتى في روضة الأطفال أو الفصول الدراسية، لن يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى يتعرف الطلاب الآخرون على الطالب المصاب بالصمت، وهو الذي "لا يتحدث".
في تشخيص ذلك يقول علم النفس، إن الصمت الاختياري، أو الانتقائي أو التباكم، ثلاثة مصطلحات تدل على المعنى ذاته. فعندما يتحدث الناس عن الصمت الانتقائي، فإنهم غالباً ما يشيرون إلى الأطفال، ذلك لأنه اضطراب قلق يتم تشخيصه في مرحلة الطفولة عادةً عندما يبدأ الطفل بالذهاب إلى المدرسة، لكن ماذا يحدث للصمت الانتقائي عندما يكبر الطفل ويدخل سن المراهقة؟
لا تلتئم وحدها كالجروح
في حديثها إلى رصيف22، قالت الأخصائية في العلاج النفسي والإرشاد التربوي ولاء البرعي، إن الصمت الانتقائي يُعدّ نوعاً من القلق والرهاب الاجتماعي، لأن الأطفال الذين يصابون بهذه الحالة يعانون من القلق الشديد والتخوف من بعض المواقف الاجتماعية والفصول الدراسية، مما يؤدي إلى عدم القدرة على الكلام بشكل مستمر.
لذا، فإن الصمت الانتقائي هو شكل من أشكال القلق الاجتماعي الذي يحدث في ظل ظروف معيّنة: "هو مرض ممتد منذ الطفولة، فحين يتعرض الطفل للانتقادات المستمرة والنشأة في وسط أسري مضطرب، يكون أكثر عرضةً للإصابة بالتباكم، ويظهر في المراحل الأولى في المدرسة عند الطفل، ومن هنا جاءت أهمية المرشد/ ة النفسي/ ة في متابعة الحالة برفقة أحد الوالدين".
هل سبق لكم/ نّ أن قلتم/ نّ "مرحباً" لشخص ما، ولم يقل شيئاً في المقابل؟ هل بادرتم/ نّ إلى مجاملة مراهقة وأهملت أن تقول لكم/ نّ "شكراً لك"، واكتفت بالصمت؟
وأضافت البرعي: "في حال لم يتم التنبه إلى هذا الطفل في الوقت المناسب، سيتفاقم وضعه النفسي وينتقل معه إلى مراحل المراهقة والنضوج، فحالات الاضطراب النفسي لا تعالج نفسها بنفسها ولا تلتئم كالجروح والندوب، ولا بد من التدخل قبل فوات الأوان".
وأشارت إلى وجوده بشكل أكبر لدى الإناث أكتر من الذكور، "لأن الإناث بطبيعتهن لديهن حساسية من الكلمات ونظرات الآخرين، وتؤثر فيهنّ العبارات السلبية أكثر حين تعرضهنّ للتنمر من قبل بعض الأشخاص".
كيف يتم تشخيص الصمت الانتقائي؟
يعاني المراهقون/ ات المصابون/ ات بالقلق أو الرهاب الاجتماعي من خوف شديد ومستمر من أشياء مثل: الأوضاع الاجتماعية، اللقاء بأناس جدد، التحدث في الأماكن العامة، وتتم ملاحظتها أو الحكم عليها من قبل الآخرين، وتناول الطعام في الأماكن العامة، والمشاركة في الأنشطة الجماعية، نظراً إلى أن التفاعل مع الطلاب الآخرين في المدرسة وتكوين الصداقات أمر صعب، لذا فإن الطفل المصاب بالخرس الانتقائي معرض لخطر العزلة الاجتماعية.
هؤلاء ممن يصارعون مع الصمت الانتقائي: حوار داخلي ومشاعر متضاربة. يريدون التحدث لكن التفكير في الكلام يجعلهم قلقين، كما أن ردود الفعل الصريحة أو المضايقات من الآخرين أو حتى الأحكام المسبقة قد تزيد من مخاوفهم، مما يجعلهم أقل عرضةً للتحدث مرةً أخرى
بالإضافة إلى ذلك، قد يواجه المصابون بهذا الاضطراب أعراضاً جسديةً، مثل: التعرق، الارتجاف، احمرار الوجه، الغثيان والاضطراب العاطفي.
وحسب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، فإنه يجب أن يكون العجز عن الكلام لدى الشخص المصاب، سواء كان طفلاً/ ةً أو مراهقاً/ ةً، مستمراً لمدة شهر كامل على الأقل حتى يصنَّف بأنه اضطراب، كما تبدأ أعراض الصمت الاختياري على الطفل قبل أن يبلغ الخمس سنوات من عمره، إلا أنه لا يلقى الاهتمام إلا بعد دخوله المدرسة، حيث يزداد تفاعل الطفل مع المحيطين به في نطاق المدرسة.
بين الصمت والصدمة والعزلة
نور، فتاة لم تتجاوز الـ14 عاماً من عمرها، تحبّ الرسم والتلوين والمشغولات اليدوية، قالت والدتها لينا يونس: "لأن نور ابنتي وحيدة ومدللة جداً، فهي شديدة التعلق بي، وبحكم تنقّل الأسرة من منطقة إلى أخرى، واجهت نور مشكلات كثيرةً في التأقلم".
حين تلقّت الأم طلباً لحضور لقاءٍ مع المرشد النفسي في مدرستها ومربية صفّها، لم تتأخر عن موعدها، وفق ما قالت لرصيف22: "بعد إشادتهم بهدوئها والتزامها بالنظام المدرسي والواجبات، أخبروني بأنها لا تتحدث مع أحد برغم محاولات صديقاتها التقرب منها، كذلك تتجنّب التحدث مع مدرّساتها، ولا تتفاعل مع الأنشطة الجماعية، وتبقى شاردة الذهن تجيب بكلمة واحدة أو تكتفي بالنظرات. وبرغم اعتقادي بأن عدم حديثها مجرد خجل وعدم تأقلم، نصحوني بالتوجه إلى الطبيب النفسي وكان أول سؤال له: هل تتحدث ابنتك في المنزل؟ صُدمت فهي لا تتوقف عن الكلام، وبعد موجه من الأسئلة أكد لي الطبيب المعالج أن ابنتي مصابة بالصمت الانتقائي، ومن خلال الرسم تعرّف على أبرز مخاوفها وبدأنا جلسات العلاج السلوكية".
أما هيثم (12 عاماً)، وهو فتى سوري قدِم إلى مدينة إسطنبول التركية بعدما فقد إخوته الثلاثة جراء قذيفة سقطت عليهم في مدينة إدلب، يعيش مع والده ووالدته وجدّته. ولأنه لم يتمكن من الحصول على شهادة تثبت إنهاءه المرحلة الابتدائية، وفقاً لشروط وزارة التربية والتعليم التركية، فهو أكبر طالب في فصله.
قالت والدته لرصيف22: "دائماً تستدعيني المدرسة، فكثيرة هي الشكاوى التي تصلني برغم أن ابني طيب ومهذب ومُلم باللغة إلى حدّ يساعده على فهم الدروس، كما أنه يعاونني في أمور الحياة، لكنه في المدرسة لا ينطق بأي كلمة ولا يتجاوب مع أسئلة المعلمين/ ات على عكس نجاحه الجيد في الاختبارات المكتوبة. لم أستغرب الأمر، فهو غير راضٍ عن التحاقه بهذا الفصل، ويتعرض للتنمّر إزاء شكله وعمره كما أنه لم يتعافَ بعد من صدمته النفسية بعدما فقده أشقاءه".
في هذا السياق، أوضحت الباحثة في علم النفس الإكلينيكي، دعاء عبد الحميد، أن ليس كل طفل أو مراهق يقرر قطع اتصاله مع العالم الخارجي، مصاباً بالصمت الانتقائي، لذلك فتتبّع مسار الاضطراب عامل مهم في تحديد المشكلة والبدء بمعالجتها: "إن عاملَي الخوف والقلق أساسيان في اتجاه المراهقين/ ات إلى الصمت الانتقائي، الذي يصنَّف على أنه آلية دفاعية لا شعورية تُفعّل بطريقة لا واعية يحمي من خلالها المصاب سواء كان طفلاً أو مراهقاً نفسه من الشعور بالحرج أو بالخوف".
بحسب مركز أبحاث وعلاج الصمت الانتقائي، فإن 90% من الأطفال والمراهقين الذين يعانون من الصمت الاختياري يعانون أيضاً من الرهاب الاجتماعي، حيث لديهم خوف فعلي من التحدث والتفاعلات الاجتماعية، ويكونون في أقصى درجات الخجل، ولديهم أيضاً استعداد وراثي للقلق، فتظهر عليهم نوبات الغضب والبكاء الشديد وتقلّب المزاج ومشكلات النوم. 20% إلى 30% من الأطفال لديهم صعوبة في النطق ومشكلات في اللفظ، والتأتأة، والتلعثم، ويمنعون أنفسهم من التحدث.
وأشارت عبد الحميد إلى ما يُعرف في علم النفس بـ"اضطراب قلق الانفصال"، فحين ينفصل الطفل عن والديه أو أحدهما، يشعر بالخوف الشديد والقلق من عدم رجوع أمه، وفي هذه الحالة كثيراً ما يلجأ إلى الصمت لعدم قدرته على التأقلم أو تكوين صداقات أو الشعور بالألفة والانسجام، فكلما شعر الطفل بأنه غريب عن المكان يزداد تمسكه بعدم التحدث كوسيلة لا واعية للدفاع عن مشاعره.
وحول سؤالنا، عن وجود علاقة بين الصمت الانتقائي والصدمة، قالت: "الصدمة النفسية سبب من الأسباب العديدة التي تؤدي إلى الصمت الانتقائي بصورة أو بأخرى. المراهقون الذين عايشوا أوقاتاً عصيبةً كالحروب أو القصف أو التهجير القسري والأزمات، أو الذين مروا بتجربة مشاهدة حالة قتل أو موت، وأيضاً من تعرضوا لمحاولة تحرش جنسي أو اغتصاب، معرضون أكثر له، فمرور الطفل بتلك الخبرات الصادمة قد يكون عاملاً قوياً في لجوئه إلى الصمت".
من جانب آخر، يؤثر الصمت الانتقائي على الأداء الاجتماعي في حياة المصاب، سواء كان طفلاً أو مراهقاً، كذلك على تحصيله الأكاديمي في المدرسة، وشرحت دعاء عبد الحميد، قائلةً: "مع تطور الأطفال وبلوغهم سن المراهقة، فإنهم يسكنون في عالم أكثر صرامةً، وغالباً ما ينشئ طلاب المدارس الثانوية مجموعات اجتماعيةً، وسوف يثق الأصدقاء ببعضهم البعض ويشتركون في هوايات مشتركة، وتميل هذه الدوائر الاجتماعية إلى أن تصبح أكثر بروزاً وتأثيراً في مرحلة المراهقة والبلوغ. ويمكن أن يكون هذا الانفتاح الاجتماعي تحدياً كبيراً للمراهقين الذين يعانون من الصمت الانتقائي".
وتابعت: "غالباً ما يكون صعباً على الأفراد الذين لديهم التباكم، إخبار الآخرين باهتماماتهم، أو قد يكونون معزولين اجتماعياً من قبل أقرانهم لكونهم مختلفين. الخوف من التحدث، وإدراك أن الآخرين قد يلاحظون قلة تحدثهم، غالباً ما يتسببان في انسحاب المصاب".
وعلى المستوى الأسري، يمكن أن يكون التأثير مؤلماً ليس فقط على أولئك الذين يعانون من هذه الحالة، ولكن أيضاً على صعيد عائلاتهم، فحين يتم إشعار الأهل بمشكلات الطفل أو الابن المصاب، تزداد التوترات داخل أسرته بين الأم والأب أو بين الوالدين وابنهم، خلال محاولات العائلة فهم الحالة وعلاجها، وفي حال لم يتم التدخل الإرشادي للطرفين ستتعقد الأمور.
التحرر من الصمت
يمكن للطفل أو لمن هم في سنّ المراهقة التحرر من الصمت الانتقائي من خلال خطة علاجية فردية قوية تهدف إلى الشفاء والنمو، جنباً إلى جنب مع فرص التعلم من خلال المشاركة في الأنشطة الترفيهية والبرامج التعليمية وتمارين بناء الفريق.
وبالعودة إلى الأخصائية النفسية ولاء البرعي، فإن العلاج السلوكي المعرفي، هو الأسلوب المعتمد في معالجة حالات الصمت الانتقائي، وهو نهج يعتمد على فهم أن الأفكار والمشاعر والسلوكيات مترابطة، كما يهدف إلى مساعدة المراهقين/ ات على تحديد أنماط التفكير السلبية التي تساهم في قلقهم/ نّ واستبدالها بطرائق تفكير أكثر إيجابيةً وواقعيةً.
يعاني المراهقون/ ات المصابون/ ات بالقلق أو الرهاب الاجتماعي من خوف شديد ومستمر من أشياء مثل: الأوضاع الاجتماعية، اللقاء بأناس جدد والتحدث في الأماكن العامة
ويعمل المعالج/ ة بشكل وثيق مع المراهقين/ ات في أثناء العلاج المعرفي السلوكي لتطوير خطة علاجية قوية مصممة وفقاً لاحتياجاتهم/ نّ وأهدافهم/ نّ الفريدة.
تتضمن الجلسات تمارين مفيدةً وواجبات منزليةً لتحدّي الأفكار والسلوكيات السلبية. وبمساعدة المعالج/ ة، يكتسب المراهقون/ ات تدريجياً مهارات الاتصال لديهم/ نّ ويصبحون/ ن أكثر راحةً في التحدث في المواقف الاجتماعية والفصول الدراسية، بالإضافة إلى تطوير إستراتيجيات فعالة للتعامل مع توترهم/ نّ، بما في ذلك تقنيات الاسترخاء وتمارين اليقظة والتحدث الإيجابي عن النفس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...