"لقد أهنتم الفكرة والقيمة والهدف والمحتوى وجمال عبد الناصر الذي أنشأها سنة 1964... كفاكم إعلانات في إذاعة القرآن الكريم".
قبل ساعات من نشر هذا التقرير، سجل الصحافي المصري المخضرم مؤنس الزهيري غضبه من الحالة التي آلت إليها إذاعة القرآن الكريم المصرية عبر حسابه الشخصي على وسائل التواصل الاجتماعي، منضماً إلى طائفة غير قليلة من الإعلاميين والمواطنين الغاضبين من تحول الإذاعة الاثيرة في معظم البيوت المصرية إلى نشرة إعلانية يتخللها أحياناً مواد دعائية سياسية وأخرى للتوجيه المجتمعي، يتخللها قليل من القرآن الكريم.
التوجيه السياسي لم يكن غائباً عن إذاعة القرآن الكريم منذ نشأتها، ولم تكن تختلف في هذا عن غيرها من المنصات الإعلامية المصرية المملوكة للدولة أو الواقعة تحت سيطرتها، وإن كان ذلك كان يتم في السابق بشكل خفيف وغير مباشر واحترافي يساعد على إبقاء المستمعين مرتبطين بالإذاعة ومن دون أية اتجاهات سلبية نحوها إن اختلفوا مع الإدارة السياسية للبلاد، بل وكانت إذاعة القرآن الكريم هي أقل الإذاعات في مسألة التوجيه المباشر حتى أشهر قليلة سبقت 30 يونيو/ حزيران 2013، في ظل حالة استقطاب سياسي واسعة استخدمت فيها كافة اسلحة الدعاية بما فيها الإذاعة المفتوحة في كل بيت مصري مسلم داخل مصر وخارجها.
الغضب بدأ مؤخراً بعد أن طالت إذاعة القرآن الكريم سياسات اقتصادية رسمية، تطالب كافة الهيئات الخدمية بالسعي إلى تحقيق الأرباح أو تغطية تكاليف التشغيل، فتوسعت إذاعة القرآن الكريم في استقبال وبث الإعلانات على طريقتها، بأصوات مذيعيها ذوي المصداقية الكبيرة
عقب انتصار المعسكر المضاد للإخوان المسلمين في 2013، كانت إذاعة القرآن الكريم هدفاً أولاً لحركة "تطهير إعلامي"، إذ جرى فصل عدد من معديها ومذيعيها، بعد اتهامهم بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين التي حظرتها السلطات وعدّتها جماعة إرهابية، لكن كل هذا لم يؤثر في جمهور الإذاعة الذي يتبرك بمحتواها إذ كانت ساعات بثها مشغولة في معظمها بأصوات تلاوة وترتيل القرآن الكريم.
الغضب بدأ مؤخراً بعد أن طالتها السياسات الاقتصادية للدولة التي تطالب كافة خدماتها وهيئاتها بالسعي إلى تحقيق الأرباح أو تغطية تكاليف التشغيل، فتوسعت إذاعة القرآن الكريم التي تميزت في الماضي بالبعد التام عن الإعلانات، في استقبال وبث الإعلانات على طريقتها بأصوات مذيعيها ذوي المصداقية الكبيرة.
وتتشكل الإعلانات التي تبثها إذاعة القرآن الكريم في معظمها من إعلانات للصدقات لصالح جمعيات أو مستشفيات خيرية في وقت يبرز فيه توسع الدولة في الانسحاب من تقديم الخدمات خاصة في المناطق النائية.
الدعوة إلى إذاعة قرآن بديلة
مع تعالي الأصوات الغاضبة من تزايد وقت البث الذي باتت تستحوذ عليه الإعلانات، وما تحدثه من تأثير "على الحالة الروحانية" وكذلك تعالي الأصوات المطالبة بوقف بث هذه الإعلانات "حفاظاً على الرسالة السامية التي أُنشئت من أجلها الإذاعة"، دعا بعض الكتاب إلي مقاطعة هذه الإذاعة، وإطلاق إذاعات موازية لها عبر الإنترنت.
أسس الدكتور كامل البوهي إذاعة القرآن الكريم في ستينيات القرن الماضي وكان اقتراحه أن تحمل الإذاعة اسم "المصحف المرتل"، لكن المقترح ظل حبيس الأدراج إلى أن اندلعت أزمة ظهور نسخ محرَّفة من القرآن الكريم عام 1961
من بين الداعين إلى إذاعة بديلة، كتب الصحافي المصري مختار محمود مقالً في منصة إعلامية موالية، بعنوان "بدائل إذاعة القرآن الكريم"، داعياً إلى المقاطعة التدريجية لشبكة القرآن الكريم، حتى لا تكون جاذبة للإعلانات، "والتكاتف من أجل إطلاق إذاعة موازية لها في الفضاء الإلكتروني عبر الشبكة العنكبوتية، تخلو من الإعلانات، يمكن من خلالها الاستعانة بأصوات نوابغ المذيعين الذين أبعدهم سن التقاعد عن أسماع المصريين".
تاريخ شبه سياسي لإذاعة القرآن الكريم
أسس الدكتور كامل البوهي إذاعة القرآن الكريم في ستينيات القرن الماضي بعد سنوات من تقدمه بمقترح عام 1957، إلى وزير الإرشاد القومي عبدالقادر حاتم (الوزير المسؤول عن الإعلام والثقافة آنذاك).
كان اقتراح البوهي أن تحمل الإذاعة اسم "المصحف المرتل"، لكن المقترح ظل حبيس الأدراج إلى أن اندلعت أزمة ظهور نسخ محرفة من القرآن الكريم عام 1961. وكان أحد وسائل "مكافحة" التحريف، تسجيل المصحف كاملاً بصوت الشيخ الحصري بمبادرة من وزير الإعلام وشيخ الأزهر، إلا أن مجرد التسجيل في استوديوهات الإذاعة المصرية لم يكن كافياً، وهنا تم استدعاء المقترح القديم من الأدراج، لتبدأ إجراءات التأسيس وبعد هذه الواقعة بثلاث سنوات أسست مصر إذاعة القرآن الكريم، وأصبح البوهي أول مدير لهذه الإذاعة.
تحظى إذاعة القرآن الكريم بأعلى نسبة استماع بين المحطات الإذاعية المختلفة على مستوى الجمهورية، فتم تقدير عدد مستمعيها نحو 40 مليون مستمعاً على مدار الساعة، ويصل هذا الرقم إلى 70 مليون في شهر رمضان
بدأ إرسال "إذاعة القرآن الكريم" يوم 25 مارس/ آذار من العام 1964، لمدة إرسال تصل 14 ساعة يومياً مقسمة إلى فترتين، الأولى من السادسة صباحاً حتى الحادية عشرة صباحاً، والثانية تبدأ من 2 ظهراً حتى الحادية عشرة مساءً، وفي العام الأول لها كانت الإذاعة تبث القرآن الكريم مرتلاً بقراءتي حفص عن عاصم، وورش عن نافع للشيخ محمود خليل الحصري، وفي ديسمبر/ كانون الأول 1965، اتجهت الإذاعة إلى تحقيق التنوع ببث التلاوات بأصوات الشيوخ مصطفى إسماعيل، ومحمد صديق المنشاوي، وعبد الباسط محمد عبد الصمد، والشيخ محمود علي البنا.
وفي عام 1966، شهدت المحطة تطويراً في هدفها الإعلامي ومضمون رسالتها الإذاعية بإدخال أذان الصلوات الخمس، وعدة برامـج تنبع مادتها من القـرآن الكـريم، والسنة النبوية، واحتلت البرامج وقتها 5% من نسبة عدد ساعات الإرسال، التي كانت تبلغ 14 ساعة يومياً، وبقيت 95% من ساعات البث للقرآن المرتل.
وفي عام 1973، بلغت مدة الإرسال 19 ساعة يومياً بزيادة 5 ساعات عن الفترة السابقة، كما زادت نسبة البرامج إلى عدد ساعات الإرسال يـومياً لتشكل 30%.
وفي العام ذاته دخلت فكرة الإذاعات الخارجية علي الهواء إلى إذاعة القرآن الكريم، حيث شاركت البرنامج العام في إذاعة صلاة الفجر يومياً، وفي عام 1977 شاركته في إذاعة صلاة الجمعة، وفي منتصف الثمانينيات سجلت الإذاعة المصرية مصاحف مرتلة لقراء جدد، هم: أحمد نعينع، محمود حسين منصور، أحمد عامر، الشحات محمد أنور، علي حجاج السويسي، محمود صديق المنشاوي.
وفي 1994 بلغت مدة الإرسال لإذاعة القرآن الكريم أوجها، وتقرر استمرار إرسال شبكة القرآن الكريم على مدار الـ24 ساعة.
بداية دخول الإعلانات
تحظى إذاعة القرآن الكريم بأعلى نسبة استماع بين المحطات الإذاعية المختلفة على مستوى الجمهورية، ووفقاً لتصريحات محمد نوَّار رئيس الإذاعة المصرية، الذي قدر عدد مستمعيها نحو 40 مليون مستمعاً، ويصل هذا الرقم إلى 70 مليون في الموسم الرمضاني.
ولم تعرف المادة الإعلانية طريقًا لهذه الإذاعة على مدار تاريخها، إلا عام 2014، ويرجع السبب في ذلك إلي الأزمة المالية التي ضربت مبنى الإذاعة والتليفزيون (ماسبيرو)بعد تراجع مصداقيته وقدرته على اجتذاب الجمهور والتأثير فيه في أعقاب ثورة 25 يناير، حيث تلاحظ لقيادات ماسبيرو رغبة الوكالات والمعلنين في وضع إعلاناتهم في إذاعة القرآن الكريم، نظراً لما تحققه من نسبة استماع كبيرة، فتمت الموافقة على بث مواد إعلانية في عام 2014، وأثار القرار حالة من السخط الجماهيري، اضطرت على إثرها الدكتورة درية شرف الدين وزيرة الإعلام آنذاك إلى إصدار قرار بوقف بث الإعلانات في المحطة في محاولة منها لتهدئة الرأي العام المصري.
ومع تفاقم الأزمات المالية واستمرار ضغط المعلنين، أعاد حسين زين، رئيس الهيئة الوطنية للإعلام، بث الإعلانات على إذاعة القرآن الكريم في يونيو/ حزيران 2017، بناءً على طلب القطاع الاقتصادى بالهيئة الوطنية للإعلام التي ورثت ملكية وإدارة ماسبيرو بعد إلغاء وزارة الإعلام في مصر، على أن يتم إذاعة نوعين من الإعلانات: الأول يتعلق بشركات الحج والعمرة، والآخر خاص بالإعلانات الإرشادية التابعة للوزارات الحكومية، "وذلك وفق ضوابط صارمة". وتحقق الفواصل الإعلانية على إذاعة القرآن الكريم أرباحاً تقدر بـ25 مليون جنيه سنوياً، حسب تصريح محمد نوّار، رئيس الإذاعة المصرية.
تركز معظم الإعلانات التي تبث عبر إذاعة القرآن الكريم المصرية على جمع التبرعات لعلاج المرضى، وبناء المستشفيات، وإنشاء محطات مياه للبسطاء، والتأمين ضد الحوادث
إعلانات التسول
لم يلق قرار الهيئة الوطنية العودة إلى بث الإعلانات عبر إذاعة القرآن الكريم قبولاً في الشارع المصري، فتعالت الأصوات المنادية بوقف بث الإعلانات عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، والحفاظ على هويتها والهدف الأساسي التي تأسست لأجله، وتقدمت النائبة البرلمانية صفاء جابر عيادة، بطلب إحاطة للحكومة المصرية بشأن إعلانات المؤسسات التجارية والخيرية عبر إذاعة القرآن الكريم، وشددت على ضرورة الحفاظ على هذه الإذاعة ومكانتها في نفوس مستمعيها، والحفاظ على خصوصيتها "لتأدية رسالتها السامية بعيداً عن سخف الإعلانات"، وأضافت في كلمتها في قاعة مجلس النواب المصري، إلى أن "هناك الكثير من البدائل لتعزيز موارد الإذاعة ليس من بينها الإعلانات التجارية".
تركز معظم الإعلانات التي تبث عبر إذاعة القرآن الكريم المصرية على جمع التبرعات لعلاج المرضى، وبناء المستشفيات، وإنشاء محطات مياه للبسطاء، والتأمين على الحياة من الحوادث.
يرى الدكتور حسن عماد مكاوي أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، أن فكرة دخول الإعلانات إلى إذاعة القرآن الكريم "أمر يقلل من شأن هذه الإذاعة، التي تسعى في الأساس إلى زيادة الوعي الديني لدى المواطنين، وليست مطالبة بتحقيق أرباح"
الدولة ملزمة بدعم الإعلام الحكومي
على الصعيد الأكاديمي تباينت ردود فعل خبراء الإعلام حول القضية، الاتجاه الأول ويتبناه كل من الدكتور حسن عماد مكاوى عميد إعلام القاهرة الأسبق، والدكتور محمود شهاب الدين أستاذ الإعلام بجامعة الأزهر، اللذان يرفضان بث الإعلانات عبر أثير إذاعة القرآن الكريم أيا كان محتواها.
والاتجاه الثاني تتبناه الدكتورة ليلى عبد المجيد العميدة السابقة لكلية الإعلام في جامعة القاهرة، والتي توضح أنها كانت لترفض بث إعلانات في إذاعة القرآن الكريم "في الظروف العادية، ولكن نظراً للظروف الاقتصادية الصعبة التي تضرب الإعلام الحكومي؛ يمكن السماح بالإعلانات ولكن بضوابط صارمة تتناسب مع وقار ورسالة هذه الإذاعة".
على النقيض من ذلك يرى الدكتور حسن عماد مكاوي أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، أن فكرة دخول الإعلانات إلى إذاعة القرآن الكريم "أمر يقلل من شأن هذه الإذاعة، التي تسعى في الأساس إلى زيادة الوعي الديني لدى المواطنين، وليست مطالبة بتحقيق أرباح".
وشدد أستاذ الإعلام في حديثه لرصيف22، على أن الدولة المصرية "ملزمة بتقديم الدعم المادي اللازم للإعلام الحكومي، لأن رسالته هي تنمية عقل المواطن ووجدانه وزيادة وعيه"، مضيفاً: "في أوروبا؛ القنوات المملوكة للحكومة لا تبث إعلانات تجارية. وأوروبا تضم دولاً رأسمالية والربح هدف أساسي عندها. هم يقسمون الإعلام إلى نوعين؛ نوع يقدم خدمات للمواطنين وهذا النوع تنفق عليه الدولة، ونوع إعلام تجاري في شكل شركات تحقق أرباحاً. ونحن في مصر لدينا خلط وعدم إدراك للفرق بين النوعين".
رضا عبد السلام رئيس إذاعة القرآن الكريم: "ليس مُصرحاً لي الإدلاء بأية تصريحات تخص إذاعة القرآن الكريم في الوقت الراهن. هناك عملية تطوير تجرى حالياً وسيتم الإعلان عنها قريباً"
حلول بديلة
الدكتور محمود شهاب الدين، أستاذ الإعلام بجامعة الأزهر يرى في حديثه مع رصيف22 أن إذاعة القرآن الكريم "لها قدسية في نفوس مستمعيها، الذين اعتادوا سماعها بدون فواصل إعلانية"، وذكر أن خطة الحصول على أموال "يلزمها عقلية اتصالية مهنية، تدرك طبيعة العلاقة بين الإذاعة ومستمعيها، وتحافظ على قيمتها في نفوسهم مع تعزيز قدرتها المعنوية والتجارية بأشكال تتناسب مع محتوى الإذاعة".
وعن البدائل القابلة للتطبيق قال أستاذ الإعلام في جامعة الأزهر: "ممكن نعمل برامج رعاية اجتماعية مع مؤسسات وهيئات وموهوبين بشكل احترافي، وندخل تقنيات الاتصال لتطوير المحتوى بدلاً مما نسمعه فقط. لو أطلق المسؤولون مبادرة لدعم الشبكة ستجمع ملايين الجنيهات. ولو ابتكرت برامج مدفوعة لرعاية الموهوبين في الإنشاد الديني وقراءة القرآن ستجمع ملايين الجنيهات التي تغنيك عن الإعلانات التي تبعد شبكة القرآن الكريم عن رسالتها".
رئيس إذاعة القرآن الكريم يمتنع عن التعليق
ونظراً للانتقادات الكثيرة التي تتعرض لها إذاعة القرآن الكريم بسبب قضية الإعلانات، امتنع رضا عبد السلام رئيس إذاعة القرآن الكريم، عن الإدلاء بأي تصريحات إعلامية تخص إذاعة القرآن الكريم أو عمليات التطوير التي تُجرى فيها حاليا، واكتفى في رده على رصيف22 بالقول: "ليس مُصرحاً لي الإدلاء بأية تصريحات تخص إذاعة القرآن الكريم في الوقت الراهن. هناك عملية تطوير تجرى حالياً وسيتم الإعلان عنها قريباً. الكلام كتير على الإذاعة في الفترة الحالية لأن الإعلانات مشّكلة وجع في دماغ الناس. وكأن إذاعة القرآن الكريم المصرية لا تعرض إلا الإعلانات فقط!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون