ربما لا تحمل لعبة رياضية في تاريخها الجدل والصراعات الشخصية والسياسية والأثر في الفن والأدب كما تفعل لعبة الشطرنج ذات الجذور القديمة، التي مثلت العبقرية والإستراتيجية والسحر والجنون في الماضي، والتقدم التكنولوجي في الحاضر. وما تزال الآن بمناسبة قرب اليوم العالمي للشطرنج، تتمتع بالكثير من ألقها، ففي رقعتها المكونة من 64 مربعاً دارت حكايات مثيرة ومنافسات قتلت بعض أصحابها ونجت بالآخرين، حكايات تطفو على السطح كلما لعب لاعب في مكان ما من العالم نقلته الأولى.
استمالت عشاقها العلنيين وأنصفت عشاقها السريين
تمثل كل حركة في رقعة الشطرنج أبعاداً تاريخية وثقافية واسعة، فاللعبة التي يوجد نزاع حول بداياتها وابتكارها، ترجع أصولها إلى الهند في القرن السادس الميلادي كما يرى مؤرخون منهم ديفيد شينك في كتابه "اللعبة الخالدة: تاريخ الشطرنج"، ويشير شينك أن الشطرنج مرت بتغيرات كثيرة منذ انتقالها إلى الفرس والعرب والصينيين حتى وصولها أوروبا وتطورها إلى شكلها الحالي وقوانينها المعتمدة دولياً.بمناسبة اليوم العالمي للشطرنج نستذكر فوق رقعتها المكونة من 64 مربعاً حكايات مثيرة ومنافسات قتلت بعض أصحابها ونجت بالآخرين، حكايات تطفو على السطح كلما لعب لاعب في مكان ما من العالم نقلته الأولى
وسرعان ما أخذت الشطرنج منذ انتشارها مكانتها كلعبة للملوك والعظماء والعباقرة، فقد لعبها بشكلها القديم أباطرة الصين وعظماء بلاد فارس، كما لمع نجمها عند العرب في العصر العباسي، إذ أعجب بها خلفاء كالمعتضد والرشيد، ووثق لها ولمحبيها في الحضارة العربية أدباء مثل ياقوت الحموي والأصفهاني، وشرح قوانينها علماء منهم البلخي.
والجدير بالذكر أن اللعبة تعرضت للمنع والتحريم لأسباب دينية، فقد حرمها الإسلام في زمن علي بن أبي طالب بوصفها لعبة تؤدي إلى المقامرة وتحمل قطعها أشكالاً لا يجوز تصويرها، كما حرمتها الكنيسة الكاثوليكية عام 650 ميلادية والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية عام 1093 لأسباب لا تبتعد عن أسباب تحريمها في الإسلام، وأدى ذلك لمنعها خلال حقب مختلفة في بعض دول أوروبا، ولكن المثير هو أن منعها من قبل الكنيسة في فرنسا عام 1125 والتشديد على الرهبان بعدم التعامل بها، أدى براهب فرنسي لابتكار رقعة شطرنج جلدية قابلة للطي تخفى القطع داخلها من أجل ممارسة اللعبة سراً.
حرمها الإسلام في زمن علي بن أبي طالب، وحرمتها الكنيسة الكاثوليكية عام 650 ميلادية والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية عام 1093
ويقودنا هذا إلى استمرار الإثارة بخصوص اللعبة في أوروبا، حيث قام الراهب الإسباني روي لوبيز الذي عاش في القرن السادس الميلادي، وطور افتتاحية إستراتيجية تحمل اسمه وما تزال تُلعبُ حتى اليوم، باستعمال الرقعة الجلدية التي يمكن إخفاؤها في ثيابه الكنسية الطويلة ووضع القطع معها. ولقد أنصفت اللعبة عشاقها من الرهبان بإطلاق اسم الراهب (Bishop) في القرن الثاني عشر على القطعة التي تعرف عربياً باسم الفيل.
نقلات عبقرية أفضى بعضها إلى الموت أو الجنون
أحاطت الأساطير وأشباح الموت والعبقرية والجنون باللعبة. وفي هذا السياق، يقول لرصيف22 الأستاذ والمدرب الدولي الأردني في الشطرنج وصاحب الإنجازات المحلية والعربية والدولية المتنوعة سمير منصور: "تعج لعبة الشطرنج بالأفكار الموازية لعالمنا المادي، يتضافر فيها المنطق مع الخيال المجنح والأفكار الإبداعية والتكتيك والإستراتيجيات والعامل النفسي في حسم مسارات اللعب لصالح أحد الخصمين تماماً، كما يلعب اليوم البعد النفسي دوره في تحديد مسارات النفس البشرية في الحياة" مما يجعلها تبدو لعبة مصيرية في بعض الأحيان، وسبباً في هزيمة البعض هزيمة شاملة قد تمتد إلى خارج حدود الرقعة".وهذا برأي منصور، ما يمنح اللعبة أبعادها الخيالية والواقعية في آن واحد، ومثال ذلك حسب قوله، هو صفات أبطال العالم على مر التاريخ، مثل "الدب الروسي أناتوليكاربوف الذي يتحين فرصة تكتيكية للانقضاض على الخصم، أو الجدار الحديدي تيغرانبتروسيان، الذي لا يمكن اختراق دفاعاته بسهولة، أو كما الأسطورة الأمريكي بوبي فيشر، الذي يضحي بكل شيء من أجل تحطيم الخصم والفوز، وألكساندر أليخين الذي يهاجم بسيف بتار ذي حدين لا يمكن رده كأنه الإسكندر الأكبر".
ولقد مر على بطولة العالم في الشطرنج منذ القرن التاسع عشر أبطال عديدون، حملت قصص حياتهم الشخصية مآسي وأحداثاً مثيرة وغريبة، لكن تظل قصة كلٍ من الروسي ألكساندر أليخين والأمريكي بوبي فيشر هما الأكثر غرابة وإثارة. وتتمثل حكاية أليخين في كونه هرب من البلشفية في روسيا ونجا من اعتقال كتيبة ألمانية له بعد تحدي أبطالها في الشطرنج وهزيمتهم جميعاً وهو يلعب من خلال استعراض أسماء النقلات ودون أن يرى الرقعة، ليصبح لاحقاً بطل العالم ومعارضاً للنظام الشيوعي، حتى لحظة مقتله الغامضة في البرتغال عام 1946 بينما كان يستعد لخوض منافسات بطولة العالم مجدداً، إذ تشير أصابع الاتهام إلى الروس في قتله آنذاك.
ويشير منصور إلى أن حياة أليخين مليئة بالإثارة والمفارقات، تماماً كما هي حياة بوبي فيشر الذي كان أول أمريكي يقصي سيطرة الاتحاد السوفياتي على الشطرنج ويهزم معظم أبطاله ليحرز بطولة العالم عام 1972 في ظروف معقدة، لكنه حين أدرك "أنه بيدق في لعبة الحرب الباردة بين البلدين كما شعر في زمنه، وبغض النظر إن كان محقاً أم لا، فقد تمرد على الطرفين وهاجم كلاً منهما بجرأة وابتعد عن الشهرة وعن الشطرنج لأعوام طويلة، ليعود ويتصرف براديكالية ضد السياسات الأمريكية في العالم خلال التسعينات، ويظل منفياً إلى أن توفي عام 2008".
هرب ألكساندر أليخين من البلشفية، ونجا من اعتقال كتيبة ألمانية بعد تحدي أبطالها وهزيمتهم جميعاً، ليصبح بطل العالم ومعارضاً للشيوعية، حتى لحظة مقتله الغامضة في البرتغال عام 1946 بينما كان يستعد لخوض بطولة العالم مجدداً
وغير بعيد عن أليخين وفيشر، يشير المؤرخ شينك إلى حكايات لا يراها مؤكدة أن مرضاً عقلياً مس بطل العالم الأول عام 1886 النمساوي وليام شتاينتز ليموت في مستشفى الأمراض العقلية بسبب إفراطه في اللعب ضد نفسه بعد سيطرته لأعوام على بطولة العالم، وكذلك اللاعب الأمريكي الشهير بول مورفي الذي لم يجد من يهزمه كما قيل، فأصيب بمرض عقلي عزله عن الناس وأفضى به إلى الموت.
تؤثر بسحرها كأنها ابتكرت الآن
بيل غيتس عبقري في الأعمال وبرامج الحاسوب، لكنه لاعب شطرنج ضعيف هزمه بطل العالم السابق ماغنوسكارلسن بتسع نقلات فقط في لعبة تحتمل أكثر من 8 ملايين احتمال لنقلاتها بمجرد تجاوز النقلات الثلاث الأولى في افتتاحية المباراة، كما لا توجد من بين مئات آلاف مباريات الشطرنج الموثقة اليوم على شبكة الويب وفي الكتب مباراة تشبه الأخرى. ويعقب سمير منصور على هذا الموضوع بالقول "إن لعبة الشطرنج ليست لعبة ذكاء فقط كما يظن كثيرون حول العالم، إنها لعبة تدريب ودراسة للمباريات، ولافتتاح الدور ووسطه ونهايته، وتدريب مستمر وقدرة على امتلاك النفسية والقدرة الجسمانية للمنافسة". لذلك فإن ذكاء بيل غيتس ونجاحه في الحياة لم يسعفاه في اللعبة، وربما كان هذا ينطبق على آينشتاين من قبله، الذي تجنب الشطرنج عموماً وانتقد مبدأ المنافسة الحادة فيها، لا لشيء، إلا لأنه لم يكن لاعباً مميزاً كما قيل.هزم ماغنوسكارلسن بيل غيتس في الشطرنج بتسع نقلات فقط، في لعبة تحتمل أكثر من 8 ملايين احتمال لنقلاتها بعد تجاوز الثلاث حركات الأولى
وبشكل عام، فإن العديد من المشاهير، كالممثلين، ومنهم فرانك سيناترا وآفاغاردنر ومارلين مونرو، وغيرهم اليوم مثل جوليا روبرتس وروبرت دي نيرو، والسياسيون كتشرشل، أو الثوار كغيفارا وكاسترو، كل هؤلاء يحبون الشطرنج حتى لو كانوا لاعبين رديئين، أو لاعبين جيدين مثلي حتى، ممن يحملون رقماً دولياً ويمارسون اللعبة بعمق وفهم، لكن دون نتائج عظيمة. غير أن الشطرنج ومن تجربة شخصية، تتملك الكثير من وقت وحياة من يحبها بالفعل، ولو أن المجال يتسع، لتذكرنا باستفاضة لاعبي زمن الاتحاد السوفييتي، الذين خسر بعضهم أسرته لأجل اللعبة، وتشرد بعضهم بسببها، وهرب آخرون من سطوة السلطة عليها وعلى لاعبيها مثلما فعل غاري كاسباروف.
وفي النهاية، نشير إلى رواية ستيفان زفاييغ "لاعب الشطرنج" التي نختم بها وبما قاله منصور عنها وعن الشطرنج: "تظهر لك الرواية الجمال والحكمة والغموض الكامن خلف الشطرنج، إنها ليست مجرد تسلية أو نقلات فقط، إنها تقدير للخيال والإبداع، وتصوير لدوافع الإنسان للبقاء ومواجهة قلق الخسارة والموت، وهي اليوم ورغم تطور الذكاء الحاسوبي والاصطناعي الذي يسمح لكل من يحبها بتعلمها باحتراف، غير أنها في كل نقلة الآن وغداً، تستعيد سحرها كأنها ابتكرت الآن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...