“مفيش حاجة مبتتطبخش بالبصل، البصل والتوم دول أساسي في معظم أو كل الأكلات". بحسم ترد نادية أحمد ربة المنزل القاهرية على سؤال هل يمكنها الاستغناء عن البصل في طعامها، بعد أن وصل سعر الكيلوغرام إلى 16 جنيهاً (0.5 دولار) حسب أسعار بائعي الخضر في المنطقة الشعبية التي تسكنها شرق القاهرة.
في مثل هذا الوقت من العام الماضي، كانت ربة المنزل الخمسينية تشتري كيلوغراماً واحداً من البصل بسعر ستة جنيهات فقط، لكنها وجدته زاد بنسبة 80% إضافية قياساً على سعره في الموسم السابق ليصبح مضاعفاً 130% عن سعره في يونيو/ حزيران 2022.
عادة لا تحتاج ربة المنزل القاهرية إلى استهلاك كميات كبيرة، فأولادها الباقون معها في البيت يقضون معظم وقتهم خارجه، ولا يتناولون سوى وجبة واحدة بالمنزل، ما جعلها تطهو مرتين أو ثلاثاً على الأكثر في الأسبوع: "مبقيتش أطبخ كتير، مفروض المصاريف تقل، لكن اللي كنت بادفعه من مصروف البيت لخزين الشهر، لو اشتريت نفس الحاجات هدفعه لخزين أسبوع واحد تقريباً دلوقت، فقللت كل حاجة في الكمية وناس تانية قللت في الجودة عشان المصروف يكمل". ويتضمن ذلك البصل: "السنة اللي فاتت خزنت بصل في الموسم نفعني، السنة دي يادوب باشتري كيلو بكيلو". فما الذي يربط بين ربة المنزل القاهرية التي قللت من كمية طبخاتها استجابة لغلاء الأسعار، ومنظومة توريد المزروعات الغذائية، والوضع الاقتصادي لمزارع يزرع أرضه بالبصل ويسكن ريف محافظة سوهاج؟
ما الذي يربط بين ربة منزل قاهرية قللت من كمية طبخاتها استجابة لغلاء الأسعار، وأزمة الدولار، والوضع الاقتصادي لمزارع يزرع أرضه بالبصل ويسكن ريف محافظة سوهاج؟
عزوف من المزارعين
يؤكد حسين أبو صدام رئيس مجلس إدارة النقابة العامة للفلاحين -واحدة من نقابتين للفلاحين تأسستا عام 2011- أن عدداً غير قليل من مزارعي البصل، عزفوا هذا العام عن زراعته بعد خسائرهم العام الماضي: "باع المزارعون الكيلو للتجار بـ1.5 جنيه ما يعادل0.049 دولار، مما كان سبباً مباشراً في خسارتهم"، وهو ما دفع البعض لعدم زراعته العام الجاري كى لا تكرر الأزمة ما أدى لتقليص المساحة المنزرعة".
منذ عقدين تقريباً، قلصت مصر اعتمادها على البذور البلدية الطويلة العمر لصالح تلك المعدلة وراثياً التي تمتلكها شركات عابرة للقارات، ويتعين استيرادها ودفع حقوق الملكية الفكرية لها كل موسم، ما أحدث غلاءً في أسعار الأسمدة والتقاوي والبذور
عادة ما يتفق تجار المنتجات الزراعية فيما بينهم على سقف لسعر المنتجات يحددونه في حالة السلع الكثيفة الإنتاج لضمان ألا يعرض أي منهم سعراً أكثر إرضاء للفلاحين بشكل يضمن له يداً عليا في السوق. حدث هذا مع سعر البصل العام الماضي، لتكون النتيجة هي اضطرار الفلاحين للبيع بسعر غطى بالكاد تكلفة الإنتاج، وبشكل لا يتيح إنتاج موسم جديد بنفس الكثافة نظراً للنقص الناجم عن أزمة الدولار.
فمنذ عقدين تقريباً، قلصت مصر اعتمادها على البذور البلدية الطويلة العمر لصالح تلك المعدلة وراثياً التي تمتلكها شركات عابرة للقارات، ويتعين استيرادها ودفع حقوق الملكية الفكرية لها كل موسم، ما أحدث غلاءً في أسعار الأسمدة والتقاوي والبذور.
تراجع نحو 40% من المزارعين عن زراعة البصل هذا الموسم بعد قيام التجار بشراء الطن بـ700 جنيه فقط، ما يعادل 22.73 دولار حسبما يوضح الدكتور عبد المجيد مبروك رئيس قسم بحوث البصل بمعهد البحوث الحقلية لرصيف22. ونتيجة لقلة المعروض في الأسواق هذا العام، ارتفع سعره ما أدى لأزمة، إذ اشتكى مواطنون من ارتفاع سعر بيع الكيلوغرام إلى 21 جنيهاً في بعض الأسواق.
يحتل البصل مكانة خاصة على الموائد المصرية، فلا يكاد يخلو منه أي طعام يأكله المصريون، سواء كان ضمن عناصر "الطبخة" أو صنفاً جانبياً يعين على أكلها. لكن التغيرات المناخية وأزمة الدولار، دفعا أسراً مصرية إلى تقليل الاعتماد عليه رغماً عن إرادتها
خسائر فادحة
في عام 2022، تعرض محمد فتحي، مزارع بصل بمحافظة سوهاج، لخسارة فادحة، وصلت نحو 175 ألف جنيه (5681.97 دولاراً) بعد شراء التاجر المحصول منه بـ1000 جنيه للطن، رغم أن تكلف زراعة الفدان الذي ينتج 20 طناً هو 45 ألف جنيه، بيع إنتاج الفدان بعدها بـ20 ألف جنيه فقط، محققاً خسائر بلغت 25 ألف جنيه، ما يعادل 811.71 دولاراً للفدان الواحد.
يقول فتحي: "رغم خسائري زرعت سبعة أفدنة هذا العام، ليباع الطن بـ15 ألف جنيه (487.03 دولارات) ولكن لتجار التصدير". يشكو فتحى إصابة المحصول بمرض البياض الزغبي الذي تتضاعف آثاره مع درجات الحرارة المرتفعة مما تسبب في تقلص حجم ثمرات البصل.
وتعد محافظة الدقهلية بدلتا مصر واحدة من المحافظات الشهيرة بزراعة البصل لكن مع خسائر العام الماضي للمزارعين تراجع نحو 60% منهم عن زراعته، وذلك وفقاً لنجيب المحمدي نقيب فلاحين محافظة الدقهلية، الذي أرجع ذلك إلى شراء التجار المحصول منهم بسعر زهيد لا يتناسب مع تكاليفه، فراوح سعر بيع الكيلوغرام من الأرض، بين 70 قرشاً وجنيهين كحد أقصى، وهو ما نتج عنه تراجع المساحة المنزرعة منه هذا العام.
وفقاً لأبو صدام، تكبد المزارعون خسائر وصلت إلى 20 ألف جنيه للفدان، وزادت عليها أحياناً. ما دفع معظمهم للعزوف عن زراعته هذا العام. ونتيجة ندرة السلعة زاد سعرها فحقق الفدان الواحد مكاسب بلغت 160 ألف جنيه بعد ارتفاع متوسط سعر التوريد لـ 10000 جنيه للطن.
تعد محافظة الدقهلية بدلتا مصر واحدة من المحافظات الشهيرة بزراعة البصل لكن مع خسائر العام الماضي للمزارعين تراجع نحو 60% منهم عن زراعته
وإلى جانب سعر التوريد المتدني الذي سبب خسائر جمة للمزارعين وخاصة في المناطق الجنوبية للبلاد، يرجع أبو صدام عزوف المزارعين عن زراعة البصل إلى لجوئهم لزراعة محاصيل أخرى تقوم الدولة بتسعيرها وشرائها كالفول والقمح، إلى جانب التغيرات المناخية والتذبذب في درجات الحرارة نهاراً وليلاً خلال الموسم الشتوي (موسم زراعة البصل) وهو ما أثر على إنتاجية البصل وقلص حجمه، علاوة على عدم اهتمام المزارعين بمقاومة الآفات بعد خسائرهم المحققة وارتفاع أسعار المبيدات الزراعية، ما أدى لزيادة الأمراض.
طالب نقيب فلاحين الدقهلية بوقف تصدير البصل لحسن تقدير واقتطاع ما يكفي الاستهلاك المحلي، مشيراً لأهمية الرقابة المشددة على الأسواق" كي لا يغالي البائعون في أسعارهم"
أزمة داخلية
يرى أبو صدام أن أسعار البصل ارتفعت 10 أضعاف عن العام الماضي في الأسواق المحلية بسبب "عشوائية الزراعة والتسويق" على حد قوله، ليراوح سعر الطن من 9000 لـ 11000 جنيه حسب نوعه، مشيراً لتصدير البصل الأبيض بـ 14 ألف جنيه للطن ما يعادل 454.56 دولار. يأتي ذلك في وقت تهافت التجار على التصدير مما تسبب في نقص المعروض محلياً وزيادة سعره، محذراً من الإسراف في التصدير لما يترتب عليه من ارتفاع الأسعار محلياً ويحفز المزارعين على زيادة المساحة المنزرعة العام المقبل بدرجة أكبر من المطلوب.
وفق لحديث الدكتور عبدالمجيد مبروك لرصيف22، لم يتم حصر المساحة المنزرعة هذا العام بعد، لكن بلغت الصادرات 189 ألف طن خلال الربع الأول من العام الجاري، وهو ما يعد رقماً كبيراً حسب تقديره، وهو ما يزيد على ضعف المعدل السنوي للتصدير "حجم الصادرات السنوي للبصل يراوح بين 450 و 550 ألف طن".
يضيف الأكاديمي المتخصص في محصول البصل الحقلي مزيدا من التفاصيل: "تراوح المساحة المنزرعة سنوياً من البصل في مصر ما بين 150 و 200 ألف فدان، وذلك بحسب إحصائيات الخمس سنوات الأخيرة، لكن خلال عام 2021/2022 بلغت المساحة المنزرعة 228 ألف فدان ووصل الإنتاج 3.4 مليون طن بمتوسط 15 طناً للفدان بمجمل صادرات 578 ألف طن، فيما بلغت المساحة المنزرعة العام الأسبق 207 آلاف فدان، بصادرات 276 ألف طن وذلك بحسب الإدارة المركزية للحجر الزراعي".
التصدير والأزمة
وإثر أزمة نقص المعروض في السوق المحلي في وقت تصدُّر البصل والثوم - العنصرين الأساسيين في طبخات البيوت المصرية- قائمة الصادرات الزراعية؛ تقدم الدكتور أيمن محسب عضو مجلس النواب بطلب إحاطة لوزير الزراعة واستصلاح الأراضي بشأن ارتفاع أسعار البصل والثوم لمستويات غير مسبوقة في وقت بلغت صادرات مصر من البصل 189 ألف طن، محتلة المركز الثالث في قائمة الصادرات الزراعية.
من جانبه طالب نقيب فلاحين الدقهلية بوقف تصدير البصل لحسن تقدير واقتطاع ما يكفي الاستهلاك المحلي، مشيراً لأهمية الرقابة المشددة على الأسواق" كي لا يغالي البائعون في أسعارهم"، فيما طالب أبو صدام الحكومة بإعادة النظر في تصدير البصل حسب الوضع المحلي، حتى لا ترتفع أسعاره بما يفوق طاقة المستهلك، أو تنخفض بما لا يغطى تكلفته كما حدث العام الماضي، إذ يرى ضرورة وضع خطة زراعية واضحة تخص كل المحصول والتخلي عن نظام الزراعة العشوائي والتسويق غير المنظم والذي يتسبب في اختلاق الأزمات وعدم استقرار الأسعار.
قابل المزارعون طلبات البعض بوقف التصدير بالرفض، ومنهم محمد فتحي المزارع الذي مني بخسارة العام الماضي في محافظة سوهاج، "لو تم وقف التصدير لن نزرع البصل مجدداً، لأننا سنضطر لبيع المحصول بأقل من تكلفته، مما يهدد استمرارية المزارع في زراعته"، مطالباً الدولة بتحديد حصة تصديرية للبصل، ليصبح هناك سعر عادل "يغطى تكاليف الفلاح مع تسعير الدولة للمحصول أسوة بالمحاصيل الاستراتيجية".
وبحسب رئيس قسم بحوث البصل بمعهد البحوث الحقلية، تصدِّر مصر محصولها من البصل لنحو 30 دولة في مقدمتهم المملكة العربية السعودية والإمارات والكويت وإنجلترا وإيطاليا وإندونيسيا وباكستان، خاصة بعد تأثر الأخيرة بالفيضانات رغم أنها من الدول المصدرة للبصل. معتبراً أن التصدير مصدر هام للعملة الصعبة لا يمكن وقفه ولكن تنظيمه.
لكنه يستبعد أن يكون لتضاعف حصة التصدير هذا العام الأثر الكبير على الأسعار المحلية "تكاليف الإنتاج زادت نحو 100% هذا العام، علاوة على زيادة الطلب في ظل نقص المعروض، وهو ما انعكس على السعر". مشيراً إلى "تغطية إنتاجنا الاستهلاك المحلى بما يصل لـ125%، لأن مصر ذات اكتفاء ذاتي منه منذ الستينيات"، متوقعاً تراجع الأسعار في الأسواق المحلية نتيجة الإقبال على زراعة المحصول الموسم المقبل.
تراجع متوسط إنتاجية الفدان من 20 لـ15 طناً هذا العام بسبب ارتفاع درجات الحرارة في فترة حساسة من عمر المحصول خلال يناير/ كانون الثاني الماضي مسبباً الإصابات الفطرية للمحصول
التغير المناخي الذي لا يهتم له أحد
بحسب الدكتور رفعت علام رئيس برنامج البصل بمحطة بحوث شندويل بمحافظة سوهاج، فقد تراجع متوسط إنتاجية الفدان من 20 لـ15 طناً هذا العام بسبب ارتفاع درجات الحرارة في فترة حساسة من عمر المحصول خلال يناير/ كانون الثاني الماضي مسبباً الإصابات الفطرية للمحصول.
وباتت مصر تشهد موجات حارة في أشهر الشتاء منذ عدة سنوات. هذا الارتفاع في درجات الحرارة الذي تسببه التغيرات المناخية قد يؤدي لتراجع الانتاجية من 30 لـ40 %، عبحسب علام.
ويؤكد رفعت أن تلك الموجات تتسبب في تقلص كمية الثمار نتيجة إصابتها بمرض البياض الزغبي واللفحة الأرجونية، "مما يؤدي إلى تنشيف الأوراق وتقليل المحصول، حيث تنشط تلك الأمراض مع درجات الحرارة المرتفعة مسببة إصابات عنيفة"، مشيراً إلى أن خسائر المزارعين العام الماضي دفعت بعضهم لعدم إتباع برنامج رش (استخدام المبيدات لمكافحة الأمراض) بشكل كاف.
وطالب مبروك المزارعين بتنظيم عملية زراعة البصل واستخدام الأصناف المستنبطة من معهد البحوث الزراعية، المتكيفة مع التغيرات المناخية والتي استنبطتها وزارة الزراعة، واتباع إرشادات الوزارة. فيما طالب نقيب فلاحين الدقهلية الجمعيات المختصة بالقيام بدورها المنوط وتحديد سعر محدد للبيع ليزرع المزارع المحصول وهو مطمئن كما يحدث في المحاصيل الإستراتيجية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 21 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...