قتل الشاب، نائل المرزوق، الفرنسي الجزائري على يد شرطي أوقفه بعد ارتكابه مخالفة مرورية في ضاحية نانتير الباريسية، يبدو الخبر غير قابل للتصديق في بلد الحريات وحقوق الإنسان، لكن الحادثة مصورة ومثبتة بالفيديو. الخبر بحد ذاته يثير الغضب، وقصدية القتل في الفيديو تثير الغضب أيضاً. وفي ظل جو مشحون ومستقطب للغاية بين الضواحي المهمشة وسكانها من جهة، والدولة وجماعات اليمين المتطرف، كل على حدة، من جهة أخرى يبدو وضع فرنسا مقلقاً بعد تحول كل هذا الغضب المشتعل إلى أعمال عنف نتجت عنها خسائر مادية كبيرة وإصابات في صفوف الشرطة واعتقالات واسعة النطاق في صفوف المحتجين.
يظهر المعلقون من اليمين والحكومة على وسائل الإعلام بكثافة ليسألوا: "ولكن لم يكسرون؟ لم يستهدفون أماكن لا علاقة لها بما جرى؟". لا أعتقد أن هذه هي الأسئلة الصحيحة. أعتقد أن الأحرى بفرنسا أن تسأل: "ما مصدر كل هذا الغضب؟ كيف يمكننا حل المشكلة من جذورها؟" وفي ظل غياب ذلك من قبل السياسيين كما من قبل الدولة، يبدو لي من الضروري أن نفكر كيف يمكن تحويل هذا الغضب العارم إلى عمل سياسي.
قتل الشاب نائل المرزوق الفرنسي الجزائري على يد شرطي أوقفه بعد ارتكابه مخالفة مرورية في ضاحية نانتير الباريسية، يبدو الخبر غير قابل للتصديق في بلد الحريات وحقوق الإنسان، لكن الحادثة مصورة ومثبتة بالفيديو.
الغضب متراكم وعميق وله أسباب متعددة يسهب المحللون الفرنسيون والعرب في شرحها، ولعل حادثة مقتل نائل العنيفة تتجاوز كل تلك الأسباب وتنتهي بالنتائج، ولا بد من التذكير والتأكيد على أن الصراع هنا ليس عربياً فرنسياً، وتناوله من هذه الزاوية خطير جداً إذ قد يساهم في تحويل المسألة إلى مسألة هويات. يكمن جذر الصراع في سياسات الدولة تجاه المهمشين والفقراء من مواطنيها ويفترض أن يدور هذا الحوار بغض النظر عن أصول هؤلاء المواطنين، فقد خذلت الدولة مواطنها نائل وتسبب أحد أفراد جهازها الذي يفترض به حماية المواطنين بمقتله. لكن غياب العمل السياسي كما القيادة السياسية في حياة المهمشين هما العناصر الأكثر إثارة للقلق برأيي.
على مر السنوات الماضية، يتنشر بين الجيل الشاب في فرنسا كما في كثير من الدول الديمقراطية في العالم نفور عام من الانخراط في العمل السياسي والمدني يصل في بعض الأحيان لحد مقاطعة الانتخابات، ويعلل كثير من الشباب امتناعهم عن السياسة بقناعة عامة بأن لا فائدة، إذ من يتحكم اليوم في سياسات الدول الكبرى هي الشركات الكبرى والبنوك، وبأن من يصل إلى السلطة سواء كان من أقصى اليمين أم من أقصى اليسار سيغير سياساته كي يرضي الشركات، وبالتالي لن يغير التصويت أو المشاركة في الحياة السياسية أي شيء. هذا اليأس من الدور السياسي ومن قدرة الجيل الصاعد على التغيير تزيد من الإحباط وتتحول تدريجياً إلى عداء للدولة لا ينتج أي شكل من أشكال البناء وإنما يشارك فقط في الهدم، وينطبق هذا التوصيف على جماهير اليمين المتطرف كما ينطبق على أبناء المهاجرين من الجيلين الثاني والثالث.
الصراع هنا ليس عربياً فرنسياً، وتناوله من هذه الزاوية خطير جداً إذ قد يساهم في تحويل المسألة إلى مسألة هويات. يكمن جذر الصراع في سياسات الدولة تجاه المهمشين والفقراء من مواطنيها ويفترض أن يدور هذا الحوار بغض النظر عن أصول هؤلاء المواطنين
ثمة جانب آخر هام هو أن العمل السياسي والمدني عمل على المدى الطويل ولا ترى نتائجه سريعاً، أما تفريغ الغضب العنيف فنتائجه في الانتقام مرئية وسريعة وتنفس الغضب ولكنها لا تغير في واقع الحال أي شيء.
قد يكون صحيحاً أن الحكومات الغربية كانت تخشى رأي مواطنيها العام أكثر في الماضي، وأن الشركات والبنوك تحتل موقعاً متقدماً في أولويات صناعة القرار السياسي الأوروبي اليوم، ولكنني لا أعتقد أن مقاطعة العمل السياسي والمدني هي الحل، بل لا أعتقد أن طريقاً آخر لحل صراع المهمشين مع الدولة متاح اليوم. لا بد من الاعتراف بأن كل ما حصلته الدول الأوروبية من حقوق لمواطنيها كان بفضل نضالات مستمرة لهؤلاء المواطنين، وكانت فرنسا على مر تاريخها في مقدمة الدول التي يطالب مواطنوها بحقوقهم دون كلل أو ملل.
منذ وصلت إلى فرنسا وأنا معجبة بقدرة الفرنسيين الكبيرة على الاحتجاج والنزول إلى الشارع، وأعتبر أن الصفة التي يتناولهم بها الآخرون سخريةً هي ميزتهم الأساسية، فالفرنسيون لا يمكن إرضاؤهم وغير معجبين بحكوماتهم على الدوام. لكن التحول الأساسي اليوم هو هذا الميل إلى المواجهات العنيفة والتي، عدا أضرارها، تجعل فئة من المواطنين تستنكف عن المشاركة. لم أتوقف يوماً عن حسد الفرنسيين على قدرتهم على احتلال الشوارع والساحات التي لم نتمتع بها في عهد الأسدين الذي عشته في سوريا.
لا بد من الاعتراف بأن كل ما حصلته الدول الأوروبية من حقوق لمواطنيها كان بفضل نضالات مستمرة لهؤلاء المواطنين، وكانت فرنسا على مر تاريخها في مقدمة الدول التي يطالب مواطنوها بحقوقهم دون كلل أو ملل.
عاش السوريون خلال العقد الأخير كل أشكال الغضب، وعبروا عنه بأشكال مختلفة سواء بتحطيم مؤسسات القمع أو بالغناء والهتاف أو بالفن أو حتى بالتشاتم على وسائل التواصل الاجتماعي. وكان الغضب في لحظات غير منتج وهدام، لكن استثناءً اليوم، أعتقد أن السوريين يستطيعون إفادة الجيل الشاب الفرنسي بتجربة حققت نجاحاً على المدى الطويل جداً وإن كانت المقارنة بين الحالتين السورية والفرنسية غير منطقية إلا أن جانب الإيمان بالعمل السياسي والمدني قد يكون مشتركاً، إذ صوتت الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية الشهر المنصرم على مسودة القرار القاضي بإنشاء مؤسسة أممية مستقلة تهدف لمتابعة ملف المفقودين في سوريا وكشف مصيرهم، وقد مرَّ القرار بموافقة 83 دولة ومعارضة 11 وامتناع 62 عن التصويت. هذا النجاح الذي يعتبر بداية الطريق وليس منتهاه كان نتاج عمل دؤوب صبور لأهالي المفقودين وأسرهم، عمل استمر على مدى اثني عشر عاماً وكانت فيه الدولة نفسها هي الغريم حتى أن الجمهورية العربية السورية صوتت ضد القرار في سابقة أعتقد أنها تاريخية، فهل توجد دولة أخرى ترفض أن تبحث الأمم المتحدة في مصير مفقوديها؟
أعتقد أن التجربة هذه يمكن أن تكون درساً في النظر إلى النتائج البعيدة الأمد والتي تبنى من أجل تثبيت الحقوق. منذ سنوات كانت هذه المهمة تبدو مستحيلة في ظل عدم اكتراث دولي وتحول الصراع في سوريا إلى حرب أهلية وتعدد الأطراف التي تختطف وتخفي قسراً بعد أن كان النظام السوري متفرداً في هذا المجال لسنوات طوال. واليوم، تبدو هذه الخطوة انتصاراً ساحقاً في ظل تطبيع عربي واسع النطاق مع النظام، وامتناع الدول العربية عن التصويت على القرار أو تصويتها ضده باستثناء قطر والكويت. فما الذي يمكننا استنباطه من التجربة؟
بداية، انطلقت العائلات في عملية لتنظيم الجهود فتأسست الجمعيات والمؤسسات التي تطالب بالمعتقلين والمفقودين، وتطور العمل بالتحالف مع المنظمات الحقوقية الدولية والسورية لملاحقة مجرمي الحرب، وتظاهر الأهالي في كل مدن العالم بدأب مثير للدهشة على مر اثني عشر عاماً دون كلل أو ملل، ونظموا الفعاليات الفنية وحاولوا إيجاد أشكال جديدة من التعبير للمطالبة بالمختفين قسراً، وضغطوا باستمرار على كل السياسيين الذين قابلوهم، كما حولوا الأرقام إلى وجوه وأسماء وحكايا حملوها معهم من مكان إلى آخر ورووها باستمرار.
لعل الباب الأول لإيجاد الحلول هو الحوار الذي نحتاجه جميعاً للتعبير عن كل هذا الغضب المتراكم وهذه الخيبات المستمرة والتي لن يكون آخرها موت نائل ظلماً فيما العالم يستمر بالانحدار نحو مزيد من العنف.
أعتقد أن ما يمكننا استنتاجه هنا، أن الغضب، وأي غضب أكبر من فقد أي أثر للأحبة، يمكن استثماره في العمل مدنياً وسياسياً لحل المشكلة من جذورها والضغط على الدولة والتحالف مع المجموعات التي تتفق مع مطالب المهمشين وإن كانت خارج مركز القرار السياسي للوصول إلى نتائج ولكن بالصبر والعمل، وبتقبل أن زمن النضال طويل ومستمر. يمكن تطبيق ذلك في فرنسا من خلال تأسيس تحركات سياسية ومدنية تعمل على ابتداع تكتيكات جديدة تشعر المهمشين بأن لهم وزناً ورأياً وأنهم يقودون التغيير، أو من خلال أن تقوم الحركات والأحزاب الموجودة أصلاً باستغلال هذه الطاقة الكبيرة التي يولدها الغضب في تنظيم صفوف الجيل الشاب.
إن البحث عن حلول سريعة وسحرية لمشاكل عميقة في ظل استقطاب عنيف يبدو مستحيلاً، إلا أن الأمل موجود دائماً ويمكن أن يطل علينا أحياناً من حيث لا نتوقع، ولعل الباب الأول لإيجاد الحلول هو الحوار الذي نحتاجه جميعاً للتعبير عن كل هذا الغضب المتراكم وهذه الخيبات المستمرة والتي لن يكون آخرها موت نائل ظلماً فيما العالم يستمر بالانحدار نحو مزيد من العنف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه