بلد المواويل الذي حجّ إليه المصريون قديماً... سوهاج

سوهاج مدينة استثنائية، متفردة، تحمل قدراً كبيراً من التنوع الثقافي والحضاري الذي توارثته عبر الزمن وجعلها تجذب الزوار والسائحين والمريدين على اختلاف مشاربهم، فالمدينة الواقعة جنوب مصر تضم العديد من الآثار الفرعونية والقبطية والإسلامية، من معابد ومقابر وأديرة ومساجد وغيرها من آثار لها خصوصيتها في التراث الإنساني، مما يجعلها ذات أهمية خاصة، لاسيما لدى المعنيين بالحضارات القديمة، فضلاً عن انها تتسم بالمباني والميادين الحديثة.

لذلك فالرحلة إلى سوهاج لها شغف خاص، فهي أرض الحضارات التي استقر الإنسان على أرضها منذ عصور ما قبل التاريخ، وتأمل وجوه الناس في شوارعها يُعطي انطباعاً بأنك تسير بين حفداء الفراعنة الذين عاشوا بها منذ عصور سحيقة.

بداية الرحلة... والانطلاق باتجاه الجنوب

استغرق الوصول إلى وجهتي 7 ساعات كاملة، من ميدان رمسيس بالقاهرة، حتى الوصول إلى ميدان الشهيد عبد المنعم رياض بسوهاج. كانت الرحلة بواسطة الحافلة (سوبر جيت) بناءً على نصيحة أحد الأصدقاء بالابتعاد عن القطار هذه الأيام بسبب بعض أعمال الصيانة البسيطة التي تُجرى بالطريق ويترتب عليه تأخُر الوصول.

الرحلة إلى سوهاج لها شغف خاص، فهي أرض الحضارات التي استقر الإنسان على أرضها منذ عصور ما قبل التاريخ، وتأمل وجوه الناس في شوارعها يُعطي انطباعاً بأنك تسير بين حفداء الفراعنة الذين عاشوا بها منذ عصور سحيقة

سعدت بأن الحافلة بها مقاعد فردية مما يوفر نوعًا من الخصوصية للركّاب الذين يحظون بها، وذلك على الرغم من سعر التذكرة الرخيص نسبياً (250 جنيهاً، حوالي 8 دولار). انطلقت الحافلة باتجاه الجنوب مخترقة الطريق الصحراوي في سواد الليل، وعند الوصول إلى وجهتنا كان الفندق في شارع المحطة ملاذاً مؤقتاً لفترة راحة سريعة قبل أن نبدأ الجولة في المدينة العريقة.

ملابس الحاج... والرحلة السنوية

الرحلة إلى سوهاج، هي رحلة إلى بلد المواويل كما ذكرت في الحكايات القديمة، وتعتبر مدينة أبيدوس الواقعة غرب البلينا هي قبلة الحجاج المصريين في الزمن القديم، فهي أشبه بمجمع المشاعر المقدسة التي تجذب كل من أراد التقرب إلى الإله. وتكون زيارة أبيدوس خلال أيام معينة من الشهر الأول من فصل الفيضان خلال أعياد أوزيريس التي يتخللها عيده الأكبر. وتعتبر هذه الرحلة أكثر الرحلات قربًا من مفهوم الحج في الأديان السماوية، يقوم بها المصري القديم لإعادة ذكرى أحداث أسطورة أوزيريس رب المنطقة.

لقد كانت ملابس الحاج تتلخص في ارتداء الحاج عباءة بيضاء تلف كامل الجسد ولا تظهر سوى اليدين والقدمين. فقد كانت أبيدوس مركزاً رئيساً لعبادة المعبود أوزيريس ربّ الموتى. وكانت هذه المنطقة عاصمة دينية لإقليم من أقاليم مصر العليا، حيث تضم معبد الأوزيريون الذي به ضريح أوزيريس، كما تضم أقدم معبد للمعبود أوزيريس والذي يرجع للأسرة الأولى.

طقوس الموت في مصر القديمة

تعود تسمية سوهاج ببلد المواويل، بحسب منشور معلق على جدار المتحف الوطني، إلى أن المدينة عرفت طقوس الموت منذ عصورها القديمة واستخدامها للمواويل في مختلف المواقف التي يمر بها الإنسان مثل الحزن، والمرض، والموت، والفرح، والعشق.

وقد توارث أهل سوهاج ألحان الحزن والأسى التي ارتبطت بأسطورة إيزيس وأوزيريس الخالدة التي تغلغلت في وجدان الشعب المصري، لذا كان الموال "الأحمر" الذي يعالج مشاعر الحزن والأسى والمرض، وكذلك الموال "الأخضر" في الحب والعشق، وهناك الموال المربع والمخمس والمسبع وغيرها من المواويل، حتى أن اشتهرت سوهاج بأنها بلد المواويل.

"الطينة" أول عاصمة لمصر القديمة

في سوهاج تقع "الطينة" العاصمة الأولى لمصر القديمة قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وهي مسقط رأس الملك مينا موحد القطرين ومقر ملوك الأسرة الأولى والثانية، ومنها حكم مينا مصر، وتعتبر الطينة أول عاصمة للوجه البحري والوجه القبلي معًا أو مملكة الشمال ومملكة الجنوب، وتعرف الآن باسم مركز جرجا وهو اسم مشتق من كلمة بربا التي كانت تعرف بها "الطينة" قديماً.

تضم سوهاج العديد من المناطق الأثرية والتاريخية مثل معبد سيتي الأول، ومعبد رمسيس الثاني، والأوزوريون في أبيدوس، ومعبد رمسيس الثاني وجبانة الحواويش ومقابر السلاموني في منطقة أخميم، والكثير من الآثار والأديرة القبطية مثل دير الأنبا شنودة (الدير الأبيض)، ودير الأنبا بشاي (الدير الأحمر)، ودير الأنبا بسادة، وكنيسة القديس أبو سيفين.

فضلا عن العديد من الآثار التي تكشف عن روعة المعمار الإسلامي مثل جامع الفرشوطي الذي يعود تاريخه إلى العصر الفاطمي، والجامع الصيني الذي شُيّد في العصر العثماني، ومئذنة المتولي القديمة في منطقة جرجا، وجامع الأمير حسن، ومسجد الفقراء، وغيرها.

للنهر الخالد في سوهاج وجه آخر

للنهر الخالد في سوهاج وجه آخر، فأول ما يسترعى الانتباه عند زيارة المدينة هو شريان نهر النيل المتدفّق الذي يمر بها في اتساع لا يضاهيه مروره بالقاهرة، فهو ليس ضيّقاً كحاله في كثير من المدن المصرية التي يمر بها ليسقي الأهالي بمائه العذب. عظمة النهر الخالد ليست هي الشيء الوحيد الذي يمنح المكان هذا التفرد، لكن كمّ المعابد والأديرة والمساجد، وسيرة من عاشوا بها وسردوا حياتهم على جدران المعابد، هو ما يصنع خصوصية سوهاج وخصوصية ناسها المتآلفين، الذين توارثوا الطيبة والألفة وحب العمل وتعمير الأرض عبر آلاف السنين.

وهو ما يبدو في تطور المدينة وبناياتها القديمة والحديثة، حيث يتضافر المعمار القديم مع طرز المعمار الحديث في صور عديدة ومتنوعة تتجلى في جسور وأنفاق ومبانٍ متنوعة، مثل جسر أخميم الذي يربط شرق المدينة وغربها، وشُيّد في خمسينيات القرن الماضي، ويتميز ببناء معماري فريد يجعله أحد المظاهر الحضارية اللافتة، ويعدّ أحد المرافق الهامة التي تخدم السكان في تنقلهم بين شطري المدينة.

من البنايات اللافتة أيضاً مبنى المدرسة الثانوية العسكرية في قلب مدينة سوهاج وتعتبر ثالث مدرسة ثانوية تم بناؤها في محافظات الصعيد. وقد بنيت في عشرينيات القرن الماضي وصُممت على طراز معماري كلاسيكي، بنفس شكل المدارس الإنجليزية في العشرينيات، ويبدو على مبانيها العظمة والشموخ والعراقة، حيث تعلوها قباب صغيرة ويشغل جدرانها الخارجية الشبابيك الطولية التي تعلوها أشكال هندسية مثلثة، ويتداخل في شكلها الخارجي اللون الأبيض بشكل محدود مع اللون البني الذي يغلب عليها. ويقال أن مظهر المدرسة الجمالي دفع الأهالي وقتئذ إلى الظنّ بأنها قصر للملك.

مسجد العارف بالله والقيسارية

عند الخروج من محطة القطار والاتجاه يساراً يوجد على بعد أمتار قليلة معلمان مهمان من معالم سوهاج، الأول هو مسجد سيدي العارف بالله، أحد المساجد التاريخية في سوهاج، تم بناؤه في القرن الثامن الهجري، وبداخله مقام العارف، وهو إسماعيل بن علي بن عبد السميع اليماني جاء من محافظة قنا واستقر في سوهاج. ويعتبر مسجد العارف بالله من أشهر مساجد سوهاج ويرجع تاريخه إلى القرن الثامن الهجري، ويلاحظ كثرة المريدين الذين يأتون لزيارة المسجد والمقام الموجود داخله.

على مسافة قريبة من المسجد يوجد سوق القيسارية الذي يعرف في بعض المدن العربية باسم "القيصرية"، وهو شكل من أشكال الأسواق الشعبية المنتشرة في بعض المدن المصرية والعربية. ويتميز بمحلاته الصغيرة التي تشمل مختلف أصناف البضائع من ثياب وخردوات وحلوى وبقالة، وأغلب مرتادي هذا النوع من الأسواق هن النساء. وتنتشر أسواق القيسارية في صعيد مصر، فمنها قيسارية أسيوط، وقيسارية المنيا، وقيسارية الفشن، وقيسارية جرجا، وغيرها.

جولة في المتحف الوطني

في مواجهة الديوان العام للمحافظة يقع المتحف الإقليمي على نهر النيل من الجهة الشرقية، ويعرض أهم القطع الأثرية التي استخرجت من مواقع متفرقة بالمحافظة. ويضم في أروقته مجموعة كبيرة من الآثار تمثل حقباً زمنية بعيدة من العصر الفرعوني والعصرين اليوناني والروماني، والعصر القبطي والإسلامي بما يعبر عن ثراء الحضارة المصرية في تجلياتها المختلفة، ويروي المتحف عن رحلة الحَج وتطورها بداية من الحَج إلى أبيدوس وحتى الحج إلى مكة المكرمة في العصور الإسلامية، مروراً بالحج عند اليهود والمسيحيين.

الرحلة إلى سوهاج، هي رحلة إلى بلد المواويل كما ذكرت في الحكايات القديمة، وتعتبر مدينة أبيدوس الواقعة غرب البلينا هي قبلة الحجاج المصريين في الزمن القديم، فهي أشبه بمجمع المشاعر المقدسة 

ومن أهم القطع التي يضمها المتحف تمثال كبير لرمسيس الثاني من الجرانيت، ورؤوس ملكية ترتدي التاج الأبيض مصنوعة من الحجر الرملي، والعديد من أدوات الزينة، والحلي، والمكاحل والعطور التي كانت تستخدمها المرأة للتزيّن في العصور القديمة.

مدينة سوهاج... تطور مستمر

تمر سوهاج بحالة من التجديد والتطوير المستمر، فقد تم إنجاز جسر محوري في ميدان الثقافة، وافتتح مؤخراً نفق العروبة بقلب سوهاج، ويتم في الوقت الحالي تجديد كامل لقصر الثقافة لكي تدبّ فيه الحياة من جديد بعودة الأنشطة الثقافية والفنية من خلال ندوات الشعر والأدب، ومن خلال الفرق الفنية السوهاجية التي تحيي ليالي الجنوب بالإبداع والفنون، مثل فرقة سسوهاج للفنون المسرحية، وفرقة سوهاج للموسيقى العربية، وفرقة سوهاج للفنون الشعبية، وفرقة سوهاج للآلات الشعبية.