لم يعرف المسلمون الأوائل مفهوم الرحلات بالمعنى الحديث، أي الذهاب لغرض الاستكشاف أو تنمية المهارات أو الاحتكاك، ولكن كعادة الأنشطة في ذلك العصر تم صبغها بصبغة عسكرية انضباطية دينية.
بالنسبة للباحث الإسلامي وائل عزت معوض، فإن الرحلات كانت قبل الإسلام قائمة على الرحلات الحربية والتجارية والسفارية أو الدبلوماسية.
يكتب: "توسع المسلمون فيما عرفه العالم من رحلات قبل الإسلام، كما وضعوا لها أهدافاً وأسساً استمدوها من مبادئ الإسلام، ولقد غير الإسلام مفهوم العالم للرحلة، فوضع لكل رحلة غرضاً، وهذا الغرض مشروط بعدم تعارضه مع بادئ الإسلام".
الفتوحات الإسلامية هي "أول رحلة عربية وإسلامية كبرى حول العالم القديم، بل هي عبارة عن مجموعة من الرحلات المتواصلة، فلأول مرة يخرج المسلمون من الجزيرة العربية بشكل جماعي كبير، ومهول، ومنظم في شكل فتوحات، وغزوات لأمم وبلدان ذات حضارات وثقافات".
أذكر هذا الخوف الذي اعترانا في رمي الجمرات، كان عدد من الناس لقوا حتفهم بسبب الزحام والتدافع، وكان الخلاف الفقهي على أشده، هل يجوز التنازل عن هذا الطقس حفاظاً على الأرواح؟ هل يمكن استبدال المكان بمكان آخر؟ كانت كل جنسية معزولة عن الأخرى، يتبعون قائدهم ومرشدهم في الرحلة
وأبرز البحث دور التجاربة كدافع قوي للسفر، "خاصة بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامة، وعدم وضع الحواجز أو العوائق".
وامتزجت التجارة عند المسلمين الأوائل بصبغة تبشيرية، ولعل التجار المسلمين هم من مثلوا خير تطبيق لنظرية الدعوة إلى الله بنظافة السلوك، والموعظة الحسنة، فلقد نشروا الإسلام في أماكن لم تطأها أقدام المجاهدين والجيوش.
ولكن إن امتثلنا للحظة إلى ما دعانا إليه طه حسين، وحاولنا أن نتبعد ولو قليلاً عن مناطق الإيمان والعصبية القومية، نرى دافعاً آخر يختلط باستقبال تلك الشعوب للإسلام، وهو الرغبة في الربح.
إن كان لدى التاجر العربي المحمل بالبضائع خيارات واسعة حول من يبيع لهم ما في جعبته، فسيختار التاجر المسلم، أو البلد المسلمة، تماماً مثلما تضبط بعض الدول النامية أوضاعها الاقتصادية والسياسية لتسهيل الحصول على قروض لتمويل مشاريعها، أو لجذب السياح، وهو ما حدا السعودية على جعل نفسها جاذبة للاستثمار والسياحة.
لم يكن النمط العربي أو الإسلامي مميزاً كما ادعى الباحث الإسلامي، ويرجع باحثون فرنسيون هذا النمط إلى اليهودية، مع بداية ظهور إله عالمي، وبدايات فكرة التبشير بأخلاق تخص العالم والبشرية وليس جماعة بعينها، وامتزجت بالفلسفة اليونانية القديمة، لتخرج لنا هذا الخليط الذي لا يزال هو الغالب والمؤثر على الحضارة الغربية الآن، كما كان في نقاط التوهج في تاريخنا العربي والإسلامي.
السفر كسياحة لم يظهر سوى في القرن السابع عشر في أوروبا الغربية، عندما بدأ الأرستقراطيون الأثرياء السفر للاستكشاف الثقافي والترفيهي، وكانت تعرف باسم "غراند تور"، مستلهمين تجارب تعود إلى اليونان وروما.
ولم يعتبر السفر سياحة ظاهرة سوى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مع تطور وسائل المواصلات، خاصة سكك الحديد والسفن، وبات السفر أكثر تنوعاً وتخصصاً مثل السياحة الدينية، والسياحة الصحية، وسياحة المغامرات، والسياحة الثقافية.
ولكنها، نعود ونكرر، كانت حكراً على طبقة أرستقراطية غربية غنية.
ولكن ماذا عن اليوم؟
ماذا عنا نحن؟
إذا اتخذت دائرة الأصدقاء والأقارب والمعارف، وأشباه الأصدقاء على فيسبوك، الدائرة الواسعة المحيطة بي في مصر، فإن معظم الدافع للرحلات هو السفر لتحسين الوضع الاقتصادي ويسمونه "غربة"، أو السفر إلى مكة والمدينة للحج والعمرة، أو السفر لتنمية المهارات والتحصيل العلمي.
هل تحدثتم يوماً مع أحد أقاربكم القادمين من الحج؟
هل أنصتم إلى حكاياتهم؟
أنا فعلت، وأفعل، ليس لأني حججت وأنا في نهاية الثانوية العامة، ولكن لأعرف ماذا لفت انتباه الآتي من الحج من شؤون الحياة، وفيما تناقش مع أعضاء الجاليات الأخرى العربية والمسلمة، وبأي لغة؟
لا شيء، سوى الدعاء إلى الله، ومغامرات رمي الجمرات التي كاد أن تطلع روحه فيها بالمعنى الحرفي، والثواب والبركة.
أنا نفسي لا تحتفظ ذاكرتي من الحج بشيء ذي بال، كنا مهمومين في الطريق كثيراً لأننا كنا نسافر وفقاً للوائح قديمة لم تعد تتماشى مع المستجدات القانونية، وكان يمكن أن ترجعنا الشرطة في أي لحظة، ثم غرقنا في نقاشات حادة وكثيرة تخص المسائل الانضباطية في الحج، ما المسموح ما المحذور؟ وأذكر هذا الخوف الذي اعترانا في رمي الجمرات، كان عدد من الناس لقوا حتفهم بسبب الزحام والتدافع، وكان الخلاف الفقهي على أشده، هل يجوز التنازل عن هذا الطقس حفاظاً على الأرواح؟ هل يمكن استبدال المكان بمكان آخر؟
لم نلتق بالجاليات العربية والمسلمة الأخرى لنتبادل وجهات النظر، لم نعقد مناظرات مثلاً مع الفرق الإسلامية الأخرى مثل الشيعة الذين كان لهم حضور بارز، ولكن كانت كل جنسية معزولة عن الأخرى، يتبعون قائدهم ومرشدهم في الرحلة.
كان ذلك في عام 1999، قد تكون الأوضاع تغيرت الآن، ولكني لا أعتقد أنها تشبه رحلات الحج المقدسة التي كانت تحكي لي عنها جدتي إلى مقامات أولياء الله الصالحين في مصر، من الإسكندرية إلى أسوان، خاصة المولد الأعظم والأكبر، أم الموالد، مولد السيد البدوي في طنطا.
رحلة بأطباق العدس وأكواب الشاي
كانت جدتي تحفظ العديد من الأشعار التي تقام في الموالد، وتحتفظ بتفاصيل ثرية ومكثفة عن الرحلة من بدايتها، كيف تأخذ معها الأواني والكثير من العدس والخبز، وتعد الطعام مع الأخريات، ليتشارك فيه الجميع.
وكيف كان زوجها وأصحابه يذهبون ويرجعون بأكوام من عيدان القصب وحلويات المولد، تلك الدائرية والمستطيلة والتي على شكل عروس من السكر.
جدتي التي حجت واعتمرت ولكنها لم تحك الكثير سوى عن فرحها بتأدية فرض من الفروض الإسلامية.
انهالت علي الذكريات وحكايات جدتي، بصوتها الراعش أحياناً، والصادح المغني بأغاني المولد التي كانت تحفظها عن ظهر قلب، رغم أنها لا تقرأ ولا تكتب، ووجدت نفسي أطرح تساؤلاً: هل كان سفر المصريين أجدادي إلى تلك المقامات المتناثرة في شمال مصر وجنوبها بمثابة حج ديني؟ هل كان مؤسسو تلك الحالة ينافسون مكة؟
فاقت أعداد الحجاج إلى السيد البدوي الحجاج التقليديون المسافرون إلى مكة في بعض السنوات، بحسب الباحثة، وأثارت السلوكيات، التي اعتبرت في الثقافة الغربية غير لائقة، فضول الرحالة الأوروبيين، من رقص ودعارة مقدسة، مما جعلهم يتناولون تلك المظاهر باعتبارها خرافات
قرأت في بحث نشرته الجامعة الأمريكية عن موالد السيد البدوي ما يجسد ثقافياً نظرة جدتي. كتبت كاثرين مايور جوين، المؤرخة الفرنسية الشهيرة وأستاذة التاريخ في جامعة السوربون: "كل عام في قلب الدلتا يقام احتفال اعتبر لقرون هو الأكبر في العالم الإسلامي، مولد السيد أحمد البدوي في طنطا".
وترجع الباحثة تلك الظاهرة إلى القرن الثالث عشر الميلادي، منذ ذلك الحين يتدفق ملايين المؤمنين من المناطق والبلاد المجاورة على طنطا، رابع أكبر مدينة في مصر، لتكريم البدوي، وصفته بأنه "قديس محبوب للغاية يشفي العاجز، ويجعل النساء العاقرات يحبلن".
فاقت أعداد الحجاج إلى السيد البدوي الحجاج التقليديين المسافرين إلى مكة في بعض السنوات، بحسب الباحثة، وأثارت السلوكيات، التي اعتبرت في الثقافة الغربية غير لائقة، فضول الرحالة الأوروبيين، من رقص ودعارة مقدسة، مما جعلهم يتناولون تلك المظاهر باعتبارها خرافات مختلطة بممارسات وثنية معادية للإسلام.
وترى الباحثة في تلك الاحتفالات وما تمثلها من ثقافة "مرآة للإسلام المصري، توحد المؤمنين العاديين والفلاحين والفقهاء وزعماء الأخويات الصوفية في حماسة روحانية مشتركة"، ووصفتهه بأنها تجسد المظهر الاحتفالي للإسلام.
أو كما تقول جدتي كلنا كنا نأكل من طعام واحد، والطبق فتة العدس، وأكواب الشاي.
السندباد واكتئاب ما بعد الرحلات
لا يمكن أن نتحدث عن الرحلات دون أن نتطرق إلى حكاية السندباد البحري الخرافية، ذلك الرجل التاجر الذي يعشق الترحال، رغم معرفته بالأخطار التي قد تزهق بحياته، فكم من مرة مات الجميع وظل وحده حياً، ثم يحمد الله على نجاته ويعد نفسه بألا يكرر الرحلة أبداً ويقضي عمره بين زوجته وأولاده.
قالت لي صديقة باحثة في الجامعة الأمريكية إن هناك رأياً قوياً مفاده أن تلك القصة مختلقة، وأنها لا تنتمي إلى المجموعة الأصلية لحكايات شهر زاد، وأميل معها إلى هذا الرأي، فهذا النمط من الوعي بالرحلات لم يكن معروفاًَ في عصر الفتوحات العسكرية والانضباطية الأخلاقية، وكما يقول علماء الجغرافيا البشرية كانت القيم جامدة، صلبة، أرضية، تنتمي إلى الجذور والعادات والتقاليد، على عكس النمط السائد منذ زمن كولومبوس، وغارات البرتغاليين، إذ بدأت تسود القيم البحرية، السائلة، المتمحورة حول الفرد والمنتصرة له في مقابل الجماعة والعادات.
حكاية السندباد الحمّال تجسّد أكثر روح ذلك الزمان
ولكني أرى أن حكاية السندباد الحمّال تجسّد أكثر روح ذلك الزمان، ليس ذلك فقط ولكن تعكس بشكل أسطوري ما يعتمل في نفوس بعض الذين تجذبهم إعلانات الشركات السياحية، وأخلاقيات الاستكشاف والمغامرة، ولكن فور أن ينتهوا برحلتهم يشعرون بخواء شديد، قاهر، يسمونه أحياناً اكتئاب ما بعد الرحلات.
السندباد الحمال، تلك الحكاية التي لا تزال محتفظة بتوهجها وجاذبيتها الفنية بين حكايات ألف ليلة وليلة، كان رجلاً فقيراً يحمل متاع الأغنياء خاصة من التجار بمقابل مادي ضئيل، وشخصيات الحمالين كثيرة في ليالي العرب، ويوقعه حظه مع شلة أصدقاء أغنياء، معهم الكثير من المال ولكنهم يقضون حياتهم في بكاء وعويل وندم، مما يثير فضوله.
وقبل أن يموت آخرهم يعترف له بأنه هو أيضاً اسمه السندباد، ويحذره من أن يدخل نفقاً معيناً، ويترك له كل ثروته، ولكن السندباد الحمال، مأخوذاً ببركة ولعنة اسمه يدخل هذا النفق، ويرى أشياء تخلب عقله من جمالها وروعتها، وعندما يعود عودة قهرية قسرية، يعجز عن الاستمتاع بالحياة لأن ما وجده على الضفة الأخرى أمتع وألذ، وقد حرم منه إلى الأبد.
لا أجد قصة تجسد حالة اكتئاب ما بعد الرحلات كتلك القصة، فهل تتفق معي أم تراني أبالغ؟
الخلاصة
الرحلة السياحية كما نعرفها اليوم لم تكن موجودة في القاموس العاطفي للرحالة الأوائل، فبحكم عادة زمانهم فقد عاشوا في زمن عسكري انضباطي قومي. الكثير من كتب الرحالة العرب تمتلىء بحكايات تقلل من قدر الشعوب الأخرى، وعدم تفهم للاختلاف. قد تجد إحساساً استكشافياً هنا وهناك، عن عادات وتقاليد تلك الأقوام، ولكن محور الحديث يقوم على شأن ديني أو قومي أو أسطوري.
حسناً، فلنضيق زاوية الحديث، ماذا عني أنا؟
إذا قلت أني أعدة العدة لرحلة عندما أتمم الأربعين عاماً بعد سنة بالتمام والكمال إلى كولومبيا، بلد لا نظام مسيطر فيها، ولا عادات وتقاليد حاكمة مثل تلك التي في الشرق الأوسط، ولا إدمان للتملك والنجاح مثل الغرب، أختار شاماناً وأغرق نفسي في طقوس مبهجة، مسكرة، تعيد إلي إحساسي بالقداسة.
هل تراني أتنكر لهويتي العربية الإسلامية كما يمكن أن يقول قارئ متأثر بباحث مثل عزت؟
هل تراني أدوس على قيم أجدادي الذين التحفوا بالأغراض العسكرية أو التبشيرية في رحلاتهم، كما يمكن لفقيه أن يزعم؟
لا، أبداً.
أجدني أكمل إرث السيد البدوي والموالد الصوفية، ولكني أقول لجدتي التي كانت تظن أن العالم كله مصر، وعندما تخرج من مصر فإنها تخرج من العالم، فمصر الآن هي العالم كله، وأن الباحثين عن البهجة، البهجة الصوفية التي يتشارك فيها الجميع طبق العدس، والنشوة، والرقص، ويعود الجميع في نهاية الرحلة، ليكتشفوا أن حكايتهم كلها حكاية واحدة، الفقير والغني، الإنغلوساكسوني والإفريقي، النادل الذي يقدم الطلبات، والسائح الذي يلتهم الطعام، ومقدم الخدمة، والمستثمر أو المالك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...