شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
غرفة نوم باردة وسرير بنقوش بيضاء

غرفة نوم باردة وسرير بنقوش بيضاء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والنساء

السبت 15 يوليو 202311:46 ص


 من الصعب أن تظلّ دون حدود تنتمى إليها. تحت وطأة الرغبة العارمة، تؤدي دوراً تقليدياً، حين تملّ تنام على كنبة الأنتريه. الموت لا يعنى دفن الأثاث أيضاً.

أكّدت له أن حجرة النوم التي كانت فى الأصل شجرة، ينتعش نبضها بمجرد لمسة من المرأة الأولى التي تطبع صورتها فى ذاكرة المرآة، وتنتشر رائحتها عبر مسام الخشب إلى أن ينخره السوس. الرائحة التي تعني أن كل سرير واحد يعني امرأة واحدة.

كان عليها أن تدفع ثمن كونها ابنة وحيدة تعيش مع أم تعاني من مرض السكري والضغط، كلما تقدّم رجل لخطبتها، تبكي الأم: "لا تتركيني". فلا تتركها، حتى جفّ كل عرق حي فيها.

أحيانا تقدم أعذاراً لإقناع ابنتها بأسباب الرفض؛ فتحذّرها من الزواج من رجل يعمل في وطن آخر، قائلة: "الغربة صعبة"، أو من آخر لم يحمل هدية فى زيارته الأولى، ساخرة: "بخيل "، وعندما أصرّت على الزواج من زميل لها في العمل، شُلّت الأم.

أزيز الكرسى المتحرك ظل يؤنبها فى الذهاب والإياب؛ فراحت تتغاضى بعض الشيء عن قطع الحلوى والبسكويت التى تخفيها الأم فى جيب جلبابها وتحت الوسادة، من حين لآخر تمنحها قطعة شوكولاتة بعد عودتها من العمل. كأنها مكافأة للصمت والكآبة الساكنة في امرأتين معاً.

أحياناً، حين يهاجم الابنة الحزن تهرب من البيت. تمارس حقها الطبيعى فى الفرجة على فساتين الزفاف وواجهات محلات الأدوات المنزلية والمفروشات وكل ما تحتاجه العروس. تتفرّج فقط ولا تجرؤ حتى على تخيّل نفسها كواحدة من تلك النساء.

بعد وفاة الأم، وهروباً من الوحدة، ارتبطت برجل ماتت زوجته بعد شهور من الزواج. لم تصر على تغيير الأثاث. ابتهجت لحظة قال بصوت حنون: "كل هذا لك، حتى أنا". كبرياؤها منعها أن تسأل عن سرّ إعجابه بها، وهل يحبها حقاً؟

أكّدت له أن حجرة النوم التي كانت فى الأصل شجرة، ينتعش نبضها بمجرد لمسة من المرأة الأولى التي تطبع صورتها فى ذاكرة المرآة، وتنتشر رائحتها عبر مسام الخشب إلى أن ينخره السوس. الرائحة التي تعني أن كل سرير واحد يعني امرأة واحدة... مجاز

الزواج تم سريعاً. تعرفت عليه فى حفل زفاف إحدى القريبات،  أعجبه الهدوء المغلّف بالبساطة والخجل، أما هى فقد أحبته منذ  اللحظة الأولى. لم تستطع أن تقاوم سحر نظراته، طوفان من الدفء والحنان، لكن شهوته للحياة أرعبتها.

ربما ليست فى مثل جمال زوجته المتوفاةـ الذي يحكون عنه، لكن تعرف كيف تحدّد ملامح وجهها ببعض الرتوش التى تسمح لها بالتعايش مع الأخريات، واستجرار الرضى من عينيه.

لاحظ أنها تميل إلى الجلوس وحدها فى الليل و تنظر كثيراً للأشياء من حولها. عندما سألها، ضحكت: "أمي كانت تجلس آخر الليل تنصت لصوت البيت. طقطقة قطرات الماء فى حوض المطبخ، أنفاسي أثناء النوم، تقلّبي وفزعي فى الفراش من حلم مزعج، والريح أحياناً وهى تداعب باب نافذة لم يغلق جيداً. أنا أيضاً أحاول توطيد علاقتي مع بيتي الجديد: الأثاث، الثريات، نباتات الظلّ الموزعة في كل مكان وابتسامة الموناليزا المصلوبة على الجدار".

تجنّباً للأرق الذى يصيبها اقترح الزوج أن ترقد على يساره، ما هي سوى لحظات حتى نشب بينها وبين الفراش معركة من الوخز والهرش والزهق الذي يصل حدّ الاختناق؛ سريعاً تغادر الغرفة وتنام في الصالة، على الكنبة، قرب نبتة الزينة الوحيدة.

 كل ما تريده هو حجرة صنعت خصيصاً لهاً، تندمج مع محتوياتها  وتمارس مع كل قطعة من الأثاث العادات والتقاليد الموروثة والمكتسبة. لا تهتم كثيراً بترتيب الملابس فى الدولاب والاحتفاظ بقطع الصابون المعطر، مثلما كانت تفعل أمها. ما يشغلها هو الانصات للصوت "تك. تك" الصادر عن قرص المفتاح وهي تغلق ضلفة الدولاب أول مرة، للاحتفاظ برائحة عطرها الناعس. 

شبح المرأة التى تظنّ أنها صارت تعرف بعضاً من ملامحها، وذلك من خلال لون الأثاث الأسود، الأدراج التى تفتح وتغلق بالقوة، يحوّم حولها كبعوضة مزعجة تقضي الوقت بين الزن واللدغ.

حتى لا تنجذب وراء الشبح، علّقت على النافذة ستارة سميكة تحجب ضوء الشمس. فى الليل، تكتفى بضوء الصالة الهارب من لمبة صغيرة؛ فتبدو الحجرة كسحابة رمادية عالقة. وهي تعيد ترتيب أثاث الحجرة بطريقة مغايرة، في محاولة منها للتصالح مع الحجرة، عثرت على صورة للزوجة المتوفاة.

ازداد النفور من السرير والمرآة التي تتوهّم أنها كلما تطلّعت فيها لمحت صورة الزوجة السابقة. تعمّق القلق من هذا النفور الذى يبعدها عن زوجها، واتساع المسافة التى ستعيدها من جديد إلى برودة السرير واحتضان الوسادة.

ازداد النفور من السرير والمرآة التي تتوهّم أنها كلما تطلّعت فيها لمحت صورة الزوجة السابقة. تعمّق القلق من هذا النفور الذى يبعدها عن زوجها، واتساع المسافة التى ستعيدها من جديد إلى برودة السرير واحتضان الوسادة... مجاز

أحد الأيام، وأثناء الدردشة مع زميلات العمل تساءلت: "من تقايضني حجرة نومي بحجرة نومها". نظرن بدهشة. لم تخجل، من قبل كانت لا تشاركهن الحديث عن ليلة الخميس و شراء قمصان النوم من الباعة الجائلين، بعد الزواج صارت تضحك على النكات البذيئة، وتشتري ملابس داخلية وجوارب وأدوات حلاقة وتطهو الأصناف التي تقوّي الركب والمفاصل.

بلهجة أكثر حزماً قالت: "من تقايضني حجرة نومي بحجرة نومها". ردّت زميلة: "سرير أسود؟ فأل سيء. صحيح أنه خشبي بهت لونه وطارت ضلفة من الدولاب والمرتبة هبطت، لكن الفولت عالي والحمد لله".

 خاب ظنها. تعرف ارتباط كل امرأة بالكرسي الذي تجلس عليه أمام المرآة، بالمرآة، بحشية السرير، بالسرير، تمشّط شعرها وتطل على حبيبها وهو يترقب لحظة سعيها إليه، بعد يوم شاق بين ذراعيه تنسى هموم العمل، زحام المواصلات، مشاكسة الصغار، ترتيب البيت.

حجرة النوم تاريخ مسطر على مدار الأيام والسنين، حجرة بذر البذور وجنى الثمار، تقاسم الأحلام المرعبة والطيبة، همسات الليل الدافئة اللتى لا تخلو من بعض المناوشات على شد الغطاء وإلقاء التهم: "أنتَ، أنتِ".

همست زميلة منقولة حديثاً: "أنا أقايضك"، ثم حكت عن طلاقها بعد خمس سنوات من الكآبة والملل والقهر الذي كان يصل أحياناً إلى العنف. يا إلهي، أقايض حزناً بحزن؟ أي صفقة سيئة هذه؟

قلّة المال حرمتها من بيع الأثاث؛ خوفاً من الخلاء الذي حتماً سيوقعها فى أسر ذاكرة الحجرة  كلما لمحت ظل الدولاب والتسريحة والسرير على الجدران. ظلال صفراء باهتة تشبه ضحكته المرسومة على وجهه، بعد كل لقاء يجمعهما، يجذبها من يدها، وأمام المرآة يتباهى بقدراته  حتى ملّت إكسير الجمال الذى يهبه لها من وقت لآخر.

آخر المطاف، اضطرّت لغلق الغرفة. تركتها للأتربة ربما تطمس ملامحها. من حين لآخر، تتجاهل أسئلة طفلتها عن سر الحجرة المغلقة، وهل تسكنها العفاريت مثلما تسمع في الحكايات؟

تمت المقايضة: حجرة بيضاء مزخرفة بنقوش ملونة. الليلة مختلفة، اقترب منها فلم تنتبه. كانت شاردة الفكر، تتأمل النقوش البارزة كما لو كانت لشخص ما تتوجّس منه، كما لو كانت حجرة باردة فقط.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard