إن الثمن الذي ندفعه مقابل الصداقة هو الحب والعرفان أحياناً، والحزن والألم في أحيان أخرى. كان لحادث وفاة المخرج محمد رمضان وقع صادم على صديقه مهندس الصوت عبد الرحمن محمود.
وفاة رمضان جاءت نتيجة عاصفة ثلجية أثناء قيامه برحلة جبلية في سانت كاترين، في جنوب سيناء، تحديداً جبل باب الدنيا، في فبراير/ شباط 2014، ظل الألم يسيطر على عبد الرحمن إلى أن قرر تحرير هذه الذكرى، وتوثيق الحادث في فيلم تسجيلي بعنوان باب الدنيا من خلال نسختين، إحداهما طويلة.
لم يعمل عبدالرحمن كمخرج من قبل، لكنه قرر خوض التجربة من أجل الصداقة. يتذكر لقاءه مع محمد رمضان في سينما زاوية، في مكانها القديم وسط القاهرة، دعا حينها رمضان محمود لرحلة جبل باب الدنيا، لكن عبد الرحمن انشغل ونسي الأمر، وكان القدر يخبئ الكثير.
هذه الرحلة ذاتها التي قام بها رمضان مع سبعة من أصدقائه، فقد فيها ثلاثة منهم حياتهم، بعدما هبت عاصفة ثلجية في طريق عودتهم من جبل باب الدنيا، الذي يعلو 2225 متراً فوق سطح البحر، وفي طريق عودتهم توفي أول شخص في المجموعة وهو خالد، ثم انقسمت المجموعة وتفرقوا وفُقد رمضان، ولاحقاً وُجد جثمانه في منطقة جبل الأرنب في 19 فبراير/ شباط.
كان الحادث شديد الدرامية بدايةً من اسم الجبل، "باب الدنيا". لم يخطر ببال عبد الرحمن أن رمضان لن يعود، كان يعتقد أن رمضان سيرجع ليصنع فيلماً عن الواقعة. وبعد موته تعرض لصدمة جعلته يغلق على الحادث في صندوق أسود. لكن الصدفة قادت عبد الرحمن إلى سانت كاترين مع صديق له عام 2019 كانت المرة الأولى التي يزورها، ومن اللحظة الأولى وجد أن الجميع يحدثونه عن رمضان، من دون علمهم بصداقتهما.
يقول عبد الرحمن لرصيف22 إن الفيلم كان مغامرة على المستوى الجسدي والذهني، أثناء وجوده في سانت كاترين ذهب إلى منطقة وادي جبال، ومن دون ترتيب بدأ في التصوير بهاتفه المحمول، في الليل أخذت أم السعد تحكي له الحكاية، أخبرته أن هناك كثيرين يجيئون إلى الجبل، ويمشون، وهناك من يجيئون ويرجعون مرة أخرى، وعرفت بحدسها أن قلبه تعلق بالجبل وأخبرته "انت هتيجي تاني".
عبد الرحمن في الأساس مهندس صوت، درس في معهد السينما، أخذ المادة التي صورها ورجع إلى القاهرة ليصنع فيلمه الأول عن رحلة رمضان. تحمست له المخرجة هالة القوصي، منتجة الفيلم، وشجعته على تنفيذه، ثم بدأ بحث مطول عن المكان وسمع لأول مرة كل شيء عن الحادث.
"أنسى؟!… إزاي أنسى؟"
في ساحة عرض الفيلم بسينما زاوية خطف صوت مذيع النشرة الإخبارية الجميع، يعلن صوت المذيع البحث عن المجموعة المفقودة.
يبدأ الفيلم بأم السعد التي تبلغ من العمر 86 سنة، وتعيش في الجبل، وتقول "في الرحلة… أنسى؟! إزاي أنسى؟ مش معقول". مر بها الرحالة الثمانية في أثناء رحلتهم إلى باب الدنيا. تقول الشيخة الكبيرة "قعدت سنين أبكي عليهم".
في السنوات الماضية مر جيلنا بكثير من الأحداث الملحمية، صنع عبد الرحمن هذا الفيلم لأنه يشعر بـ"ذنب الناجي"، ولأنه لا يريد لصديقه أن يُنسى. لذا قرر أن يصنع نسختين من الفيلم التسجيلي، نسخة طويلة، ونسخة قصيرة.
يقول عبد الرحمن "إحنا اتكسرنا" بعد الحادث، حتى أن هناك بعض أصدقاء لمحمد لم يستطيعوا مشاهدة الفيلم حتى الآن.
صمم مخرج فيلم "باب الدنيا" على سلك نفس الطريق، وتتبع أثر صديقه على الحجر، ربما استطاع استنطاق الجبل ليحكي الحكاية. استغرق تصوير الفيلم ثمانية أيام. لا يرى عبد الرحمن أنها رحلة خطرة، لكنها كانت صعبة
يقول عن سبب صناعته للفيلم إنه واجبه، لأنه عن صديقه، وكانت وسيلته للوداع هي أن يذهب للمكان ذاته الذي عُثر فيه على جثمان رمضان، ويعتذر له عن غيابه.
رجع مرة أخرى إلى سانت كاترين، أراد أن يحكي الحكاية من وجهة نظر شخص في الجبل، ويقابل الجبل المتهم بقتل صديقه. كان يشعر أنه ربما كان قد استطاع انقاذ رمضان الذي يصغره بثلاث دفعات في معهد السينما.
وعثر على أحمد الجبالي، الدليل البدوي الذي شارك في رحلة الإنقاذ والبحث عن مفقودي الرحالة الثمانية، وأخبره بأنه يريد الذهاب إلى جبل باب الدنيا، ليسير في خط السير ذاته الذي مشت فيه المجموعة. أخبره الدليل أنه لن يقدر لأن هذا الطريق وعر.
لكن عبد الرحمن كان مصمماً على سلك هذا الطريق، وتتبع أثر صديقه على الحجر، ربما استطاع استنطاق الجبل ليحكي الحكاية. استغرق تصوير الفيلم ثمانية أيام. لا يرى عبد الرحمن أنها رحلة خطرة، لكنها كانت صعبة.
لم يظهر عبد الرحمن في الفيلم، بقرار منه، لم يشأ أن تكون هناك شبهة استغلال. يظهر بالفيلم أحمد الجبالي الدليل البدوي حاملاً حقيبة ضخمة، نتابع معه الطريق الطويل إلى جبل باب الدنيا. وفي النسخة الطويلة يُظهر قليلاً حياة ساكنيه، أهل الجبل وحياتهم البسيطة، يصنعون الخبز، ويقطفون العنب وينصتون لصوت الجبل. ولم يرد أن يصنع فيلماً ميلودرامياً عن هذا الحدث الجلل الذي يراه المشاهدون لمرة واحدة وفقط.
عاد عبد الرحمن بالمادة المصورة إلى القاهرة، وطلب من صديقه أحمد الصاوي الذي وضع الموسيقى التصويرية للفيلم نقل إحساس الغضب الذي شعر به في المنطقة التي وُجد بها جثمان رمضان. وخرج الفيلم بالأبيض والأسود لأن الألوان الساحرة في سانت كاترين غير مناسبة للثقل النفسي للموضوع
باب الدنيا باب مصر
يتذكر عبد الرحمن أنه في طفولته، التقط من مكتبة البيت كتاباً لجمال حمدان اسمه "شخصية مصر"، منذ ذلك الحين ترسخ في ذهنه أن الجغرافيا لا تنفصل عن المجتمع والسياسة والتاريخ، لذا حرص على معرفة جغرافيا الجبل الذي يصور به والتعرف على سكانه، والتوليفة الخاصة بهم: من يخبز ويفرد الخبز بزجاجة النبيذ.
يقول عبدالرحمن إن هذا المجتمع الذي عاش هنا لآلاف السنين، عندما صنع الفيلم كان مُنصتاً لأهله، لم يوجههم كمخرج، لكن كانوا هم من يحكون. هؤلاء أيضاً صنعوا ملحمة خلال الحادث إذ تركوا أبناءهم وعائلاتهم وهرعوا إلى الجبل ليبحثوا عن المفقودين.
في العام 2016، وبعد رحلة بحث دامت أياماً، عُثر على جثمان المخرج الشاب محمد رمضان بعد عاصفة جليدية، في واقعة جعلت أصدقاءه يعافون الذهاب إلى سانت كاترين، حتى قام واحد منهم بصناعة فيلم "باب الدنيا" ليوثق تلك المأساة ومعها حياة الناس في الجبل
لاحقاً عاد بالمادة المصورة إلى القاهرة، بعد هذه الرحلة الشاقة، وطلب من صديقه أحمد الصاوي الذي وضع الموسيقى التصويرية للفيلم نقل إحساس الغضب الذي شعر به في منطقة جبل الأرنب، المكان الذي وُجد به جثمان رمضان. وخرج الفيلم بالأبيض والأسود لأن الألوان الساحرة في سانت كاترين غير مناسبة للثقل النفسي للموضوع.
ويظهر في النسخة الطويلة للفيلم لافتة تشير لشخص يدعى محمود الجمل، وسبيل ماء باسمه. كانت المفاجأة في سانت كاترين عندما علم عبد الرحمن من الدليل البدوي بأن هناك رحالة مصري اسمه محمود الجمل سبقه إلى الجبل في عام 2018 وقد جاء إلى المكان ذاته ليوثق بالكاميرا رحلة محمد رمضان صديقه هو الآخر، لكنه لقى مصرعه صعقاً بسبب البرق، بعدها قرر عبد الرحمن أن يغير خطة الفيلم، ويحذف الأجزاء التي ظهر هو بها، ليكون الفيلم عن كل من صعدوا الجبل، أو حاولوا الصعود.
يتذكر عبد الرحمن أفلام المخرج والفنان التشكيلي المصري البارز علي الغزولي، التي أثرت في وجدانه، وكان يشاهدها في طفولته مثل فيلم "صيد العصاري" ويقول إنه أراد صناعة فيلم تسجيلي مصري، "لأننا نسينا أننا كنا نمتلك مدرسة تسجيلية مصرية لا تقل عن مدارس تسجيلية عالمية، ومخرجين تسجيليين عظام مثل نبيهة لطفي، وسمير عوف، وشادي عبد السلام".
لم يصنع عبد الرحمن الفيلم لجمهور نخبوي، فقد شاهده ناس من كل الفئات، أما أكثر ما أسعده هو رد فعل عائلة رمضان، إذ شعر أنه قد صنع شيئاً يليق بذكراه.
ومثلما بدأت حكاية الفيلم في سينما زاوية، عندما عرض عليه رمضان دعوة للرحلة، انتهت أيضاً في زاوية بعرض فيلم يحبس الأنفاس عن حكاية الذين صعدوا إلى الجبل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين