شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
حين تكون الاختلافات مساحة للحبّ والسعادة

حين تكون الاختلافات مساحة للحبّ والسعادة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الجمعة 21 يوليو 202311:33 ص

أحبّ تلك الأوقات التي تترك لي ألف ذكرى وذكرى، أحاصرها في أزمنة كسولة بلا ذكريات. لمثلها ألتقط مئات الصور، وأنظرها كلما وقعت في فخّ اعتياد الأشياء.

أثناء رحلة مدهشة استمرت 6 أيام بالعاصمة الأردنية عمان، تدرّبت فيها على صحافة الحوار، تعرّفت على 35 صحفياً وصحفية، من أصحاب خبرات واسعة في المجال الإعلامي، قادمين من 15 دولة عربية، ممن وقع عليهم الاختيار لاجتياز برنامج زمالة صحافة الحوار، المقدّمة من مركز الملك عبد الله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات (كايسيد)، بهدف تبني خطاب إعلامي متوازن يرفض الكراهية ويجنح نحو السلام.

أثناء ذلك، وبعد عودتي إلى مصر، كرّرت على نفسي تساؤلات: "ما الفارق بين هذا التدريب وكل ما حضرته منذ عملي بانتظام في الصحافة عام 2010؟ وما الذي دفعني لأخبر صديقتي أنني لازلت هناك، ولم أعد بعد من أجواء هذه الرحلة؟

شاعرية اللهجة العراقية، وغناجة اللبنانية، وظرافة المصرية وبساطتها، وسرعة التونسية، وغرابة المغربية، وجدية السعودية، من قلب هذا التنوّع اللفظي خرج الحب والأوقات التي لا تنسى

فكرة جمع أفراد لا تتشابه لهجاتهم أو أفكارهم وأديانهم أو خلفياتهم الاجتماعية والثقافية -حتى لو من البلد نفسها- في مكان واحد، وإعطائهم الفرصة الكافية للتعارف بعيداً عن مواعيد الفعاليات، هي السبب الحقيقي لتميّز التدريب.

من اختلاف اللهجات خرجت ضحكات القلب، ظهرنا للمحيطين في الفندق المضيف كمختلّين، نقهقه بلا سبب، وحدنا فقط من نفهم أننا نضحك لأننا لا نفهم.

صديقي الليبي لم يكفّ عن قول: "تعبيرات وجهك تضحكني"، لأنه كلما تحدّث بلكنته السريعة ترتسم على ملامحي علامات تشبه التعطل الإلكتروني error، لأطالبه بإعادة جملته قبل أن يغرق في الضحك ونضحك جميعاً.

وأكاد أجزم أنني كنت في حاجة إلى مترجم لغوي لتفسير ما تقوله المتدرّبة التونسية، قبل محاولات فهم ما تقوله في سياق الموقف، كما نصحني المصري بقوله: "حاولي تتعاملي مع نغمة الكلام ولا تنتظري فهم الجُمل، كان غيرك أشطر".

شاعرية اللهجة العراقية المليئة بعبارات من نوعية: "تكرم عيونك" و"تؤمريني ستي"، وغناجة اللبنانية، وظرافة المصرية وبساطتها، وسرعة التونسية، وغرابة المغربية، وجدية السعودية، من قلب هذا التنوّع اللفظي خرج الحب والأوقات التي لا تنسى.

كما في اللكنات كذلك أيضاً في الأطعمة؛ تآلفنا بنقاشات طيبة حملت رائحة الصواني العربية المُغطاة بمذاق الفستق والجوز ومختلف المكسرات، أحاديث دارت حول ما نأكله في بلادنا، مع نصائح متبادلة بعدم تفويت أكلات بعينها في السفر لكل بلد عربي.

أكلت المنسف الأردني، وتعرّفت على ما يفرقه عن السعودي أو الفلسطيني، أكلت الفول والفلافل الأردنية التي لا تشبه نظيرتها في مصر، واستمتعت بمذاق الكنافة الساخنة بالجبنة كأنني لم أتذوّق حلوى من قبل، ارتدينا البشت الأردني في إحدى المطاعم التي توزعه على زائريها لمنحهم الدفء في الأوقات الباردة.

الجنس واللون والدين والأصل الثقافي واللغة والأعراف الاجتماعية، كهوف تحيط بنا جميعاً، الخروج منها مغامرة لا نعرف عواقبها، لكن المؤكد أنها تُبقي بلادنا قابعة في صراعات لا حصر لها إذا ما ركزنا عليها

أوقات التجول بالأتوبيس المخصّص لنا، حرصنا ألا تكون عابرة، قمنا بتشغيل أغنيات تعبر عن اختلافنا، متنقلين بين أحدث ما انتشر منها في كل دولة؛ ورغم إجماع الكل على فهم الأغنيات المصرية والتفاعل معها كونها الأكثر انتشاراً مقارنة مع الأخرى، إلا أن كل واحد/ة كان يزيد اندماجه/ا أكثر مع أغنية بلده/ا.

غنينا وتمايلنا وضحكنا مجدّداً. سلوكيات إنسانية انسابت حتى من أكثر الشخصيات تحفّظاً بتلقائية شديدة، كنا على وشك نسيانها في بلادنا بسبب الأزمات المادية الطاحنة التي انطبعت تأثيراتها على كل تحرّكاتنا وانفعالاتنا وتعاملاتنا اليومية، أو بسبب الحروب والصراعات العسكرية والسياسية عند البعض في بلدانهم منذ 2010 حتى الآن.

أخبرتنا هذه الأوقات ما لم تخبره لنا التدريبات الإعلامية ومنصّاتها كافة، أن لدينا ما يسع لجعل الأضداد تتقارب في مساحة ما.

الجنس واللون والدين والأصل الثقافي واللغة والأعراف الاجتماعية، كهوف تحيط بنا جميعاً، الخروج منها مغامرة لا نعرف عواقبها، لكن المؤكد أنها تُبقي بلادنا قابعة في صراعات لا حصر لها إذا ما ركزنا عليها، وهي نفسها مساحة حب وسعادة مشتركة في حال أتيح الحديث عنها في نطاقها الطبيعي، وتركنا للمشترك لعب دوره الأكبر، وقدمنا فرصاً لجيران المنطقة يتبادلون فيها الفن والضحك والأكل وكثير من اللطف.

لا يزال للتدريب بقية، لننفّذ في مراحله المقبلة مشروعات إعلامية تواجه خطابات الكراهية، وأياً ما يكون القادم، سأظل مديونة لهذه المساحة الإنسانية وفرصة استنشاق نفس من القلب، والعودة بذهنية جديدة تتسع للجميع... الجميع دون استثناء، أحباء طالما لا ينتهجون العنف أو يتخذون من النعرات الطائفية والقبلية دروع حماية لهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image