كانت معلوماتي عنها لا تتخطى ما يذكره مؤشر البحث غوغل عن ديرها الشهير وجبلها المبارك وأوديتها المقدسة. لذلك كانت دهشتي كبيرة عندما اكتشفت أن بها تجمعات سكنية يقيم فيها بشر صنعوا عالمهم الخاص الذي أثار فضولي، فقررت أن اكتشف تفاصيله بنفسي.
اجتازت السيارة شوارع القاهرة المزدحمة، وانطلقت في طريقها نحو جنوب سيناء، لتقطع ما يزيد على 450 كيلو متراً فيما يقرب من خمس ساعات ونصف تقريباً. خمس ساعات انتقلت فيها تدريجياً من قلب الزحام وطغيان المدنيّة والتطور إلى الهدوء والسكون والصمت، حيث فرضت الطبيعة سطوتها، فخضع كل شيء وهدأ في حضن مدينة صغيرة لا تشبه غيرها.
وما بين الجبال والأودية، تتناثر بيوت جبلية يقطنها بدو سانت كاترين الأصليون أو غرباء قرروا اللجوء للمدينة البعيدة بحثاً عن الرزق.
الاقتراب من بدو كاترين أمر يبدو صعباً للغريب للوهلة الأولى، فهم مجتمع مغلق له عاداته وتقاليده، لكنهم وعلى الرغم من تحفظهم، ودودون إلى حد بعيد، يقدمون الخدمات للغريب بكل حب، يعرفون جيداً قيمة مدينتهم، ويحفظون تاريخها، ويدركون قداستها ومكانتها في الأديان الثلاثة.
باب الدنيا
محمد سلامة الحشاش من بدو سانت كاترين الأصليين، ينتمي لقبيلة الجبالية، يعمل كدليل سياحي سفاري، أكد لرصيف22 أن البدو في سانت كاترين يعيشون في تجمعات متفرقة في أودية مختلفة، ينتمون لقبيلة الجبالية التي تعود أصولها إلى رومان الإسكندرية الذين قدموا للعيش في المدينة في القرن السادس الميلادي.
لاقتراب من بدو كاترين أمر يبدو صعباً للغريب للوهلة الأولى، فهم مجتمع مغلق له عاداته وتقاليده، لكنهم وعلى الرغم من تحفظهم، ودودون إلى حد بعيد، يقدمون الخدمات للغريب بكل حب، يعرفون جيداً قيمة مدينتهم، ويحفظون تاريخها
يحزن محمد كثيراً للفكرة المتداولة عن سانت كاترين بأنها مدينة الدير والجبل فقط، فأغلب السياح القادمون إليها يأتون في رحلات يومية قصيرة، لصعود جبل موسى حيث كلم الله نبيه -وفق المعتقد-، ثم زيارة الدير المقدس الذي بني خصيصاً تكريماً للقديسة كاترين التي حملت المدينة اسمها. وهو الأمر الذي يظلم المدينة كثيراً- كما أكد محمد- فسانت كاترين مدينة عامرة بالأماكن الطبيعية الخلابة والتي تضم شلالات مياه متفردة، ومزارع تضم أشهر وأندر أنواع الفاكهة، والأعشاب الطبية، والنباتات الجبلية. وجميعها أماكن تستحق الزيارة والبقاء فيها لأيام للتمتع بجمال الطبيعة وهدوئها النادر.
وعلى الرغم من شهرة جبل كاترين وجبل موسى لأنهما الأعلى بين القمم الجبلية في مصر، إلا أن المدينة تحوي جبالاً متميزة أخرى كجبل باب الدنيا، وجبل البنات، وجبل مشومار، وجبل نعجه وجبل الطربوش.
الفراشيح واللصيمة
قال محمد إن الأكل البدوي في حد ذاته يستحق أن يمنحه الزوار للمدنية الكثير من وقتهم، فالمطبخ البدوي عامر بالأكلات المميزة كالجريشة واللصيمة والعصيدة وعيش الفراشيح.
وأوضح: "على الرغم من اختلاط المطبخ البدوي بالمطبخ المصري التقليدي في السنوات الأخيرة، إلا أن الكثير من البدو لا يزالون متمسكون بأكلاتهم المميزة، خصوصاً في الأعياد والمناسبات كالزواج والميلاد و سباقات الهجن".
رحلات جبلية وتخييم
صالح عوض (27 سنة) بدوي من سكان سانت كاترين الأصليين، من قبيلة الجبالية، يعمل كدليل سياحي، قرر الترويج لمدينته الحبيبة عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، من خلال ممارسة هوايته في التصوير. يحرص يومياً على نشر صور مختلفة تعكس روح المدينة وتفردها، كما يقدم المعلومات اللازمة التي تشجع المتابعين على زيارة المدينة، سواءً في ما يخص التوقيت المناسب أم الميزانية المقترحة أم الأماكن التي يمكن زيارتها والإقامة فيها.
قال صالح: "المدينه صغيرة جداً وعدد سكانها قليل، يعمل أغلبهم في السياحة. كما يوجد بعض المغتربين الذين يعمل أغلبهم كموظفين في جهات حكومية وأصحاب مشاريع خدمية. ويعمل بعض السكان في الزراعة، لكنهم لا يشكلون نسبة كبيرة لقلة الأمطار في السنوات الأخيرة، لكن هذا لا يمنع أن يكون العمل بها أمراً أساسياً في حياة الكثيرين. وهناك أيضاً من يعمل في إنتاج وتجارة العسل الجبلي، وزيت الزيتون. هذا إلى جانب الأشغال اليدوية التي يكون أغلبها منتجات مصنوعة بأيدي نساء البدو.
الحياة في مدينة سانت كاترين ليست سهلة، هكذا أكد صالح، مرجعاً ذلك لنقص العديد من الخدمات، لكن أهل المدنية تعودوا على الوضع وتكيفوا مع الطبيعة.
يتفق صالح عوض مع ابن قبيلته محمد الحشاش في أن الصورة السائدة عن كاترين لا تتخطى فكرة الجبل والدير مسترسلاً: "لا يعرف الكثيرون أن الرحلات الجبلية بها ممتعة جداً تتيح لهم فرصة التمتع بالحياة البرية الطبيعية، من خلال الإقامة أو التخييم في مزارع جبلية بها حدائق ومنازل بسيطة، توفر لهم الوجبات الغذائية وأماكن النوم الآمن. وهذه الرحلات تتم في أماكن عديدة تبعد عن المدينة نفسها بحوالى ساعة".
وبالرغم من التواجد الأمني الكبير في المدينة، إلا أن صالح يؤكد أن القانون العرفي لا يزال هو السائد في حل النزاعات والخلافات بين البدو؛ فالعادات والتقاليد تحكمهم بشكل كبير، موضحاً: "الحياة هنا بسيطة والناس يعرفون بعضهم بعضاً".
البنت البدوية
وفقاً لصالح أصبح للتعليم أهمية كبيرة في سانت كاترين فمنذ سنوات عرفت المدينة الصغيرة تواجد المدارس الحكومية بمراحلها المختلفة والتي أتاحت فرصة التعليم للسكان، وخصوصاً الفتيات، حيث شجع توافر المدارس في المدينة العديد من العائلات البدوية على إلحاق بناتهن بها. لكن للأسف أغلبهن يكتفين بالتعليم الأساسي، فوجود الجامعات في مدن بعيدة يجعل من الصعب على الفتاة البدوية إكمال تعليمها الجامعي، فإقامتها بعيداً عن أهلها لا يزال أمراً غير مقبول في العادات البدوية. تلك العادات التي لا زالت تتحكم في الزواج أيضاً، ففي سانت كاترين يتم الزواج وفقاً للعادات البدوية المتوارثة، فالعريس يتكفل بكل شيء -وفق ما أكده لنا صالح عوض- يدفع المهر الذي تشترطه كل عائلة حسب نسبها ومكانتها.
كما أن الفرح (العرس) يكون لليلتين، ليلة الحنة ويقيمها أهل العروس، ويوم الزفاف ويقيمه أهل العريس. ويقام في خيمتين، إحداهما للرجال وهذه لا يوجد فيها غناء أو موسيقى، يقدم فيها الطعام الذي يكون عبارة عن لحم ماعز أو عجل مع أرز وسلطة، ثم يتناولون الشاي والقهوة. أما خيمة النساء فيكون فيها الغناء والموسيقى التي يكون أغلبها خليجياً.
أول سلم السما
المخرج علي شوقي أستاذ الإخراج السينمائي بالمعهد العالي للسينما يعد واحداً من عشاق سانت كاترين، ارتبط معها بعلاقة خاصة جداً، وحدثنا: "بدأت علاقتي بمدينة سانت كاترين في عام 2001 عندما قمت بزيارة عابرة لها لكي أصعد جبل موسى وأزور الدير كغيري. ثم عدت إليها مرة أخرى في 2009 عندما قررت تقديم فيلم وثائقي عن حراسة الدير ومفاتيحه التي يحتفظ بها بدو الجبالية المسلمون، وهو المشروع الذي لم يتم، لكنه كان سبباً في اكتشافي للوجه الآخر للمدنية السياحية، فارتبطت بعلاقة صداقة قوية مع بدو الجبالية هناك.
اكتشفت عن طريقهم حياةً أخرى تملؤها السكينة ويحيطها الهدوء من كل جانب، فوقعت في غرام المدينة دون أن أدري، وأصبحتْ ملاذي إذا ما قررت الهروب من المدينة المزعجة، حتى صارت زيارتي لكاترين طقساً سنوياً محبباً لي ولعائلتي، أقوم باستئجار منزل بدوي بسيط لمدة شهر لكي استمتع لأطول وقت ممكن بروحانيات المكان وجماله الفريد".
وأكمل: "المدينة هناك عكس ما قد يتصور البعض، فكل وسائل الحياة متوفرة فيها؛ ثمة خدمات معقولة، فلا تشعرون أنكم تفتقدون لشيء. والأهم أنكم لا تعشرون بالملل أبداً. فالسير بين الأودية واكتشاف أسرار الطبيعة الجبلية أمر مدهش يشغلنا عن كل شيء".
حدوتة مصرية
يذهب علي شوقي إلى كاترين كل عام برفقة والدته الدكتورة نجوى صابر، أول امرأة تشغل منصب عميد المعهد العالي للسينما (عام 2002)، والتي وصفت المدينة الصغيرة بأنها حدوتة مصرية لا يمر بها عابر إلا وقع أسيراً لها.
أهم ما يميز البدو في سانت كاترين هو ارتباطهم، فالأطفال الصغار يطمحون أن يواصلوا مسيرة آبائهم؛ يخرجون معهم للعمل في سن مبكرة ليتعرفوا على أسرارها
قالت نجوى لنا: "المدينة ليست متفردة فقط بطبيعتها التي لا يوجد مثلها في المدن المصرية، بل هي متفردة بأهلها الذين اكتسبوا طباعهم منها، فهم يتمتعون بالشموخ والأدب والكرم والهدوء والحنان؛ بسطاء، راضون، يمتلكون عزة نفس نادرة. أزورها منذ سنوات، ولم أقم في مكان فيها إلا واحتضنني الجميع دون السؤال عن ديانتي".
وأضافت نجوي بإعجاب: "على الرغم من بساطة بدو سانت كاترين، إلا أنهم يمتلكون ثقافة كبيرة تتعلق ببلدهم وتاريخهم وتاريخ عائلتهم. والأهم أنهم على دراية تامة بأصول التعامل مع الأغراب والأجانب وهذا شيء رائع".
تُعرف الدكتورة نجوي صابر في كاترين بـ"الجدة"، فقد أصبحت خلال السنوات الماضية قريبة جداً من نساء البدو وأطفالهم، وبمجرد قدومها في زيارتها السنوية للمدينة يمتلئ بيتها بالأطفال الذين يملؤون إجازتها بهجةً ومحبة.
أكدت نجوى أن "أهم ما يميز البدو في سانت كاترين هو ارتباطهم، فالأطفال الصغار يطمحون أن يواصلوا مسيرة آبائهم؛ يخرجون معهم للعمل في سن مبكرة ليتعرفوا على أسرارها، سواءً كان الأب يعمل كدليل للسياح أم صاحب كامب. أما النساء فبرغم تطور حياتهن عن الماضي إلى حد ما، إلا أنهن لا يزلن يحتفظن بعاداتهن البدوية، وهذا أمر لا أجد فيه عيباً أبداً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع