شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
تركمانيات وشبكياتٌ ناجياتٌ من داعش: المجتمع يتعامل معنا كمذنبات والقانون لا ينصفنا

تركمانيات وشبكياتٌ ناجياتٌ من داعش: المجتمع يتعامل معنا كمذنبات والقانون لا ينصفنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء نحن والتطرف

السبت 15 يوليو 202310:00 ص

هدى (اسم مستعار)، ذات العشرين سنةً، فتاة تركمانية شيعية، من مدينة تلعفر (غرب محافظة نينوى في العراق)، لم تكن قد أكملت عامها الثاني عشر، عندما سيطر تنظيم داعش في 16 حزيران/ يونيو 2014، على مدينتها، فاضطر والدها إلى الهروب بها مع والدتها وشقيقها الأصغر صوب مدينة سنجار المجاورة.

مكثوا هناك مع مجموعة من العائلات التركمانية الأخرى في مدرسة ابتدائية خُصصت لاستقبال النازحين، وبعد نحو ستة أسابيع، حدث الانتقال الحياتي الأسوأ بالنسبة لهدى، إذ هاجم التنظيم مدينة سنجار في 3 آب/ أغسطس 2014، ووقعت هي في أيدي عناصره.

تنقبض ملامح وجهها وهي تتذكر: "هربنا. أردنا الوصول إلى جبل سنجار. كان معنا الكثير جداً من الناس، كنا بينهم، وأنا أمسك بيد أبي، وأمي تحمل شقيقي الذي كان عمره سنتين فقط". تجهش هدى بالبكاء وهي تشبك أصابع يديها ببعضها: "أمسكوا بنا، كانت وجوههم الملتحية مرعبةً، فرّقوا بين الرجال والنساء والأطفال...". تصمت لحظات قبل أن تضيف بنبرة حزن: "وكانت تلك المرة الأخيرة التي أرى فيها والدي، أما شقيقي، فقد قابلته بعدها بثلاث سنوات!".

أخذ عناصر داعش، هدى وأطفالاً آخرين من التركمان الشيعة، تقول: "سألوني عن اسمي الثلاثي، وعدد المرات التي زرت فيها كربلاء، وأسماء أقاربي في الجيش والشرطة، وفي اليوم التالي أخذوني مع 23 طفلةً تركمانيةً إلى ملجأ للأيتام في منطقة اسمها الزهور في مدينة الموصل".

بقيت هدى في الملجأ لسنتين ونصف السنة، تحت رعاية نساء تصف بعضهن بالمُجبَرات على التعاون مع التنظيم، وأخريات بأنهن "داعشيات". تغمض عينيها وتقول بألم: "عندما بلغت الرابعة عشر، أخذوني إلى تلعفر...". تتوقف عن الكلام وتستسلم لنوبة بكاء داهمتها لدقائق.

تمسح دموعها بظاهر يديها وتتابع: "زوجوني برجل تركماني من السنّة، كان واحداً منهم. أصبحت زوجته الثانية، وضرّتي كانت تركمانيةً سنّيةً، أخوها الداعشي قُتل بأيدي عناصر الحشد الشعبي، لذلك كانت تكرهني جداً وتعاملني بطريقة سيئة". والمعاملة السيئة التي ذكرتها هدى، كانت متمثلةً في ضربها بشكل يومي، إلى أن تفرّ الدماء أحياناً من فمها وأنفها؛ "كانت تقول لي بأن الشيعة قتلوا أخاها وأنها ستأخذ بثأرها مني لأني شيعية مثلهم". استمرت حياة هدى الزوجية الدامية قرابة تسعة أشهر، إذ تم تحرير مدينة تلعفر في آب/ أغسطس 2017، وتم إنقاذها بواسطة قريبٍ لها من الشرطة الاتحادية، كما تم العثور كذلك على شقيقها، في حين ما زال مصير والديها مجهولاً إلى الآن.

محاذير اجتماعية

قصة هدى، وكثيرات غيرها من التركمانيات الشيعة، والشبكيات الشيعة الناجيات من داعش، مسكوت عنها في المجتمعَين التركماني والشبكي المحافظَين، والقبليَين بطبيعتهما، لذا فالحديث عن وجود سبايا وناجيات، غير مسموح به في الوسطَين وفقاً لمطّلعين. وهذا سبب رئيسي لوجود غموض في شأن أعدادهن.

الناشط المدني جعفر التلعفري، حاول منذ العام 2017، الخروج عن هذا القيد الصارم، وتبنّى حراكاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي للمطالبة بحقوق الناجيات التركمانيات، غير أنه جوبه بالرفض من قبل وجهاء قبليين واجتماعيين في تلعفر، وفقاً لما ذكر.

يقول: "لم يتقبل المجتمع الحديث عن الناجيات، وقادة المجتمع التركماني انتقدوني وأوصلوا لي رسائل عدة بأنهم لا يريدون الحديث عن هذا الملف، خصوصاً وأن أغلب الناجيات اغتُصبن وفقدن ذويهنّ بسبب داعش، ويعشن لدى أقاربهن من الدرجة الأولى والثانية بلا أوراق ثبوتية".

"زوجوني برجل تركماني من السنّة، كان واحداً منهم. أصبحت زوجته الثانية، وضرّتي كانت تركمانيةً سنّيةً، أخوها الداعشي قُتل بأيدي عناصر الحشد الشعبي، لذلك كانت تكرهني جداً وتعاملني بطريقة سيئة"

غير أن ذلك لم يثنِه، إذ قام مع مجموعة من الناشطين الآخرين في 2017، بتأسيس فريق "تلعفريون" التطوعي لرصد وتوثيق الحالات المتعلقة بالمختطفين بواسطة داعش والناجين بنحو عام، وضمنهم النساء.

ومن خلال جمع المعلومات من الأهالي، توصل الفريق إلى إحصائية تبلغ 482 من المفقودين الرجال والنساء والأطفال، الناجون منهم 23 طفلاً و24 امرأةً. غير أن الإحصائية هذه غير نهائية لرفض الكثير من العائلات التجاوب وتقديم المعلومات المطلوبة بشأن مفقوديهم لا سيما النساء.

وهذا يفسر الغموض المتعلق بأعداد الناجيات التركمانيات والشبكيات الشيعة كما أسلفنا، فضلاً عن تباين الأرقام التي تقدّمها جهات غير رسمية بين الحين والآخر، فالأهالي يرفضون التعاون خوفاً من وصمة العار، وهو الخوف ذاته الذي دفع نساءً تركمانيات خطفهن عناصر داعش في 2014، الى الاستسلام لحياتهن في المخيمات وسواها، وعدم العودة إلى ذويهن بعد انتهاء حقبة سيطرة داعش على نينوى.

مدير مؤسسة "إنقاذ التركمان"، علي البياتي، أكد أن نساءً تركمانيات شيعيات ما زلن في مخيم الهول في سوريا، حسب روايات إيزيديات محررات أجرى مقابلات معهن، من دون معرفة أعدادهن. ويقدّر البياتي أعداد المختطفين التركمان من الجنسين بـ1،450 شخصاً، من بينهم 450 امرأةً وفتاةً صغيرةً، وأن الناجيات عددهنّ 50 ناجيةً فقط.

ويصف البياتي، استجابة الحكومات المتعاقبة بعد 2014، في التعامل مع ملف الناجيات والمختطفات التركمانيات بالضعيف، ويعزو ذلك إلى غياب القيادات التركمانية السياسية المطالبة بحقوقهن، ويقول: "المصالح السياسية هي المحرّك الرئيسي لكل شيء في العراق، أما قضايا الأقليات وحقوق الإنسان فهي ليست في الحسبان".

وتُرجع الباحثة الاجتماعية أنهار يوسف، تجنّب المجتمعَين التركماني والشبكي، الحديث عن ملف الناجيات إلى قلة أعدادهن مقارنةً بالإيزيديات اللواتي يزِدن عن الألفين، وتوضح: "بالرغم من أن المعاناة واحدة، لكن داعش كان أقسى على النساء الشيعيات بشهادة الكثير من الناجين، إلا أن قلة أعداد الناجيات التركمانيات والشبكيات الشيعيات منع تدويل قضيتهن، هذا فضلاً عن عدم بروز واحدة منهن للحديث عن مأساتهن كما فعلت إيزيديات، وأبرزهن ناديا مراد التي حصلت على جائزة نوبل للسلام".

وتشير إلى أن الاغتصاب هو المحظور الأعظم في مجتمعاتهن، لذا تفضّل الناجيات السكوت وعدم المطالبة بأي تعويضات أو حتى إبراز قصصهن، "بالرغم من التبعات النفسية والصدمات الناتجة عن العنف الجنسي والتعذيب والسبي الذي تعرضن له، إلا أنهن يتكتمن على ذلك كله، لأنهن قد يتحولن من ضحايا إلى مجرمات وتتم تصفيتهن غسلاً للعار".

وتستدرك الباحثة أنهار: "نجاتهن لا تعني أبداً أنهن أصبحن بخير!".

ينطبق ما قالته الباحثة، وبنحو كبير، على الناجية التركمانية هدى. فنجاتها من حياة السبي، لم تكن نهايةً للمأساة التي عاشتها، إذ توجّب عليها بعد عودتها إلى تلعفر، مواجهة مجتمع يتعامل معها بانتقاص، وينظر إليها بريبة لكونها كانت زوجة داعشي.

"كنت أسمعهم بأذني يقولونها لي: زوجة الداعشي، لكنهم لم يذكروا شيئاً عن الطفلة التي خُطفت، وزُوّجت رغماً عنها، بل تعاملوا معي كمذنبة، ولكن عن أي ذنب يتحدثون؟ فأنا الضحية هنا، وهم لا يفهمون هذا أو لا يريدون أن يفهموه...".

قالت هدى ذلك بشيء من الغضب، إذ كانت تعدّ الأيام وهي في قبضة التنظيم، من أجل العودة إلى أهلها والاحتماء بهم، لكن ما حدث بعد عودتها صدمها كلياً: "البعض قالوا لي لماذا لم ترفضي الزواج بالداعشي... وكأن الأمر بيدي. إنهم أغبياء، لم يعيشوا ما عشته، ولم يروا ما رأيته بعيني".

في عام 2021، تزوجت هدى، من صديقٍ لأحد أقربائها، ومع أن ذلك قد يدخل ضمن رغبة المجتمع في إخفاء أي شيء يشير إلى وجود سبايا وناجيات من نساء منتميات إليه، إلا أنها تعدّ الأمر بمثابة طوق نجاة، وتنظر إلى زوجها كبطل: "المجتمع تعامل معي على أنني عار عليه ولم يتقبّلني، لكن زوجي أسكت كل الأفواه التي كانت تجلدني بلومها وتكفّل بتربية شقيقي. لقد حلّ محل أمي وأبي بالرغم من أنه ينتمي إلى المجتمع ذاته الذي نبذني".

زوجها شجعها على المطالبة بتعويض عما حدث لها أمام القضاء العراقي، بموجب القانون رقم 8 لسنة 2021. تقول بشأن ذلك: "لا توجد نتيجة إلى الآن، لكن على الأقل أشعر بأنني أفعل شيئاً لردّ شيء من الاعتبار لنفسي".

القانون رقم 8، أو كما يُعرف بقانون الناجيات الإيزيديات، شمل كذلك التركمانيات والمسيحيات والشبكيات، والهدف من إصداره حسب أعضاء في مجلس النواب، هو تعويض الناجيات المشمولات به "مادياً ومعنوياً وتأمين حياة كريمة لهنّ بالإضافة إلى التأهيل والرعاية وإعداد الوسائل الكفيلة لدمجهن في المجتمع ومنع تكرار ما حصل من انتهاكات بحقهن".

قانون الناجيات الإيزيديات، شمل كذلك التركمانيات والمسيحيات والشبكيات، والهدف من إصداره هو تعويض الناجيات المشمولات به "مادياً ومعنوياً وتأمين حياة كريمة لهنّ بالإضافة إلى التأهيل والرعاية وإعداد الوسائل لدمجهن في المجتمع ومنع تكرار ما حصل من انتهاكات بحقهن".

القانون يتضمن تعويضات لكل ناجية إيزيدية تم اختطافها من قبل تنظيم داعش، وتحررت بعد ذلك، والنساء والفتيات من المكوّن (التركماني، المسيحي، الشبكي)، اللواتي تعرّضن للجرائم المذكورة في البند (أولاً) من المادة (1) من القانون، والناجين من الأطفال الإيزيديين الذين كانوا دون سن الثامنة عشر عند اختطافهم، والناجين الإيزيديين والتركمان والمسيحيين والشبك من عمليات القتل والتصفية الجماعية التي قام بها تنظيم داعش في مناطقهم.

وعرّف القانون الناجية بأنها "كل امرأة أو فتاة اختُطفت من قبل تنظيم داعش وتعرضت لجرائم العنف الجنسي، أو تم استعبادها جنسياً وبيعها في أسواق النخاسة، أو فصلها عن ذويها، أو إجبارها على تغيير ديانتها، أو للزواج القسري، أو الحمل والإجهاض القسري أو إلحاق الأذى بها جسدياً ونفسياً من قبل تنظيم داعش من تاريخ 3\8\2014، وتحررن بعد ذلك".

ومنذ إقرار القانون في 2021، تم تسجيل 348 ناجياً وناجيةً فقط من جميع المكونات المشمولة به، وتمت الموافقة على تلقّيهم تعويضات بموجبه، وتم في 1 آذار/ مارس الماضي، تسليم أول وجبة من بطاقات الائتمان لناجين إيزيديين (21 امرأةً وثلاثة رجال)، يمكنهم استخدامها لسحب رواتبهم الشهرية التي تُقدَّر بنحو 500 ألف دينار(383 دولاراً أمريكياً). 

الناجيات الشبكيات... "المجتمع يحول دون إنصافنا"

ولا يختلف الوضع كثيراً في مجتمع الشبك، وهي أقلية ينتشر أفرادها في سهل نينوى وأجزاء من شرق مدينة الموصل، فالأهالي يمتنعون كذلك عن تقديم المعلومات بشأن المفقودات، إذ رصدت منظمة العدالة لحقوق الأقليات 232 مفقوداً شبكياً، بينهم خمس مفقودات فقط، وأربع قتيلات. مدير منظمة العدالة لحقوق الأقليات التي نفذت مشروعاً يستهدف الناجيات الشبكيات، حسين زينل، يبرر ذلك بتحفظ العائلات عن الإفصاح عن وجود مفقودات من أفرادها متوقعاً فارقاً كبيراً بين العدد المرصود والعدد الحقيقي للقتيلات والمفقودات الشبكيات.

مسؤول مكتب تحرير المختطفين الإيزيديين، حسين قائدي، أكد أن المكتب لم يتلقَّ حتى الآن أي معلومات حول المختطفات التركمانيات والشبكيات، لذا لم يتمكن من الوصول إلى أي واحدة منهن، فيما نجح مكتبه في الوصول إلى مئات السبايا الإيزيديات وتحريرهن. لم تمنع الوصمة الاجتماعية الكشف عن العدد الحقيقي للناجيات والمخطوفات والقتيلات الشبكيات الشيعيات، "بل منعت 14 ناجيةً شبكيةً شيعيةً مرصودةً من قبل منظمة العدالة لحقوق الأقليات من ترويج ملف تعويضهن لدى القضاء"، وهذا ما أفاد به ناشطون يعملون على ملف الناجيات الشبك الشيعيات.

نادية (30 سنةً)، وهو اسم مستعار اختارته لنفسها بسبب حساسية قصتها بالنسبة إلى مجتمعها، شبكية، شيعية، وزوجة لرجل شبكي من الطائفة السنّية، لكن ذلك لم يشفع لها مطلقاً. فوفقاً لروايتها، كانت تسكن في حيٍ شعبي في شرق مدينة الموصل، وبخلاف أقربائها الذين فرّوا من المدينة في 10 حزيران/ يونيو 2014، عندما اجتاح عناصر داعش الموصل، بقيت هي في منزلها مطمئنةً إلى أن التنظيم لن يمسّها بسوء كونها متزوجةً من سنّي. بعد أسابيع من سيطرة التنظيم على الموصل، اقتحم مسلحون منزلها، وعصبوا عينيها، وقيّدوا يديها من الخلف، وأخذوها إلى معتقل ووضعوها في زنزانة 

"لا أعلم من وشى بي لديهم، وأخبرهم بأنني جاسوسة"، تقول بحنق، وتضيف: "الداعشي المكلّف بتعذيبي، كان يضربني كل يوم ويطلب مني معلومات عن الجيش والشرطة. أقسمت له مراراً وتكراراً بأن لا علاقة لي بالقوات الأمنية لكن ذلك لم يُنجِني، فهو كان يصرّ على أن جميع الشيعة على اتصال بعناصر الجيش أو الشرطة، وهذا ما كان يكرره لي دائماً".

لم تتعرف نادية على عدد كبير من الناجيات، لكنها تحدثت عن أساليب التعامل مع الشبكيات الشيعيات من قبل داعش: "كنتُ أسمع أحاديث أفراد التنظيم والمختطفات. بعضهن تم حرقهن وبعضهن كنَّ جواري لدى عوائل ينتمي أفرادها إلى داعش، والأخريات وُضعن في غرف انفرادية تُستخدم للتعذيب والاغتصاب". تصمت قليلاً وتكمل بصوت مختنق: "أنا كنتُ ضمن القسم الأخير"، ثُم تجهش بالبكاء.

تعرضت نادية للتعذيب المستمر والاغتصاب المتكرر في غرفة التعذيب الانفرادية لما يقارب ثمانية أشهر، قبل أن يتمكن زوجها من تأمين المال بعد الاتفاق مع أحد أفراد التنظيم على تهريبها والخروج معها إلى خارج نينوى: "اقترض زوجي 50 ألف دولار من أقربائه ومعارفه ودفعها للداعشي الذي اتفق معه، وهربنا معاً إلى الجنوب للّحاق بعائلتي، أبي وأمي وأشقائي".

لم تُدلِ نادية بتفاصيل أخرى خشية أن تنكشف شخصيتها وتتعرض للخطر، لأن أهلها قد يقتلونها غسلاً للعار وفقاً لمخاوفها. لكن ما سكتت عنه نادية تحدث عنه حسين زينل، إذ يقول: "رصدنا 58 ناجيةً شبكيةً جميعهن من الشيعة ضمن مشروع يهدف إلى حصول الناجيات على استحقاقاتهن المنصوص عليها في قانون الناجيات الإيزيديات رقم 8 لسنة 2021، وإعادة التأهيل النفسي، فأغلبهن يعانين من تأثيرات الصدمة لما واجهنه بسبب داعش".

ويضيف: "ترفض الناجيات الشبكيات الإفصاح عما حدث لهن بسبب الخشية من نظرة المجتمع إليهن، كما يرفضن الكشف عن هوياتهن للسبب عينه. جميع من رصدناهنّ فضّلن تحصيل معاملات تعويضهن من خلال المنظمة، تجنّباً لمواجهة مواقف تشعرهن بالذنب من كونهنّ ناجيات". حاولت نادية أن تجرّب حظها في تقديم طلب تعويض إثر صدور قانون الناجيات في 2021، لكنها اصطدمت حسب ما تقول، بنظرة المجتمع الشبكي الشيعي إلى الناجيات، فعلى الرغم من وجود شاهد أدلى بشهادته أمام القضاء بأنها تعرضت بالفعل للتعذيب على أيدي عناصر داعش، إلا أنها لم تسلم من نظرات "اللوم والتجريم".

تقول بأسف: "في مراكز الشرطة والمحاكم، ما أن يعلم الموظفون أنني ناجية حتى تبدأ نظراتهم الغريبة ثم يبدؤون بالتهامس في ما بينهم".

توقفت نادية عن متابعة معاملتها في نهاية الأمر بسبب تلميحات بعض الموظفين ومحاذير اجتماعية، تروي: "بعض ما كانوا يتلفظون به يوحي بأنهم يعدّونني امرأةً سيئة السمعة. لا أريد تعويضاً يُشعرني بنبذ الآخرين لي، كما أن المجتمع الشبكي يرفض دخول النساء إلى مراكز الشرطة، والقاضي يشترط إجراء التحقيق في مركز الشرطة. بعض الناجيات اللواتي أعرفهنّ رفضن حتى الكشف عن حقيقة كونهن ناجيات حتى بعد اصدار قانون التعويضات خوفاً من ألسنة الناس".

تعرضت نادية للتعذيب المستمر والاغتصاب المتكرر في غرفة التعذيب الانفرادية لما يقارب ثمانية أشهر، قبل أن يتمكن زوجها من تأمين المال بعد الاتفاق مع أحد أفراد التنظيم على تهريبها والخروج معها إلى خارج نينوى: "اقترض زوجي 50 ألف دولار من أقربائه ومعارفه ودفعها للداعشي الذي اتفق معه، وهربنا معاً إلى الجنوب للّحاق بعائلتي، أبي وأمي وأشقائي"

عقبات أمام تنفيذ قانون

حدد قانون تعويض الناجيات الإيزيديات المستفيدين منه، وهم المتعرّضون/ ات للانتهاكات من تأريخ 3\8\2014، وهو ما قد "يسبب ضياعاً لحقوق العديد من الناجيات التركمانيات والشبكيات والمسيحيات"، وفقاً للناشط جعفر التلعفري، الذي يوضح: "داعش سيطر على تلعفر حيث التركمانيات الشيعيات وسهل نينوى حيث الشبكيات الشيعيات، في حزيران/ يونيو وتموز/ يوليو 2014، أي قبل هجومه وسيطرته على سنجار حيث الإيزيديات في 3 آب/ أغسطس من السنة نفسها".

ويشير التلعفري إلى أمر آخر: "قانون الناجيات لم يتطرق إلى تعويض الأطفال الناجين من المكونات غير الإيزيدية".

يشاطره الرأي الخبير القانوني علي التميمي، الذي يشدد على ضرورة تعديل القانون من قبل مجلس النواب العراقي، ويضيف: "اعتمد القانون وسائل الإثبات الرسمية وغير الرسمية لإثبات واقعة الاختطاف، وهنا يحتاج إلى الدقة في التطبيق، كما لم يتناول الجانب الجزائي والجرائم الدولية التي تعرضت لها الناجيات، وكان ينبغي أن يتضمن القانون شيئاً من ذلك، لا سيما أن الكثير من عناصر التنظيم هم في الأصل مواطنون من دول أخرى".

غير أن الثغرات في هذا القانون ليست المشكلة الوحيدة وفقاً لمراقبين يرون أن المشكلة الأكبر تكمن في التلكؤ في تنفيذه، على الرغم من مرور سنتَين على تشريعه ونشره في جريدة الوقائع الرسمية، أي دخوله حيز التنفيذ.

فالإجراءات لتنفيذه بالنسبة إلى غير الإيزيديات، توصَف بالمعقدة، إذ تطالَب الناجية التركمانية أو الشبكية، بتقديم شهود إثبات وتأييدٍ من مختار المنطقة، فضلاً عن إجراء تحقيقات مطولة مع الناجية، وبعد كل ذلك يتعين عليها رفع دعوى أمام محكمة الجنايات.

وإزاء ذلك، أصدرت منظمات دولية ومحلية بياناً مشتركاً في نيسان/ أبريل 2023، بشأن تنفيذ قانون الناجيات الإيزيديات، من بينها صندوق الناجين العالمي، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان واللجنة الدولية للحقوقيين والمجلس الدولي لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب (IRCT)، وهيومن رايتس ووتش، دعت فيه إلى اتّباع البرامج الإدارية في التعامل مع الناجيات خلال تنفيذ قانونهن.

وأشار البيان إلى أن البرامج الإدارية توفّر طرق حصول على تعويض بنحو أسهل من السبل القضائية، وأن بإمكانها "الاستجابة لأعداد كبيرة من الناجيات، وتقليل التكاليف والإجراءات الرسمية، وتبسيط معايير الأدلة المطلوبة، وإزالة عبء الإثبات وتقليل تعرّض الناجيات للوصم".

وتطرّق البيان إلى أن فرض رفع دعاوى جنائية على الناجيات قد لا يتماشى مع قدرة الضحايا، وقد يتسبب في "وصمة العار والتعرض مجدداً لصدمة، ويؤخر أو حتى يعيق الوصول إلى تعويض كافٍ وسريع وفعّال. لهذه الأسباب، لا نشجع مطلقاً على مطالبة الناجيات بتقديم شكاوى جنائية كوسيلة لإثبات الأهلية للتعويض".

وتماشياً مع ما جاء في البيان، يرى المحامي محمد جمعة، أنه بالإمكان الاستغناء عن تقديم شكوى جنائية تحتاج إلى جهد وتكاليف مالية قد لا تتمكن الناجية من تحمّلها، ويعتقد أنه من الأفضل استبدالها بإجراءات تحقيقية أخرى، لا سيما أن قانون الإثبات العراقي رقم (107) لسنة 1979، يحتوي على العديد من طرق إثبات وقوع الضرر "التي لم يتطرق قانون الناجيات رقم 8 إلى أي منها"، يقول المحامي بأسف.

مسرّة (اسم مستعار، 34 عاماً)، ناجية من مدينة تلعفر، عادت سنة 2017 إلى المدينة بعد نحو سنة قضتها في سوريا زوجةً لعنصر من داعش قُتل في إحدى المعارك هناك، لكنها لم تستطِع المكوث طويلاً في المدينة بسبب عيون الأهالي التي كانت تنظر إليها بريبة، حسب ما تقول.

ولهذا لجأت هي وأمها إلى بلدة في شرق مدينة الموصل، لتعيشا عند خالة لها، لكن ذلك ليس خاتمة المأساة التي عاشتها، إذ إن لديها طفلاً رضيعاً أودعته لدى عائلة في سوريا، ولم تأخذه إلى العراق لدى عودتها خشيةً على سلامته من أقربائها.

وما حدث أنها حاولت مراراً التواصل مع تلك العائلة، لكنها لم تتمكن من ذلك، فقد انتقلوا من البلدة التي كانوا فيها، ورقم الهاتف الذي أعطوه إليها لم يعد مستخدماً. تقول بحرقة: "البعض أخبرني بأنهم ربما يكونون في مخيم أبو الهول أو في منطقة يسيطر عليها الأكراد، وآخرون قالوا إنهم قُتلوا خلال الحرب".

تمتلئ عيناها بالدموع وهي تضع يدها ناحية قلبها: "لم يكن عليّ العودة من دونه أبداً. كان عليّ البقاء مثلما فعلت تركمانيات غيري، بسبب أطفالهن. إنهن أفضل منّي!".

أُنجز التقرير تحت إشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

جميعنا عانينا. عانينا كثيراً، ولا نزال نعاني، من انتشار الجماعات المتطرفة والأفكار المتطرفة، ولذلك نحرص في رصيف22 على التصدي لها وتفكيك خطاباتها، ولكن نحرص أيضاً، وبشدّة، على عدم الانجرار إلى "شرعنة" ممارسات الأنظمة التسلطية، لأن الاستبداد أحد أسباب ظاهرة التطرّف، ولا يمكن التصدي لها بمزيد من الاستبداد. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard