شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
هرباً من جحيم المستشفيات... هجرة جماعية لأطباء الجزائر نحو فرنسا

هرباً من جحيم المستشفيات... هجرة جماعية لأطباء الجزائر نحو فرنسا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 7 فبراير 202212:49 م

لطالما وُصفت الصحة في الجزائر بالمريضة، وستزداد مرضاً بمستقبل غير واضح المعالم، بعد استفاقة الجزائريين على وقع صدمة قوية، ونزيف حاد في قطاع الصحة.

1،200 طبيب جزائري اجتازوا بنجاح، اختبار تقييم المعارف الفرنسي EVC، الذي يُنظَّم سنوياً لمعادلة الشهادة، من بين ألفي ناجح، في مسابقة عرفت مشاركة آلاف الأطباء من 24 دولةً.

وعلى الرغم من قيود السفر المفروضة على الجزائريين من السلطات الفرنسية، بعد تشديد شروط منح التأشيرات وتخفيضها إلى النصف مؤخراً، في ظل الأزمة الدبلوماسية، إلا أن حصة الأسد كانت من نصيب الأطباء الجزائريين، في الامتحان الذي أُجري في فرنسا.

ويُعدّ هذا الامتحان النظري، أحد الأبواب الرئيسية للعمل كطبيب في المستشفيات الفرنسية، وأكبر عقبة تقف أمام حلم الهجرة نحو القارة العجوز، أملاً بسُبل نجاح، ومساحة تطور أوسع، وممارسة مهنية أكثر أماناً، بالإضافة إلى عائدات مالية بالعملة الصعبة، تضمن مُستقبلاً أكثر إشراقاً، ما يعني أن الأطباء الجزائريين الذي درسوا وتكوّنوا في الجزائر، سيرحلون لاستكمال الجانب التطبيقي، قبل الانطلاق في العمل والاستقرار نهائياً في المدن الفرنسية.

ومن بين هؤلاء الناجحين، الطبيبة الوحيدة المختصة في أمراض القلب، في ولاية أدرار في أقصى الجنوب الجزائري، والذي يعاني من نقص فادح، سواء في المؤسسات الاستشفائية، أو الطواقم الطبية.

أول رد رسمي من وزير الصحة

بينما كان الجزائريون ينتظرون أول رد رسمي من السلطات الجزائرية، في محاولة لاحتواء الأزمة التي طفت فوق السطح فجأةً، أطل وزير الصحة وإصلاح المستشفيات في الجزائر، عبد الرحمن بن بوزيد، محاولاً التقليل من حجم الخبر الذي كان بمثابة زلزال في قطاع الصحة.

بن بوزيد رأى أن "مغادرة 1،200 طبيب البلاد نحو فرنسا، أمر عادي وغير مقلق إطلاقاً، فهجرة الأطباء باتجاه الدول المتقدمة معروفة. المستشفيات العمومية في الجزائر تعاني من مشكلات عدة، أهمها النقص الحاد في بعض الأطباء، مما يفرض على المواطن التوجه نحو القطاع الخاص، وهذا راجع إلى هجرة الأطباء الشباب، الذين لم يجدوا فرصاً حقيقيةً للعمل، بسبب رفض الأطباء كبار السن الخروج إلى التقاعد، لذلك فإن الوزارة ستسعى من أجل سن قانون، يلزم الأطباء الذين تجاوزوا سن الـ65، بالتقاعد.

الرئيس الجزائري: "الجزائر تملك أحسن منظومة صحية في إفريقيا"!

مباشرةً بعد الحادثة، اشتعل غضب الأطباء الجزائريين، بعد تصريح تبون، الذي وصف المنظومة الصحية في الجزائر، بأنها الأفضل في المغرب العربي، وفي قارة إفريقيا كلها، وذلك خلال ملتقى تجديد المنظومة الصحية في الجزائر، قبل أسابيع.

تصريح تبون هو الثاني من نوعه، ويأتي تأكيداً لما سبق وصرّح به قبل عام، في لقاء مع الصحافة المحلية، قائلاً إن "الجزائر أفضل بمراحل من نظيرتها في البلدان الإفريقية كاملةً، أحب من أحب، وكره من كره".

مقارنة صادمة للرواتب

الطبيب الجزائري يفني سنوات شبابه في الدراسة، ليجد نفسه في النهاية أمام وضع مالي هش، إذ يتقاضى راتباً لا يتعدى 350 دولاراً، ومناوبة ليلية تعسفية بـ2،500 دينار، أو 16 دولاراً، ناهيك عن المعاملة السيئة من بعض المواطنين، الذين يحمّلون الطبيب مسؤولية الخدمات السيئة في المستشفيات المهترئة، بإهانته وشتمه وأحياناً يصل الأمر إلى الاعتداء عليه، فضلاً عن عدم تقدير الطبيب من طرف مديري بعض المستشفيات بدافع الغيرة أو الضغينة أو الحسد.

الطبيب الجزائري يفني سنوات شبابه في الدراسة، ليجد نفسه في النهاية أمام وضع مالي هش، إذ يتقاضى راتباً لا يتعدى 350 دولاراً، ومناوبة ليلية تعسفية بـ2،500 دينار، أو 16 دولاراً

في مقابل ذلك، تقدّم المستشفيات الفرنسية عروضاً مغريةً للأطباء الجزائريين، إذ يتقاضى أصحاب الخبرة المهنية الطويلة 173 ألف يورو في العام الواحد، وهو ما يفوق نصف قرن، وتحديداً 55 عاماً من العمل المتواصل لطبيب يعمل في الجزائر.

وحسب موقع" ماد وارك"، المختص بتوظيف الأطباء في فرنسا، فإن متوسط راتب طبيب عام مبتدئ، يصل إلى 33 ألف يورو في السنة، بينما يتقاضى الطبيب الفرنسي الذي اكتسب خبرةً من أربع إلى تسع سنوات، راتباً سنوياً إجمالياً قدره 77،800 يورو.

طبيب واحد لكل 1،125 مواطن جزائري!

هجرة الأطباء الجزائريين إلى الخارج عموماً، وإلى فرنسا خصوصاً، مشكلة تؤرق الجزائريين لسنوات طويلة، فحسب جريدة الباريسي الفرنسية، فإن الأطباء القادمين من الجزائر إلى فرنسا، يشكّلون ما نسبته 39.7% من بين جميع الأطباء الأجانب في فرنسا، ما يعادل 20 ألف طبيب، أزيد من ثلثيهم مسجلون في مجلس عمادة الأطباء الفرنسي CNOM.

يكشف هذا المعدل للنزيف، رقماً آخر مرعباً، فعدد الأطباء في الجزائر، لا يتجاوز 40 ألف طبيب للسكان كلهم، المقدر عددهم بـ45 مليون نسمة، ما يعني أن لكل 1،125 شخصاً طبيباً واحداً فقط.

الطبيبة الجزائرية المختصة بجراحة القلب، ابتسام حملاوي، التي عملت في المستشفيات الفرنسية مدة ثلاث سنوات سابقاً، قالت لرصيف22: "الأطباء الجزائريون لا يذهبون إلى فرنسا من أجل تحسين الناحية المادية فحسب، بل من أجل التطور في المستوى العلمي، وتفادياً للنظرة الدونية إلى الطبيب في الجزائر، ومن أجل مستقبل أفضل لعائلاتهم، وهو ما لن يجدوه في بلدهم بسبب سيطرة بعض "الديناصورات الطبية" على القطاع، ما يحدّ من تطورهم".

وأضافت الدكتورة ابتسام حملاوي: "فرنسا تعاني من نزيف حاد في الكوادر الذين يتلقون أجوراً مضاعفةً في دول أخرى، لذلك فتحت باباً واسعاً للأطباء من الخارج، وخاصةً الجزائريين، بالإضافة إلى ذلك، فإن تكوين الأطباء في فرنسا، يكلّف خزينة الدولة الفرنسية ما يقارب مليوني دولار، بينما يأتيها الطبيب الجزائري، الذي يُعدّ من بين الأفضل في العالم، من دون مقابل، وينال أجرةً أقل من الطبيب الفرنسي".

هجرة الأطباء الجزائريين إلى الخارج عموماً، وإلى فرنسا خصوصاً، مشكلة تؤرق الجزائريين لسنوات طويلة، فحسب جريدة الباريسي الفرنسية، فإن الأطباء القادمين من الجزائر إلى فرنسا، يشكّلون ما نسبته 39.7% من بين جميع الأطباء الأجانب في فرنسا، ما يعادل 20 ألف طبيب

جائحة كورونا عرّت حقيقة المنظومة الصحية!

وأعطت الجائحة التي ضربت العالم صورةً واضحةً عن المنظومة الصحية الجزائرية، التي وعلى الرغم من وجود الكفاءات في مؤسساتها، إلا أن عيوباً كثيرةً تنخر جسدها، امتداداً للوضع العام في البلاد.

عرّت جائحة كورونا المنظومة الصحية التي لم تقاوم موجاتها المتعددة، لنشاهد على امتداد أشهر ارتفاعاً قياسياً في عدد الموتى، بسبب شح الأوكسجين في المستشفيات، مما وضع العائلات أمام ضرورة شراء مكثفات الأوكسجين من مالها الخاص، حفاظاً على حياة المرضى في البيوت، في ظل عدم قدرة المستشفيات على استيعاب عدد المرضى بكورونا، في الموجة الثالثة خلال الصائفة الماضية. يأتي ذلك في ظل ميزانية متدنيّة للقطاع المهم مقارنةً بغيره، على الرغم من دعوات الأطباء لتحسينه.

احتجاجات واضرابات لا تنقطع!

نذر الهجرة الجماعية للأطباء، سبقها دق ناقوس الخطر من طرف أصحاب المآزر البيضاء، فعلى مدار أكثر من عقد من الزمن، عاش قطاع الصحة في الجزائر حالةً من الغليان والتذمر، امتدت على سلسلة احتجاجات، ودخول دوري في إضرابات بين الفينة والأخرى، للمطالبة بتحسين الأوضاع، وقد قوبلت تلك الإضرابات بصرامة وحزم شديدين من السلطات عام 2018، ما أدى إلى إصابة عدد من الأطباء حينها.

وبعد وصول الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى السلطة، وعد بتحسين ظروف الأطباء وتعديل القوانين في قطاع الصحة، مع سن قوانين رادعة لحمايتهم من اعتداء المواطنين اللفظي والجسدي، مع مراجعة سلم الأجور، وصرف منحة خاصة في فترة جائحة كورونا.

غير أن ذلك لم يمنع خروج المنتسبين إلى قطاع الصحة، في احتجاجات تطالب بالتأمين الشامل، وامتيازات التقاعد والاعتراف بكوفيد19 كمرض مهني، بالإضافة إلى مراجعة القوانين الأساسية لمختلف الأسلاك الصحية.

استقالة جماعية للأطباء في خنشلة!

ومن بين الكوارث التي شهدها القطاع الصحي في الجزائر مؤخراً، ما وقع في مدينة خنشلة (شرق الجزائر)، حين قدّم 29 طبيباً في مستشفى سعدي معمر في بلدية ششار، استقالةً جماعيةً، بسبب ما وصفوه بظروف العمل "غير اللائقة"، وتعرضهم للإهانة والتعسف، متحدثين في مراسلة لمديرية الصحة في الولاية، عن عدم إيجاد حلول عملية، على الرغم من دخولهم في إضراب لمدة سبعة أيام، للمطالبة بتحسين ظروف العمل، مضيفين أن المستشفى يشهد نقائص عدة في الأمن، والنظافة والوجبات الغذائية، وأيضاً مشتكين من تهميش المجلس الطبي ورؤساء المصالح، ومن تحويلات "تعسفية" داخل المستشفى.

وحول هذا الزلزال العنيف الذي ضرب قطاع الصحة في ولاية خنشلة، أكد بدر الدين كوليبي، المنسق الوطني لموظفي الصحة في الجزائر، لرصيف22، أن "ولاية خنشلة تعاني منذ زمن طويل في قطاع الصحة، وعلى الرغم من إنشاء مستشفيات جديدة، إلا أن النقص الفادح في الأطباء، جعل مديرية الصحة تفرض عملاً مضاعفاً على الموجودين في المؤسسات الاستشفائية، وهو ما يزيد من حجم الأعباء التي تثقل كاهلهم".

في الطب، كما في الهندسة والفيزياء ومختلف المجالات، فقدت الجزائر ما لا يقل عن مئة ألف شخص، من حاملي الشهادات العليا، منذ عام 1990، والرقم مرشح للارتفاع لعدم الاهتمام بالكفاءات في فئة الشباب

وأضاف كوليبي: "كنقابة، نطالب منذ مدة بأن تستقل الصحة عن التوظيف العمومي، وتتحول إلى الاستشفائي، وعلى وزير الصحة الجزائري، تحمل مسؤولية الفشل الذريع في تسيير قطاعه، واذا أرادت الدولة إحداث تغيير حقيقي، فيجب عليها تغيير المسؤولين القدامى في المنظومة الصحيّة، خاصةً عبر مديرياتها".

وختم المنسق الوطني لمهنيي الصحة حديثه إلى رصيف22، قائلاً: "للأسف، بينما يبحث الأطباء عن الفرار بجلدهم بعد تدهور أوضاعهم المالية والاجتماعية، سواء بالاستقالة أو الهروب إلى أوروبا، يطلّ علينا وزير الصحة عبد الرحمن بن بوزيد، باستفزاز جديد، بعيد جداً عن كافة الوعود بإصلاح المنظومة الصحية المهترئة.

ملتقى وطني لإصلاح المنظومة الصحية

شكلت جائحة كورونا صدمةً كبيرةً، أماطت اللثام عن وضع متردٍ للغاية، في المنظومة الصحية الجزائرية، وأوضحت جلياً حجم المشكلات داخل القطاع، وهو ما عجّل في إقامة ملتقى لتجديد المنظومة، بإشراف من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، مطلع السنة الجارية، في محاولة لمراجعة الخريطة الصحية، وإعادة النظر فيها بناءً على مُخرجاته، مما شكّل فرصةً للنظر في عدد من النقاط من أهمها: تحسين التغطية الصحية، وظروف عمل مستخدمي القطاع الصحي، بالإضافة إلى عصرنة المنظومة الوطنية للصحة وتجديدها، من خلال الاعتماد على حوكمة فعالة، ترتكز على استغلال أنجع للموارد الوطنية المتوفرة، سواء أكانت ماديةً أو بشريةً.

هروب العقول متواصل في المجالات كلها

في الطب، كما في الهندسة والفيزياء ومختلف المجالات، فقدت الجزائر ما لا يقل عن مئة ألف شخص، من حاملي الشهادات العليا، منذ عام 1990، والرقم مرشح للارتفاع لعدم الاهتمام بالكفاءات في فئة الشباب، وهو إثبات على أن الأوضاع المتردية، لم تعد تمس البطّالين فحسب، أو فئةً معيّنةً من العاملين، أو مجالاً بعينه، بل مسّت الفئات والشرائح كلها.

وأكدت نتائج استطلاع عالمي، قامت به الشركة الاستشارية الرائدة في مجال الإدارة الإستراتيجية "مجموعة بوسطن للاستشارات"، أن 84% من الشباب الجزائريين دون الـ30 سنةً، راغبون في الهجرة لتحصيل خبرات علمية ومهنية أكبر وأحسن، خارج الجزائر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image