القبلة
وحين يعبر المغيب، أمسك برقبة الليل، ألتفُّ كسلسلةٍ من زفيرٍ أسود… أبقى معلّقة هناك أراقب المارة حتى يتبخّرون في صقيع كانون، أتحيّن الفرصة وأهبط على أكفِّ الغيم الغاضب. أنا هي أنثى الراكون أسرق حبات العنب المجفّف من آنيتك كل ليل… فاحترسني.
قناديل السمر تعكس على شجرة الكستناء العاقر وشاية الخطايا، هناك في أول الرصيف يمتدّ نسيج الحديث الذي يدور في الداخل، يتكوّم جبالاً من نسيجٍ ملوّن، لو فردته يطول لفحة يتوشّح بها الكون. أقترب من عتبة البيت وعلى السجادة الأرجوانية الصغيرة، أشمّ عطرها، ألسواي تقشّر حبات اللوز المحمّص؟
أعلم أن هناك سرّاً، جُعلت الشبابيك لتفشي الأسرار، السكون ضيف للردهة. أقف على قوائمي، وألعق ذيلي الكثيف، أشذّبه كما تفعل النساء بشعورهن، ليس لنوايا الفتنة أفعل، فالذيل عندنا مؤونة علينا ادخارها جيداً لقفزة طويلة مباغِتة، كجنديّ يستعدّ للمعركة، أنهيت ترتيب الأمر، 'كوانتي' أخضر بلون العشب الغامق البعيد في لوحات الزيت، بجانب الهاتف الأرضي، لدي واحداً مشابهاً تكنّره حبات لؤلؤ، لم أصدفه منذ زمن.
لطالما نسيتُ شباك المطبخ مفتوحاً، ولطالما أطلت النقد. أقفز كمن يطارد فكرة، وبعد برهة، تدخل من أخالها الفتاة وتغلق الباب وراءها، ليغدو الظلام مسيطراً، تليه رائحة التبغ، وحدها جذوة السيجارة تلوح صعوداً ونزولاً، فجأة تُفتح النافذة، ومجدداً الباب، يا للحظ! كاشف إضافي للخبايا.
أقف على قوائمي، وألعق ذيلي الكثيف، أشذّبه كما تفعل النساء بشعورهن، ليس لنوايا الفتنة أفعل، فالذيل عندنا مؤونة علينا ادخارها جيداً لقفزة طويلة مباغِتة، كجنديّ يستعدّ للمعركة... مجاز
صحن الخزف الأبيض انزلق وأحدث جلبة استدعت حضورك. أين أذهب. يا إلهي ساعدني. هناك خلف البراد يبدو منطقياً، أضأتَ الضوء، وطلبتَ اتصالاً، هل تتصل بي لتتيقن بأني لن آتي؟ نعم إنها ترد: "حبيبتي… أخبرتك بأن علي أن أنهي الأمر… نعم اليوم سننتهي".
علاقة عابرة تدّعي بأنها تُبتر الليلة. أمر استدعى غبطتي، لكن… سرعان ما أتى ذاك المغص لأسفل المعدة، مَن تلك التي تعد?
أطفأتَ الضوء وذهبتَ إليها، لم يكن لليقين سبيله إليك يوماً أيها المنظَّم، تخفي الأثر وراءك بعد كل خطوة، لكنها الغلطة التي تساوي ألفاً، خلتك أمامي للحظات تُنكر وتُبرر. ما عساك قائل حين أقف أمامكما، خائن وشريكة، وقد قطّعتَ أوصال الشّك بسكينٍ مثلّمة، تُراها جميلة؟
هل لي أن أجرؤ وألج الصالة، أم هول ما سأشهد يخدّر الحواس فلا تمضي قدماً؟
أضواء متلاحقة ترتطم بجدار الممر المودي لكما. ها هي استقرّت، لابد وأن هيو غراند يقبّل جوليا. يسري البرد في أوردتي، تتجمّد أطرافي. لم أختبر ارتباك أنثى الراكون من قبل، أراهن بأنه أقسى من ارتباك أي بشري. لربما كتم الغضب الهمجي الذي ورثته عن جدتها، أحدث هذا الفرق.
يالوقاحتك! فيلمنا المفضل؟
سكين الحفلات هنا وقد لطّختها بقع الشوكولا، هي أمسية تخصّها إذن، عيدك في الصيف، نعم، برجها الجدي، تحمل صفاتي إليك فتنتقدها على الدوام.
شموع في كل مكان بكت غيابي القسري، وبعضها يكابد النهاية غرقاً بجبّ الدمع، تريد أن تسجّل ما يؤلمني فتمثّله لي حين أعود، وهل سأعود؟!
أغمس قفازي بلون العشب بالماء، أمسح عني الدماء، وألعن أقداراً جمعتني بأنثى لبستْ قناع الرضا فهُدر ماء وجهها... مجاز
بصقتُ على كفيّ وتلمستُ قناعي، نعم ها هو. تحسّستُ فروه الناعم، قناعي الملازم لي، لابدّ سيبقيني دون الخجل والخوف وكل شعور غريب يباغتني هناك، أمامكما… سيخفي فطرتي كما تفعل نساؤكم في حفلات تنكرية.
ها قد وصلتْ، حبستُ أنفاسي واسترقت النظرات، تراقصها. نعم هذا ما توقعته وأنكرَته رغبتي لتثبته هي بثوبها الأسود مكشوف الكتف، في حين يستر شيئاً من الآخر الدانتيل. ترتدي من القفازات واحداً بالجهة المعاكسة، ذوق أنثاك اليوم رفيع سيد رتيب.
ترفع شعرها بدبوسٍ من الفضة، أعرفه جيداً، ويحك وويحها، دبوس شعري الذي يعلوه تمثال الحرية؟
جيناتي من جداتي دفعتني لأنقضّ عليها، لكن ما لجمني استدارة لفتاتك يا هذا، ماذا لدينا هنا! فستاني الذي أضعت! تضحك كلّما أخبرك عنه، وتُدهش في تهكم: "فستان! في المرة القادمة عليكِ أن تُضيعي نفسك".
نعم فستان يضيع، سأردّدها على مسامعك ألفاً، يضيع فستان طالما هناك وغد على وجه الأرض.
تناور لتصل لهاتفها الذي يرن، تلفّ يمناك خصرها فتكاد تقع لتسندها بالأخرى وتحملها عالياً علوّ ضحكتها البلهاء المسالمة… هذا أنت! هتلري الطباع، الرب الأعلى الذي يُعبد، فلا مخالفة ولا عصيان، رؤيتك السيل الجامح الذي يجرف ما يعترضه من مخالفة.
أظفارها الطويلة الساحرة تنغرس بشعرك، والهاتف المشتعل مثلي يلحّ. تراها كم تواكلت على الوقت حتى طالت هكذا؟ ألذاك أحبَبتها؟ كلّما تنمرتَ على أظافري القصيرة، أقولها وأنا أشيح بوجهي عنك: "لم يراهنك أحد على أن ترتضي فتاة لا تضع جلّ اهتمامها بنهايات الأظافر".
قوائمي الأربع تسير نحوكما، لا شيء ينفع في تهدئة غضب أنثى الراكون. الحكمة تتلو مزيداً من المثالية، وبصوتٍ عالٍ يرتق الضمير رغبات همجية، صرخت فتاتكَ حين كشفت حضوري، وقفتُ على قوائمي الخلفية، وصرختُ بصوتٍ أخافني قبلها، لأول مرة أُنصت لهذا الرعب الراكوني! تمتمتُ بشتائمٍ لك ولها، وقفزتُ عالياً، وصلت بفضل ذيلي المساند لوجهها، حركة سريعة من مخالب اليد اليسرى كانت كفيلة أن تفجّر عيون دماء، سالت أنهاراً لأسفل الذقن.
لكم وددتُ أن أهديك سيناريو مماثلاً، لكن علي الهرب قبل أن يصل صحن الكريستال لجمجمتي فيهشمها. تطايرت حبات الزبيب، فكُشف عن حبوب المهدئ المختبئة، لم تعد كذلك ككل شيء بعد اليوم.
هرعتُ للمرآة أصرخ رعباً وألماً: "وجهي… لقد تشوهتْ… هذي الهرة اللعينة الضخمة دخلتْ، كيف دخلتْ، كان علي أن أغلق نافذة المطبخ، ليتني أستمع لنصحك، اللعنة على السجائر، وعليك حين تضطرني لأدخّنها خلسة في المطابخ".
أصرخ وألعن، والدم غزيراً يفور معي كبراكين من أسى، فرحتي بفستاني عاري الكتف الذي وجدت، واجهتْها ليلة تراجيدية عرّتني كاملة سوى من قناع، أدوّر ذاتي التي آلف، لأصطحبها ونتوارى عن الأذى، أضعتها… فقدري أن أبذل بدل ضائع كلما وجدتُ ضالة، أغمس قفازي بلون العشب بالماء، أمسح عني الدماء، وألعن أقداراً جمعتني بأنثى لبستْ قناع الرضا فهُدر ماء وجهها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...