منذ أخبرتني صديقتي التي كنت أحبّها بأنها ستتزوج حبيبها الجديد، والأسئلة الوجودية تطرق باب تفكيري: لماذا لم أستطع المحافظة على حبي لها؟ ولماذا لم تكتمل حظوظي بالارتباط بها، أو بغيرها ممن التقيتهن طوال السنوات الماضية؟
في حالتي، لم أجد يوماً الأجوبة المتعلقة بطبيعة العلاقة التي كانت تنشأ، ثم ما تلبث أن تنتهي لأسباب غير مفهومة ظاهرياً، لكن عمقها مرتبط بـ "الهوية"، والصور النمطية للهويات التي حملتها أو قدّمت نفسي من خلالها، أو قدّمني الآخرون على أساسها.
مثلاً في سوريا، كانت هويتي الطائفية سبباً يجعل أي فتاة تعيد التفكير مرتين بجدوى العلاقة، وهي تعرف مسبقاً بأنها قد تواجه أهلاً ومجتمعاً يمانعون ارتباطها بشخص من طائفة مختلفة. وحين انتقلت إلى لبنان، برزت هويتي الوطنية، أي جنسيتي، كسبب يوجب الحذر من الاقتراب والارتباط.
فهل الهوية شيء ثابت أم مكتسب يمكن تغييره، وهل تعبّر الهوية عن الذات الحقيقة أم هي لباس يمكن ارتداؤه وخلعه متى نشاء؟ قد تكون الإجابة على تلك التساؤلات أكثر صعوبة من الإجابة على تساؤلات أصغر وأقل عمقاً: ما هي الصور النمطية المرتبطة بكل هوية؟ ما هي الأحكام المسبقة التي نُعامل على أساسها بناء على الهوية التي نُبرزها أو نُعرف أنفسنا من خلالها؟
المجتمع الذي يرفض ارتباطي بفتاة من طائفة أو دين مختلف وُلدت عليه صدفة، يحاكمني بناء على تصورات وتجارب جماعية قد لا يكون لي شخصياً علاقة بها، بدل أن يحاكمني على أشياء اكتسبتها بملء إرادتي
شخصياً، لا أعتقد أني عشت صراعاً غير اعتيادي حول هويتي أو هوياتي، الذاتية والمكتسبة منها، ربما لأنني أعتبرها الشيء الذي يميّزني عن غيري، طالما أنني مدرك تماماً لمزايا وعيوب كل هوية، لخصائصها وسمات أفرادها، وكذلك الصور النمطية المرتبطة بهم.
لكنني أعترف أنني عشت حياة كاملة أواجه فيها أحكاماً مسبقة وقوالب نمطية وضعني الآخرون بها، دون أن يكون لي قدرة على الدفاع عن نفسي والتوضيح بأنني خارج تلك التصنيفات، فالمجتمع الذي يرفض ارتباطي بفتاة من طائفة أو دين مختلف وُلدت عليه صدفة، يحاكمني بناء على تصورات وتجارب جماعية قد لا يكون لي شخصياً علاقة بها، بدل أن يحاكمني على أشياء اكتسبتها بملء إرادتي، مثل القيم والمعتقدات والتجارب التي صنعت كياني هذا، أو الغايات والآمال التي أطمح لها من خلال ذلك الارتباط.
وكذلك موظف وزارة الخارجية الذي ينظر باستخفاف لجواز سفري السوري في طلب الفيزا، هو فعلياً يستحضر كل الصور النمطية عن لاجئين ومشردين وعابري حدود تقطعت بهم السبل، ووصلوا إلى بلاده يوماً يرجون الهرب والانتقال. هذا الشخص سيتخذ قراره بمنحي الفيزا أو لا، ليس بناء على شهاداتي الجامعية أو خبراتي المتراكمة أو أية مستندات تعبّر عما أنجزته طول سنوات الحرب، بل بناءً على ذاكرة دفتر أزرق صغير يحمل شعار دولةٍ يهرب منها أبناؤها إلى أقاصي الأرض.
وهكذا أجد نفسي مضطرّاً في مواقف يومية مع سائق التاكسي ومع بائع الخضرة ومع موظف الحكومة، لاختيار الهوية التي أريد أن يعاملني بها أو يتخذ قراره بناء عليها، حتى بلغت مرحلة الاستمتاع حقاً بتلك اللعبة، بعد إدراكي أن الدماغ البشري يميل إلى التصنيف ووضع التجارب في خانات مسبقة، لتسهّل عليه التعامل مع المواقف الجديدة.
فسائق التكسي سيكون أكثر ارتياحاً وأقل ريبة إن أخبرته فقط أن نصفي سوري ونصفي الآخر لبناني، أو أنني لبناني ولدت في سوريا لتبرير لهجتي السوريّة، وهكذا سيختلف تعامله معي بناء على "الهوية" التي صدّرتها له، ولو كان ذلك ادعاءً. فهو لا يملك الوقت الكافي لسماع قصتي الذاتية المميزة لوجودي، بل عليه العودة إلى الصور النمطية المخزنة في عقله واستخراج إحداها بسرعة واتخاذ قراره بشأني، وهذا بالتأكيد أسهل عليه من إعادة تشكيل تصنيف جديد يضع فيه حالات غير مألوفة.
وهكذا مع بعض التمرين، أصبحت مدركاً للقوالب النمطية الجاهزة التي أرغب أن يتم وضعي بها من خلال اختياري لهذه الهوية أو تلك، أو حتى تقديم موضوع ما أو شرح فكرة معينة، فلو انتقدت سلوكاً لفتاة ما سأصبح فوراً "الشرقي الذكوري الكاره للنساء"، أو على العكس تماماً سأكون "النصير الأول والمدافع الشرس" إذا دعمت فتاة أخرى. أما إذا وضحّت مغالطة تاريخية لشخص متديّن سأصبح "الكافر الضال المتخلي عن دينه"، ليبقى الاتهام الأحب على قلبي والذي طالني كلما سخرت من مفاهيم الوطنية والانتماء إلى الجماعات والأعلام، هو أنني "بلا هوية".
فهل أنا فعلاً بلا هوية أو أعيش ازدواجية بين هوياتي المختلفة؟ في الواقع أبداً، لأنني مدرك لتأثير الهويات والقوالب النمطية على حياتنا كبشر وجماعات، فكم من الحروب والمجازر قامت بسبب تلك الهويات، والأهواء التي أثارتها والانحرافات الذي جرّتنا إليها، حتى سماها أمين معلوف في كتابه الشهير بـ "الهويات القاتلة".
بحسب معلوف، الهوية ليست واحدة بل تتشكّل من انتماءات عدّة، لكنها تتبدّل وتختلف عناصرها حسب تأثير الآخرين، فالفرد يميل لتعريف هويته وانتمائه تبعاً للخطر الأبرز الذي يواجهه من تهميش أو قمع أو حتى سخرية، وحين يجد جماعة يتشارك معها الخطر ذاته، تتحوّل الهوية حينها إلى "أداة حرب" ويصبح الدفاع عنها عملاً ضرورياً وشجاعاً.
ولأن سؤال الهوية يبرز أكثر في المحيط المختلف، فالإجابة عنه هي التي تحدّد مسار وشكل الحياة، فالمسلم الذي يعيش في الغرب، أو العربي الذي يعيش في أوروبا، أو صاحب البشرة السمراء الذي يعيش بيننا، هو بالطبع يواجه دوماً مواقف متحيزة بسبب هويته الظاهرة، شكله أو لهجته أو سلوكه، ولكن بناءً على تصرّفات المحيط أو قوانين الدولة تجاهه، سيختار إما تأكيد تلك الهوية والتعصّب لأجلها والعيش في كانتونات تشبهه، أو سيسعى للهروب والتخلّي عنها بهدف الاندماج في المجتمع الأكبر، وحتى هذا الهروب قد يأخذ أحياناً أشكالاً متطرّفة، وفي كلا الحالتين، قليل من يدرك مكنون هوياته المختلفة ويجد سلاماً واستقراراً بالتوفيق بينها.
المسلم الذي يعيش في الغرب، أو العربي الذي يعيش في أوروبا، يواجه دوماً مواقف متحيّزة بسبب هويته الظاهرة، شكله أو لهجته أو سلوكه، ولكن بناءً على تصرّفات المحيط، سيختار إما تأكيد تلك الهوية والتعصّب لأجلها أو الهروب والتخلّي عنها بهدف الاندماج
لكن بالرغم من كل تلك الصراعات التي نعيشها لإثبات أو إنكار هوية أو تصنيف ما، سنبقى في النهاية محكومين بما نحمله من أوراق ثبوتية ومستندات، وسيتمّ تعريفنا والتعامل معنا على أساسها، فأنت لن تستطيع أن تثبت لضابط الحدود أو مقدّم المنح أو مدير شركة التوظيف بأن جنسيتك لا تعبّر عنك بل تشعر بالانتماء الثقافي إلى بلد آخر، أو أن اسمك لا يعكس بالضرورة تبعيتك لتلك الديانة أو الطائفة، أو حتى لا تشعر بكامل جنسانيتك التي تشير إليها خانة الجنس.
وستبقى حبيس ما تحمله من بطاقات تعريف وإخراجات قيد وجوازات سفر، وستُحرك لأجلك الأساطيل العسكرية إذا كنت مواطناً أمريكياً أبيضاً ووقعت في مشكلة، ولو كنت في الواقع شخصاً متعصّباً أحمقاً تؤمن بنظرية الأرض المسطحة وتدعو لإبادة المختلفين عنك. وفي المقابل إذا كنتِ فتاة محجبة واسمك فاطمة، فسينظر إليك صاحب المطعم الفاخر في باريس بنظرة استعلاء وهو يحجز لك طاولة جانبية، ولن يخطر بباله بأنك قد تكونين بروفسورةً في اختصاص نادر تسعى لتوظيفها أهم المؤسسات.
غالباً ما تتشكل هويتنا الذاتية من القصص التي نخبرها لأنفسنا عن الماضي والحاضر والمستقبل، لذلك فهي متبدّلة ومتغيرة باستمرار اعتماداً على التجارب والخبرات الفريدة التي نمرّ بها، وعمق وصولنا إلى الوعي الذاتي واكتشاف غايتنا في هذه الحياة، ولكن المؤسف أن ذلك كله لا تعكسه البيانات المؤرشفة والمسجّلة منذ الولادة، والتي من الصعب تغييرها في حياة واحدة، بل ستبقى تلك البيانات هي الشيء الثابت الوحيد الذي يعاملنا العالم على أساسه، لذا في مواعيد التعارف القادمة سأحرص على اكتشاف نوع الهوية التي ترغب الفتاة التي أمامي بالاستفسار عنها، فجوابي هو الذي سيحدّد مصيري الآتي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...