في العام 1984، تم إلغاء بطولة العالم للشطرنج بسبب الصورة الهزيلة المقلقة التي ظهر بها اللاعب الروسي أناتولي كاربوف، بعد أن خسر 10 كيلوغرامات خلال الأشهر الخمسة السابقة وعشرات المباريات.
وعلى الرغم من عدم تعرّض أي منافس لفقدان الوزن بهذا الحجم منذ ذلك الحين، إلا أن المحترفين في لعبة الشطرنج بإمكانهم حرق حوالي 6000 سعرة حرارية في يوم واحد، دون الانتقال من مقاعدهم.
وبالتالي، هل يعتبر الدماغ مسؤولاً عن هذا الامتصاص الهائل للطاقة؟ وهل يعني ذلك أن التفكير العميق هو طريق بسيط لخسارة الوزن؟
الإرهاق الذهني
بخلاف التمارين الرياضية والمجهود البدني، لا تتطلب التمارين الذهنية طاقة أكثر من المعتاد، غير أن الاعتقاد بأننا "استنفدنا" دماغنا قد يكون لوحده كافياً للشعور بالإجهاد.
في الغالب، تتطلب معظم الوظائف حلّ المشاكل بطريقة إبداعية، بالإضافة إلى أنشطة عقلية أخرى صعبة، فهل القوة الذهنية الإضافية التي نستخدمها في العمل تحرق طاقة أكثر من الجلوس على الأريكة ومشاهدة البرامج التي سبق وأن شاهدناها من قبل؟
الجواب هو نعم، بحسب ما قاله إيوان ماكناي، الأستاذ المساعد في علم النفس وعلم الأعصاب السلوكي في جامعة ألباني، لصحيفة التايم.
وأوضح ماكناي الذي درس كيفية استخدام الدماغ للطاقة لأداء العمل، أن الدماغ، وعلى عكس أي جزء آخر من الجسم، يعمل حصرياً على سكر الغلوكوز، وتتطلّب الأنشطة المعرفية المرهقة مستويات أعلى من الغلوكوز مقارنة بما تتطلبه الأنشطة البسيطة.
تتطلب معظم الوظائف حلّ المشاكل بطريقة إبداعية، بالإضافة إلى أنشطة عقلية أخرى صعبة، فهل القوة الذهنية الإضافية التي نستخدمها في العمل تحرق طاقة أكثر من الجلوس على الأريكة ومشاهدة البرامج التي سبق وأن شاهدناها من قبل؟
والواقع، إن هناك ظاهرة شائعة تعرف بالإرهاق الذهني المؤقت، إلا أنها تختلف عن الإجهاد الذهني المزمن المرتبط بالحرمان المنتظم من النوم وبعض الاضطرابات المرضية.
فالتعب الذهني اليومي هو أمر بديهي، ويتطلب التفكير المعقد والتركيز الشديد طاقة أكبر من العمليات الذهنية الروتينية.
وكما تتعب أجسامنا نتيجة التمارين الرياضية القوية كذلك يستنزف المجهود الذهني الدماغ، الذي بدوره يستهلك باستمرار كميات هائلة من الطاقة بالنسبة لعضو في مثل حجمه، وذلك بغض النظر عمّا إذا كان الشخص يحل مسائل في التفاضل والتكامل أو ينقر على عشرة مقاطع مضحكة.
وعلى الرغم من أن الخلايا العصبية تستدعي المزيد من الدم والأكسجين والغلوكوز، فإن أي زيادة موضعية في استهلاك الطاقة تكون ضئيلة مقارنةً بالاستهلاك الأساسي للدماغ.
لذلك، في معظم الحالات تتطلب الفترات القصيرة من المجهود الذهني الإضافي قدراً أكبر بقليل من الطاقة الذهنية المعتادة.
ومع ذلك، فإن معظم التجارب لم تُخضع المتطوعين مثلاً لعدة ساعات من التمارين الذهنية، وعليه لا بدّ من وجود تفسير للشعور بالإرهاق الذهني، حتى لو كان الجانب الفيزيولوجي يختلف عن التعب الجسدي، فمجرد الاعتقاد بأن أدمغتنا قد بذلت الكثير من الجهد قد يكون كافياً لجعلنا نشعر بالتعب والخمول.
الدماغ "جشع"
في مقاله الذي ورد في موقع Scientific American، أوضح فيريس جيبر أنه على الرغم من أن متوسط دماغ الإنسان البالغ يزن حوالي 1.4 كيلوغرام، أي 2% فقط من إجمالي وزن الجسم، إلا أنه يستهلك ما يصل إلى 20% و25% من إجمالي الطاقة الكلية للجسم، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المسألة تختلف من شخص إلى آخر بحسب العمر، الجنس، الحجم والصحة.
من هنا أوضح جيبر أنه لو افترضنا أن متوسط معدل الأيض أثناء الراحة يبلغ 1300 سعرة حرارية، فإن الدماغ يستهلك 260 منها، مما يعني بأنه يستهلك 10.8 سعرات حرارية في الساعة، أو 0.18 سعرة حرارية في الدقيقة، هذا يعني أنه خلال يوم عادي، يستخدم الشخص حوالي 320 سعرة حرارية في اليوم للتفكير فقط.
وكشف الكاتب أن دماغ الإنسان البالغ يعمل على حوالي 12 واط، أي خُمس الطاقة التي يتطلبها مصباح تقليدي قدرته 60 واط: "بالمقارنة مع معظم الأعضاء الأخرى، فإن الدماغ جشع، ولكن مقارنة مع الإلكترونيات التي صنعها الإنسان، فإنه موفر للطاقة بشكل مذهل".
يستخدم الشخص حوالي 320 سعرة حرارية في اليوم للتفكير فقط
تنتقل الطاقة إلى الدماغ عبر الأوعية الدموية على شكل غلوكوز، وقد أكدت التجارب أنه عندما تشتعل الخلايا العصبية في منطقة معينة من الدماغ، تتمدد الشعيرات الدموية الموضعية لضخّ المزيد من الدم أكثر من المعتاد، إلى جانب المزيد من الغلوكوز والأكسجين.
من هنا اقترح بعض العلماء ما يلي: إذا كانت الخلايا العصبية هذه تتطلب الغلوكوز بشكل إضافي، فإن المهام الذهنية الصعبة يجب أن تقلل من مستويات الغلوكوز في الدم، وبالمثل، فإن تناول الأطعمة الغنية بالسكر يجب أن يحسّن الأداء في مثل هذه المهام.
في هذا الصدد، كشفت دراسة أجريت في جامعة نورثمبريا أن المتطوعين الذين أكملوا سلسلة من المهام اللفظية والرقمية أظهروا انخفاضاً أكبر في نسبة الغلوكوز في الدم، مقارنة بالأفراد الذين ضغطوا على أحد المفاتيح بشكل متكرّر.
الجسم والعقل
إذا كانت المهام المعرفية الصعبة تستهلك كمية من الطاقة أكثر قليلاً من المعتاد، فما الذي يفسّر الشعور بالإرهاق الذهني عقب خوض اختبار ذهني؟
تتمثل إحدى الإجابات في أن الحفاظ على التركيز غير المنقطع لعدة ساعات يحرق بالفعل طاقة كافية لإحساس المرء بالاستنزاف، لكن الباحثين لم يؤكدوا ذلك، لأنهم ببساطة لم يكونوا قساة بما يكفي مع المتطوعين، بحيث أنه وفي معظم التجارب، يؤدي المشاركون مهمة واحدة ذات صعوبة متوسطة، نادراً ما تستمر لأكثر من ساعة أو ساعتين.
ومن المهم أيضاً النظر إلى سلوك المرء تجاه الإرهاق الذهني وكيفية تعامله معه، فمشاهدة فيلم سينمائي عن السيرة الذاتية لإحدى الشخصيات مع سرد معقد يثير العديد من مناطق الدماغ المختلفة لمدة ساعتين تقريباً، ومع ذلك لا يخرج الناس من صالة السينما وهم يشكون من الإرهاق الذهني، كما أن حلّ كلمات المقاطعة لا يؤدي إلى تدمير قدرة المرء على التركيز لبقية اليوم، لا بل العكس يكشف البعض أن حلّ هذه المسائل الصعبة يعزز تفكيرهم.
باختصار، يستمتع الناس ببعض الأنشطة التي تنشط التفكير دون الشعور بالإرهاق الذهني، أما التوقعات فتلعب دوراً كبيراً في هذا الصدد، إذ إنه في حال اعتقد المرء بأن الاختبار أو اللغز سيكون صعباً، فإنه غالباً ما يكون كذلك، والأمر نفسه ينطبق على الرياضة، إذ يقع جزء كبير من الإرهاق البدني في العقل البشري.
مشاهدة فيلم سينمائي عن السيرة الذاتية لإحدى الشخصيات مع سرد معقد يثير العديد من مناطق الدماغ المختلفة لمدة ساعتين تقريباً، ومع ذلك لا يخرج الناس من صالة السينما وهم يشكون من الإرهاق الذهني
أما بالنسبة للسعرات الحرارية، يخطىء من يظن أنه بإمكانه حرق المزيد من السعرات الحرارية عن طريق التفكير العميق فقط، وفق تأكيد ماركوس رايشل، أستاذ في كلية الطب في جامعة واشنطن في سانت لويس، مشيراً إلى أن أي تغييرات في نشاط الدماغ خلال مهمة عقلية صعبة، سيزيد من استهلاك الطاقة العادية بنحو 5% فقط.
بمعنى آخر، فإن الدماغ يحرق بالفعل بعض السعرات الحراية لأداء الوظائف الرئيسية، غير أن ذلك لا يعد كافياً لخسارة الكيلوغرامات الإضافية.
ومع ذلك، لا يزال من الممكن أن يكون هناك فوائد عديدة للأشخاص الذين يقضون أيامهم في أداء عمل مليء بالتحديات الذهنية. حتى لو كان المرء يحرق كميات صغيرة من السعرات الحرارية الزائدة كل يوم فقط، فإن ذلك من الناحية النظرية يمكن أن يضيف شيئاً ذا مغزى على مدى 50 أو 60 عاماً، لذا فإن التفكير العميق في الأشياء قد يستحق العناء، بخاصة وأن بعض الأنشطة الذهنية، مثل حلّ الألغاز، تعزّز الوظائف المعرفية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...