حياكة الكلام
في هذه الليلة الباردة، ليس معي في السرير إلّا قربة الماء الساخن. كنت أحاول مساومة الانهاك الذي أصاب جسدي من المشاوير الطويلة بالنوم، عندما وصلتني رسالتك تقول: "ميري كريسماس"، مع وجه إلكتروني مبهج يرمز للاحتفال. قلت لنفسي: "أي احتفال، وأي كريسماس، وأنت لست معي؟". لكني عوضاً عن ذلك، أرسلت لك قبلاتي الإلكترونية التي تعبّر عن السعادة وبهجة الأعياد.
تعذّبني الأعياد تماماً مثلما يعذّبني الغياب. إنها الوجه الآخر للوحدة. وحدتي ليست كالوحدة المتعارف عليها، فالشخص الوحيد يستطيع أن يقول إنه وحيد، يدرك هذه الوحدة ويتلذّذ بالشكوى منها. لكن كيف لي أن أتلذّذ بهذه الشكوى، وأن أعترف بأنني وحيدة وأنت هنا؟ نتحدّث ونتشارك ونلتقي على فترات بعيدة. تماماً مثل الأعياد، لكن على الأقل الناس يعرفون عيدهم.
توقف قلبي عن رعونة الحب منذ زمن، ومع ذلك عندما تمر في خيالي بين انشغالات اليوم، لا أستطيع أن أمنع نفسي من سؤال: "ترى ماذا يفعل الآن؟". السؤال الذي أطرحه ببساطة، فيتخبط في أركان روحي ويعود لي كأكثر الخواطر رعباً على الإطلاق. لا أريد أن أعرف ماذا تفعل الآن. أطرد هذا الخاطر بصعوبة، أهرب من طواعية الخيال الذي لطالما أسعدني، ولطالما جذبك لي.
القدرة على التخيّل سلاح ذو حدين، تدمّرني من منطقة أماني. تتبدّى لي في الخيال وأنت في أكثر المشاهد حميمية وأكثرها بساطة. أتخيّل أنفاسك المختلطة بدفئك وهي تنسكب على كل ما هو جوارك، رائحة جوز الهند الهادئة التي تحفك، حركة يدك البسيطة وأنت مرتبك، حتى نبضات قلبك لم يذهب إيقاعها من أُذني منذ سمعت انتظامها الخافت، السريع. أتخيل: مع من تحتفل الآن؟ من الذي يسمع قلبك الآن؟
أعرف أن رؤياك تلزمها معجزة. تخبرني أنك لا تعترف بالاحتفال بالعيد ولا بالحب، لكن في عيد قريب، عندما أعايدك وأنا أخطف منك قُبلة، سأجعلك تعترف بالعيد والحب والمعجزات... مجاز
أتجاوز وحدتي غير المعترف بها في الأعياد بأن أشاهد أفلاماً عنيفة، لا تشبه طبيعتي الحالمة، لكنها تشبع رغبتي المكبوتة في ممارسة الشرّ واستخدام كيدي الذي لم أفعّله يوماً. لا أريد أن أشاهد أفلاماً رومانسية أو اجتماعية تثير فيّ رثاء الذات وتذكّرني بكل المشاهد التي عشتها والتي لن أعيشها أبداً. تعجبني لعبة محاكاة الشر عن طريق الأفلام عندما يملأني الغضب.
هل تذكر عندما قصصت عليك فكرة رواية جديدة عن امرأة تقتل حبيبها بالعدوى؟ أردت أن أضع نهاية تجعل النساء تصفقن وتصفرن من الحماس والفرحة. أخيراً تجرأت فتاة حالمة وقتلت الرجل الذي يعذبها بالحب. أردت أن أنتقم لحماقتي في رواية، انتقام الضعفاء لحماقة اختيارية.
أتجاوز وحدتي المتخيلة في الأعياد بممارسة الحب مع الطعام، الطعام الذي تنصحني بالبعد عنه تحديداً. العديد من أطباق الأندومي، المكرونة بالصوص الأبيض الكريمي، المشروبات الغازية والعصائر المعلّبة، البطاطس المقلية، شطائر السوسيس والبرجر وكل اللحوم المصنّعة.
كنت تقبل على طفولتي سعيداً، مندهشاً، متحمساً، وكنت أدّخر لك بذاءتي المحببة
أنا لا أنتقم من نفسي، ولا أدللها، أدرك جيداً فكرة الأكل العاطفي، لكن صدقني هي ليست عاطفتي ما تحرّضني على الأكل، ولا أنا امرأة عنيدة (حسناً، حاول أن تصدق هذا) تريد أن تخالفك، أنا فقط لا أريد الحياة الصحية الخالية منك، ولا أرغب في المزيد من الحرمان من الطعام، فيكفيني حرماني من وجودك.
أفكر أحياناً في الخروج مع آخرين. أُعلِمك بالموعد قبلها، كطفلة تستأذن من أبيها، أشعر بسخافة الأمر ومع ذلك ألقي بنفسي فيه. الغريب أنني عندما أقول لك "خرجت مع فلان" تسمعها أنت: "أنا لا يمكنني انتظارك"، رغم أنني أقصد أن أقول "انقذني".
أقنع نفسي أنني أخرج مع الغرباء حتى لا أتعلّق بك وأبني حياتي على فرضية وجودك. لكن في الحقيقة، خروجي مع الغرباء يثبت لي كل مرة أنه لا بديل لك، لا أحد يشبهك، أنت الذي كل ذرّة فيك تعجبني. لا أحد أنتبه له بكل كياني مثلك، لا أحد أغار عليه من نظرة مثلك، لا أحد حتى صمته يثيرني مثلك، لا أحد يجعلني النسخة الحُرّة الحقيقية من نفسي غيرك.
من قلة الأدب أن تقول لي كلمات مثل: "أهلاً، وشكراً، وعفواً"، من قلة العقل أن تتركني في الأعياد مع قربة الماء الساخن ورسالة على هاتف... مجاز
أعرف أن خروجي مع فلان لا يغضبك، لكنه يجعلك تقاوم خوفك باستهانة وضحكة ومحاولة لإقناعي أن أفتح قلبي للحب. لو أنك فقط تعرف أن خروجي مع فلان يزيدني تشبّثاً بك ورغبة فيك، لكنت وفّرت خوفك وطلبت مني أن أغلق قلبي عليك.
أتجاوز وحدتي المُخترعة في الأعياد بالمشي وحدي في الشوارع الباردة. أذكر أن أحد هؤلاء الذين خرجت معهم رفض أن نتمشى، فعرفت أننا لن نستطيع أن نصبح حتى أصدقاء على الهامش. من لا يعرف قيمة التمشية لا يستحق الصداقة البسيطة التي نتشارك فيها الضحكات والكوميكس والأسى المغلف بالأمل.
أحب تمشية الشتاء خاصة، وقدمي تقفز بين برك الماء وعيناي تلمع لفترينات الدكاكين وقلبي يهفو للمقاهي، أحبها لأنها تحرّض مشاعري على الانفلات من الحزن والغضب لبراح الحنين والشجن، فتتحول المآسي داخلي إلى أغنيات وأحضان وهمية ومشاهد لتساقط المطر على وجوهنا. تعيدني التمشية للخيال الطيب، لابتسامة تنسيني نفسي، للمسة تطرد الشياطين من روحي، لأصواتنا معاً عندما يختلط البرد بالدفء بالحب.
في أحد الشوارع المغسولة بالمطر، رأيته يجلس على الرصيف وقد صقله الهمّ، فلم يبق منه سوى ثيابه الحُمر وذقنه البيضاء. بابا نويل الذي يأتي كل عام ليمنحني خيبة جديدة وأمنية لا تتحقق. أثار في التعاطف بأصابعه الهزيلة التي تمسك سيجارة من النوع الرخيص. يبدو أنه في فاصل عن عمله الآن. جلست جواره على الرصيف وسألته عن أمنيته للعام الجديد، تعجب وقال: "أتسألينني وأنا من أسأل؟". جاوبته أن بداخل كل امرأة ساحرة صغيرة، إن لم تجد ساحرها الذي تحبه صنعت هي السحر، وان وجدت ساحرها استحال بين يديها لإنسان وسألته هي عن أمنياته، غير أن المرأة لا تمنح الخيبات.
أتحسس خيبتي في هاتفي كل عام، عندما تقول لي: "ميري كريسماس"، في رسالة. في كل الأعياد تراسلني تماماً في اللحظة التي يحتفل فيها العالم. تريد أن تقول إنك تذكرني، رغم أنك تعرف أنني أريد أكثر من الرسالة، لكنك مثل روائي يقرّر أن يحول المعنى المجرد إلى شيء محسوس أو مقروء.
تتبنى نظرية أن الإظهار أفضل من الإخبار، وأنا لست بخيلة في نصوصي، وأريد في المقابل كل المشاعر المجرّدة والمحسوسة. ماذا تعني ميري كريسماس؟ أين وجودك؟ أين صوتك؟ صوتك ذراع وكف وأصابع، تمسيدة وضمّة وعناق، صوتك اعتذار عن هموم وسخافات العالم، صوتك عالم، صوتك يحل كل مشاكلي... إلا واحدة.
في عيد قديم كتبت لك: "تعرف أن العيد يلزمه رؤياك، وأعرف أن رؤياك تلزمها معجزة. تخبرني أنك لا تعترف بالاحتفال بالعيد ولا بالحب، لكن في عيد قريب، عندما أعايدك وأنا أخطف منك قُبلة، سأجعلك تعترف بالعيد والحب والمعجزات".
كانت مازالت براءة الحب تزكم أنفي عن رائحة الوحدة الحقيقية. كنت ما زلت مؤمنة بالقُبلة والمعجزة في الحب. كنت تقبل على طفولتي سعيداً، مندهشاً، متحمساً، وكنت أدّخر لك بذاءتي المحببة. من الحماقة أن تحبّ امرأة مثلي ولا تملأ ثغرها بالأغاني وأذنيها بالهمس المحموم. من قلة الحياء ألا تنظر إلى التواء جسدي ونحن بين الناس، من قلة الحنان ألا تقاوم عاصفتي وكرهي بجسدك، من قلة الأدب أن تقول لي كلمات مثل: "أهلاً، وشكراً، وعفواً"، من قلة العقل أن تتركني في الأعياد مع قربة الماء الساخن ورسالة على هاتف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...