"رمضان... اتّقي الله"، و"يمعوّدة استري روحج صيامنا راح يروح من وراجِ"، و"ربج كلبها بينا من وراجن"؛ هذه العبارات كانت في انتظار الصحافية المغتربة رغد الحيالي، في أول أيام شهر رمضان الجاري، حين عودتها إلى العراق الذي غادرته في العام 2005، بعيد سنتين على دخول الدبابات الأمريكية إليه.
تقول الحيالي في حديثها إلى رصيف22، إنها كانت تتساءل دائماً كلما قرأت وسمعت عن ظاهرة التحرش في العراق في مواقع التواصل الاجتماعي والجرائد والمحطات التلفزيونية: "هل فعلاً الوضع محبِط في العراق إلى هذا الحد؟".
وتضيف: "بعد وصولي إلى العراق، اتجهت إلى مدينة الموصل حيث استغربت جداً من ردود أفعال المارة، مع أنني كنت أرتدي ملابس محتشمةً وفضفاضةً. كان الاعتراض لأني مكشوفة الرأس (لا أرتدي الحجاب)، وبالإضافة إلى تلك العبارات كانت عيون المارة تتحدث بأشدّ منها".
رافقت تلك العبارات رغد طوال مشوارها. تصمت قليلاً، ثم تنادي بنت شقيقتها رفلة (14 عاماً)، والتي كانت ترافقها في رحلتها، لتسألها: "بماذا حدّثك الرجل العجوز في الشارع؟".
لترد رفلة: "قال والنفور واضح من لحن صوته 'رمضان كريم جدّو ليش بلا حجاب'".
تشير الحيالي إلى أن من أسباب كراهية الرجال للنساء المتحررات، استمرار الخطاب الديني ضدّهن على المنابر. فرجل الدين يوبّخ النساء اللواتي يضعن العطر ويصفهن بالملعونات، ويشتد هذا الخطاب ويتكثف في أيام رمضان، وتتضح فيه رغبة الرجال عموماً في السيطرة على النساء.
رجل الدين يوبّخ النساء اللواتي يضعن العطر ويصفهن بالملعونات، ويشتد هذا الخطاب ويتكثف في أيام رمضان
برأيها، "نتاج هذا الخطاب هي الكراهية، فمن الممكن أن تواجه النساء المتحررات اللواتي يظهرن بكامل أناقتهن القتل أو تشويه السمعة، وأضعف ما يتعرضن له هو التحرش أو اللوم"، لذا وفق رأيها، غالبية الصحافيات والناشطات والكفاءات النسائية غادرن العراق بسبب عدم الارتياح والقلق اللذين يشعرن بهما في أثناء تجوالهن في شوارع العراق.
التقت رغد، بلفيف من النساء وتعرفت على مشكلاتهن؛ منهن من تعايشت مع الوضع ورضخت لمطالبهم، وهي الحجاب وطريقة اللباس. لكنهن برغم احتشامهن، يتعرضن للانتهاكات، فالمجتمع الذكوري يرغب في تغطية المرأة أو إخفائها لئلا يطمع فيها الرجال، والبعض الآخر منهن اخترن التحرر ولكنهن يعانين من خطابات وحملات ضدهن قد تكون نهايتها القتل.
"وكأن رمضان، شهر الرحمة والغفران والتسامح، شهرٌ لقمع النساء العراقيات، وإخفائهن، وشهر لتحميلهنّ مسؤولية أفعال بعض الرجال الذكورية والمسيئة بحجة الصيام، والشهر الذي تبلغ فيه العنصرية تجاه النساء في العراق ذروتها"، والكلام لرغد.
مصدر السيئات
"قبيل حلول شهر رمضان بأيام، استدعاني مسؤول العمل الخاص بي إلى مكتبه، وطلب مني أن ألتزم بارتداء الحجاب، والملابس الفضفاضة، وأن أتجنّب وضع العطر، وإلا فسوف يطردني من العمل لأني كما قال مصدر لكسب السيئات"؛ هكذا استهلت مسرة سامي (22 عاماً) حديثها إلى رصيف22، وهي تعمل في محل لبيع العطور في منطقة المنصور في العاصمة العراقية بغداد.
وتضيف عن معاناتها اليومية، مع الزملاء في العمل والمارّة وأصحاب البسطات (أي البائعين الذين يفرشون بضاعتهم على الأرض)، على جوانب الطرقات: "في الأيام العادية التحرش مستمر، وفي رمضان يشتدّ، بحجة أن الذكور صائمون، وعلينا نحن النساء ألا نستحمّ لئلا نؤثر على مشاعرهم".
"إن تجاهلناهم أو رددنا على إهاناتهم، سيبدأ التحريض"، تقول مسرة وتذكر أن "أحد العاملين بجانب مكان عملها في شهر رمضان الماضي، قال لي إن العطر الذي تضعه يحرّك مشاعره، ويؤدّي به إلى طريق المعصية. كان ردّي جافّاً وحازماً على تدخّله في شؤوني، فإذا به يحرّض مسؤول العمل الخاص بي ليوبخني في العام الماضي، ويحذرني هذا العام قبل بداية شهر رمضان، من احتمال طردي لأني مصدر لكسب السيئات في هذا الشهر المبارك".
"أرزاقنا تتوقف في رمضان"
سما سامي (40 عاماً)، من بغداد، وهي مديرة مركز تجميل، تقول لرصيف22، إن "الإساءات توجَّه إلينا في رمضان من دون مبرر والحجة أن الرجال صائمون". وتضيف أن "من الطبيعي نشر صور على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل الترويج لعملنا، لكن التعليقات المسيئة والمنددة والتي تصل أحياناً إلى المطالبة بتصفيتنا، تنهال علينا من كل حدب وصوب، لأن صور إبر البوتوكس أو الفيلر تؤدي إلى إثارة رغباتهم التي لا يقوون على جمحها".
وفي السياق نفسه، تقول آية جواد(30 عاماً)، من بغداد، وتمتلك محلاً لبيع الملابس: "علينا نحن النساء في المجتمع العراقي أن نغيب، أو نتبخّر، ونختفي من الوجود، لأن الرجال صائمون".
تقصّ آية لرصيف22، معاناتها قائلةً: "آني أعمل في الملابس الداخلية النسائية، ولي بيج (صفحة) على مواقع التواصل الاجتماعي، أشارك متابعاتي بضاعتي، فراسلني على الخاص شخص لا أعرفه. قال لي إن ما أنشره غير مناسب لشهر رمضان، خصوصاً أن الشباب صائمون وأنت تساهمين في نشر الفاحشة عن طريق نشر صور لعارضة تعرض الملابس. كان ردّي: ماذا يفعل الرجال في صفحة لملابس نسائية؟".
شهر الرحمة والغفران والتسامح، شهرٌ لقمع النساء العراقيات، وإخفائهن، وشهر لتحميلهنّ مسؤولية أفعال بعض الرجال الذكورية والمسيئة بحجة الصيام، والشهر الذي تبلغ فيه العنصرية تجاه النساء في العراق ذروتها
وتضيف: "تم تحذيري من قبله بترك النشر أيام رمضان، وبعد رفضي فوجئت بتهكير صفحتي على إنستغرام وفيسبوك، ومسح بضاعتي ونشر بدلاً من صور البضاعة صوراً لرمضان والآيات القرآنية والتراويح".
وتختم آية حديثها بلهجة حادة: "يعني إذا رمضان تنقطع أرزاقنا؟ ملّينا الحياة بهلبلد إلّي المجتمع يريد عليك فيه شغلة صغيره حتى يحاربك".
... وفي الجامعات!
"لا يقتصر هذا الفكر على أصحاب المهن في الشارع فقط، بل تعاني الطالبات في الجامعات العراقية من هذا العنف بالطريقة نفسها". تقول الأستاذة الجامعية في المستنصرية لرصيف22، وعمرها 47 عاماً وقد اختارت هيلين اسماً مستعاراً لها، خوفاً من المساءلة لأن هذا التشديد يحدث كل سنة مع دخول شهر رمضان، وما أكثر الشواهد بحسبها.
تذكر هيلين، أن "أحد الأساتذة يشطب حضور الطالبة التي تضع العطر أو مساحيق المكياج من محاضرته، بل يعمل على طردها أمام الطلاب بصورة مهينة، ومن تردّ على إهانته يعدّها راسبةً في مادته، أو يتصل بأسرتها ويطلب من ذويها إعادة تربيتها بحجة حفاظه على الدين، وعلى حرمة الشهر المبارك، وهذا الأستاذ يحظى بالتبريكات والثناء من إدارة الكلية ومن الأهالي، فهو يُعدّ الأب المحافظ والكفؤ، والجميع يتغاضون عن مشاعر الطالبة والإهانة التي تعرضت لها، بحجة ألّا تكون مبرراً للتحرش".
وتضيف: "أما على صعيد الأستاذات السافرات، فهن في شهر رمضان يرتدين الحجاب للجم الأحاديث وتجنّبها".
وفي هذا السياق، تقول أفنان (24 عاماً)، وهي طالبة في جامعة ذي قار، إن "الأستاذ في رمضان يتحول إلى داعية، ويبدأ بالتضييق على حرية الطالبات، والمدهش في الموضوع أن المحاضرات تُلقى للفتيات فقط، مستثنيةً الذكور كوننا المحرّك الأول على الجريمة والسبب الأول في إفطار شاب صائم، لذا يتحتم علينا عدم وضع العطور والمكياج وأدوات التزيّن، بل أحياناً يتم عزلنا على المقاعد الأخيرة حتى أننا نشعر بأننا ننتقل من سجن إلى آخر، والاعتراض على هذا الوضع سيكلّفنا إنهاء مسيرتنا الدراسية، فتقبّل الوضع الحالي أهون بكثير من الجلوس في المنزل".
وتضيف لرصيف22، أن شقيقتها المتخرجة منذ سنوات قليلة، كانت طالبةً في جامعة الكوفة، وكان معاون رئيس الجامعة يقف في أحد صباحات شهر رمضان، عند باب الجامعة ويمسك بيده الكلينكس المبلّل، ويختار الطالبة التي تضع المكياج، ويطلب منها أن تزيله أو أن تغادر الجامعة. وتؤكد أن هذا التضييق والسجن المتنقل "تعيشهما كل فتاة في مجتمعنا من أجل الحفاظ على مشاعر الذكر، ومع كل هذا التقيّد نتعرض للقضم من آفة التحرش".
الأستاذ في رمضان يتحول إلى داعية، ويبدأ بالتضييق على حرية الطالبات، والمدهش في الموضوع أن المحاضرات تُلقى للفتيات فقط
خادمات في رمضان
تقول رغد الحيالي، إن "من أسوأ ما سمعته من النساء، هو جعلهن خادمات في أيام شهر رمضان، والضغط عليهن. فالنساء يصمن عن الطعام والشراب، وفي الصباح يذهبن إلى العمل، وبعد العودة منه يُطلب منهن إعداد وجبات غذائية متنوعة، وبعد الإفطار عليهن التنظيف، وإن اعتذرن مثلاً عن جزء من العمل، فالتعنيف هو الحل".
وتروي أن بعض العوائل تعامل "الكنّة" (وهي زوجة الابن)، كخادمة لها، ويتم استدعاءها عنوةً من دارها إن لم تسكن معهم، من أجل القيام بأعمال المنزل.
وفي هذا الشأن، تقول بيداء، وهي طالبة في الجامعة: "إننا في رمضان نُنهَك جسدياً، فأنا ألبّي طلبات إخوتي الخمسة، وأعدّ ما يشتهون من أكلات وحلويات ومقبلات وطلبات".
تضيف أنها اقترحت عليهم في رمضان الجاري، أن لا أصوم من أجل تلبية طلباتهم وخدمتهم، بالإضافة إلى دوامي في الجامعة، فأجاب والدي بلهجة حادّة: "راح تكطعين رزقنا دخلي أشوفج يوم واحد فاطرة اله اعلكج بالباب".
وتشير بيداء إلى أن "البرامج الرمضانية الساخرة، كل عام، تتناول العنف ضد المرأة في المنازل، ومع ذلك الأهالي لا يتّعظون بل يتفرجون وترتفع أصوات ضحكاتهم، وكل شخصية ساخرة في البرامج تعمل وتكون مستاءةً مثلاً من غسل الصحون أو من تنظيف المنزل أو من إعداد الطعام، تتم مناداتنا باسمها، فأنا تم تغيير اسمي إلى زينة من قبل العائلة، وزينة هي شخصية ساخرة في البرامج العراقية تكون متضررةً من أعمال المنزل. أما زميلاتي في الجامعة، فلا يختلف وضعهن كثيراً عن وضعي، بل يعشن الأزمات نفسها، وما يثير الدهشة أن الرجال في الأعمال المنزلية لا يقدمون لنا أي مساعدة، وإن فعلوا فالتحريض يسبق تعاونهم".
وتلفت بيداء إلى أن "لها أختاً متزوجة، زوجها يقدّم لها المساعدة في أعمال المنزل، لذا أطلق الجميع عليه لقب "الخيخة"، ويعني أن زوجته هي المسيطرة". وتختتم حديثها بأن "آخر ما تهتم به أسرنا أو المجتمع، هو وضعنا النفسي أو رغبتنا في فعل شيء ما. فالرفض يقابله التعنيف".
... والسلطات صائمة أيضاً
سارة جاسم (35 عاماً)، من بغداد، ناشطة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، تفتح الحديث للغوص أكثر في تفاصيل ما تعيشه المرأة من عنف في رمضان، وتقول إن العنف موجود ومستمر، وفي رمضان يزداد الضغط على النساء، والعنف في المنازل يزداد أيضاً، "بحجة أن الرجال القوّامين على النساء صائمون".
تروي سارة لرصيف22، قصة عنف رصدتها في أول يوم من رمضان، وتقول: "تعرّضت فتاة للتعنيف المبرح من قبل والدها. هاتفتني شقيقتها لتستفسر عما في إمكانها فعله لتسعف شقيقتها من موت محتّم، فغالبية النساء لا يعرفن أرقام الخط الساخن لنجدتهن، وبعد أن أرشدتها إلى الطريق، طلبت مني الاتصال على الخط الساخن. وحين اتصلت وأخبرت بأن شقيقتها تحتاج إلى مساعدة، ومن الوارد أن تفقد حياتها، كان رد الموظف: "شعدجن سوالف أنتن هسه مو رمضان وصيام".
تتابع: "حاولت أن أهدّئ من قلقها، وحاولنا أن نتصل بجهات أخرى لحل الموضوع، لكن دون جدوى".
النساء يصمن عن الطعام والشراب، وفي الصباح يذهبن إلى العمل، وبعد العودة منه يُطلب منهن إعداد وجبات غذائية متنوعة، وبعد الإفطار عليهن التنظيف، وإن اعتذرن مثلاً عن جزء من العمل، فالتعنيف هو الحل
ومنعت وزارة الداخلية العراقية قبيل حلول شهر رمضان هذا العام، منعاً باتاً الإفطار العلني أو الإجهار بالإفطار خلال شهر رمضان، خلافاً للتعليمات الصادرة من الجهات الرسمية المختصة، ويتعرض المخالف للمسؤولية القانونية.
وقالت في بيان إنه "بموجب المادة (4) من قانون وزارة الداخلية رقم (20) لسنة 2016، وتنفيذاً لأحكام المادتين 2 و3 من القانون المذكور آنفاً، وللحفاظ على قدسية شهر رمضان والتقاليد الاجتماعية والعشائرية المحترمة في مجتمعنا، ولمقتضيات المصلحة العامة، يتم إغلاق محال المشروبات الكحولية كافة خلال هذا الشهر ويتعرض المخالف للمسؤولية القانونية، كما تغلق المطاعم والكافيهات والمحال كافة التي تقدم المأكولات أو المشروبات غير المجازة أصولياً من قبل الجهات المختصة خلال أوقات الصيام وإلى حين وقت الإفطار".
أما بخصوص المفطرات "المفطّرات"، فالقانون هو العقلية العشائرية التي تحكم وتنفّذ بلا أي محاكمة ودائماً النساء هنّ الضحايا، والدليل جرائم التحرّش والقتل بدم بارد وجرائم الشرف التي تصل أخبارها من العراق كل يوم، سواء في شهر "الرحمة" أو في غيره من أشهر السنتين الميلادية والهجرية.
بحزنٍ تختتم رغد الحيالي حديثها قائلةً: "المجتمع العراقي تغيّر كثيراً عما كان عليه في السابق، فقد كانت المرأة محترمةً في الشارع، وفي المنزل، وقد وصلنا إلى هذا الدِرك بفعل الحروب والخطاب الديني والسياسات الفاشلة التي تصدّر أفكاراً رجعيةً من أجل الهيمنة على الوضع، فتجهيل المجتمع هدف رئيس لهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...