شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"نطالب بحقّنا في البكاء والمساواة في التعبير"... أين يقف الرجال من صحتهم النفسية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

"شدّ حالك بدّي ضلّ اتّكي عليك لآخر يوم بعمري. ممنوع تتعب، ممنوع كتفك يميل، إنت الحقيقة الوحيدة بحياتي"؛ العبارة السابقة التي قد تصادفكم اليوم مترافقةً مع مقاطع فيديو في منصات التواصل الاجتماعي عن الآباء، أو ربما عن أخت تستند إلى شقيقها أو حتى زوجها، وردت في العمل الدرامي "مسافة أمان" الذي عُرض في رمضان 2019.

في المسلسل السوريّ "مسافة أمان" (من تأليف إيمان سعيد وإخراج الليث حجّو)، كانت نور، أي الممثلة حلا رجب، تتوجّه بالفعل بهذه الكلمات إلى والدها الذي أدّى دوره الممثل جرجس جبارة، بعد أن أعياه المرض، وبعد أن كانت قد تعرّضت لأبشع صنوف الأذى من شابٍ وعدها بالزواج وخذلها ولم تجد حضناً وأماناً في هذا العالم كلّه سوى في مساحة عرضها كتفان، كتفا مراد والدها.

هذه الصورة وهذا المشهد برغم رسالتهما العظيمة، وبرغم كل صفات الحب والحنان والاحتواء التي قد تنتقل منهما إلى المشاهد، وبعد أيام قليلة من عيد الأب الذي يصادف في الواحد والعشرين من حزيران/ يونيو من كل عام، يطرحان علينا سؤالاً مشروعاً: ألا يحق للآباء أو الرجال عموماً أن يضعفوا ويميلوا؟

يُعدّ شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، شهر التوعية بصحة الرجل، وشهر أيار/ مايو شهر التوعية بالصحة النفسية للجميع، وفي بعض الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، حزيران/ يونيو، هو شهر التوعية بالصحة النفسية والعقلية للرجال، وما بين هذه الشهور ورمزيّتها، ما تهم حقاً هي صحة الرجال، والنساء، والجميع.

يُعدّ فعل البكاء أحد أهم أساليب التفريغ النفسي والعاطفي. وقد لا يكون سببه الحزن دائماً

البكاء محرّمٌ على الرجال

يُعدّ فعل البكاء أحد أهم أساليب التفريغ النفسي والعاطفي. وقد لا يكون سببه الحزن دائماً، فهناك "دموع الفرح" في حفلات التخرج وحفلات الزفاف وعند ولادة مولود جديد. لكن غالباً، المرء، أيّاً كان نوعه الجندريّ، يبكي عند الحزن والألم والفراق، وتذرف مقلتاه ما عجزت كلماته ربّما عن التعبير عنه، أو يبكي حين لا ينفع الكلام.

هذا الفعل على بساطته تلتصق به صفة "العيب" في مجتمعاتنا. يقول نور(29 عاماً) وهو موظف في جمعية، لرصيف22: "منذ الصغر وأنا أسمع عبارات مثل 'الرجال ما بيبكي' و'عيب إنت زلمي'، وأيضاً المثل الشائع 'الشاب ممكن يجوع بس ما ممكن يتعب'. وقع هذه العبارات عليّ صيّرني شخصاً لا يعرف كيف يعبّر عن مشاعره وعما في داخله. دائماً أكبت مشاعري، ولا أجيد التعبير عنها. في مرحلة من المراحل كانت لدي مشاعر كثيرة لكن لم أكن أعرف كيف أترجمها إلى الخارج، ما سبّب لي آلاماً جسديةً وعضويةً، مثل التعب والإرهاق والتوتّر، وحتى اليوم من الممكن أن يكون لديّ شعور لا أعرف كيفية التفاعل معه".

من جهته، يرى دانيال مهنّا(21 عاماً) ويعمل في متجر في زحلة، أنّ كل فرد معرّض لضغوط يومية ومصاعب عليه مواجهتها لا البكاء على كل تفصيل وعند كلّ محنة. ويؤكّد أنّه سمع عبارة "الرجّال ما بيبكي"، من قبل العائلة والأقارب والدائرة الصغيرة، لكنّهم "لم يؤثروا فيّ وتخطّيت هذه العبارات. البعض يرون أنّهم إذا بكوا فهذه إهانة، لكن أنا لا، أعدّها طريقةً للتعبير وليست لدي أي مشكلة معها".

كرم(25 عاماً) الذي يعمل في مؤسسة إعلامية، وعلى عكس المتحدثَين السّابقين، يؤكّد أنّ هذه العبارات لم تُوجّه إليه إطلاقاً: "الحمد لله عائلتي ومحيطي سليمان، بل أكثر من ذلك مررت قبل مدّة بنكسة معيّنة، وكان لديّ صديق شاب 'قبضاي'، قلت له إنني أريد البكاء، فشجّعني على البكاء بالعبارة الدارجة 'ابكي بترتاح'. الرجل يبكي عند خسارة شيء ثمين أو عزيز عليه، وهذا حقّه الطبيعي لكن عليه ألا يجعل البكاء جزءاً من شخصيته".

أمّا علي ريا (34 عاماً) وهو مهندس مدني، فيتوسّط الفريقين السابق ذكرهما بتجربته، ويقول إنّه حتماً سمع هذه الجُمل، "لكنّ الجيد أنني كنت أسمعها من أشخاص حولي في مجتمعنا البعلبكي الشرقي، وليس من أهلي وعائلتي الصغيرة، بل على العكس سألتهم مرةً إن كان الرجل يبكي، وكانت الإجابة بأنّه حتماً يبكي ويحزن ويتعب ويعبّر عن مشاعره كافة، لكن أيضاً علّمني والداي وقتها أن أدرك أين ومتى وأمام من أبكي وأظهر ضعفي كي لا أُستغلّ".

يؤكد الطبيب المتخصّص في الأمراض النّفسية الدكتور أنطوان الشرتوني، أنّ مجتمعنا تسوده ثقافة "ممنوع أن نبكي ونحزن ونعبّر عن مشاعرنا"، ويرى أنّ الحلّ الأمثل لمواجهة هذه الظاهرة وتبعاتها تبدأ في مرحلة الطفولة: "علينا أن نشجّع الطفل على إمكانية البكاء والصّراخ، والتعبير عن الانزعاج، أو حتى الفرح، المهم أن نفسح له مجالاً للتعبير عن مشاعره وحالاته كافة". ويؤكّد الشرتوني أنّ حالة القمع والكبت العاطفي والنفسي للأطفال الذكور تحديداً، وترويضهم على عدم البكاء، "تُترجَم لاحقاً بأزمات نفسية حادّة وعندها الحلّ هو العلاج".

هل الرجال أكثر ميلاً إلى الانتحار؟

الانتحار هو فعل ممارسة أذى نفسي قد يودي بحياة الشخص أو يعرّضه لعاهة دائمة أو مشكلة صحية عضوية -باختلاف الطريقة- يقوم به الفرد الذي يعاني من أزمة نفسية حادّة تدفعه إلى هذا السلوك مثل المعاناة من الاكتئاب الحادّ أو اليأس.

أمّا الاضطراب النفسي، ومن ضمنه الاكتئاب، فهو اختلال سريري جسيم في إدراك الفرد أو ضبطه لمشاعره أو سلوكه، وعادةً ما يرتبط بالكرب أو بقصور في مجالات مهمة من الأداء، علماً بأن أنواع الاضطرابات النفسية كثيرة ومختلفة، وفق منظّمة الصحّة العالمية.

"شدّ حالك بدّي ضلّ اتّكي عليك لآخر يوم بعمري. ممنوع تتعب، ممنوع كتفك يميل، إنت الحقيقة الوحيدة بحياتي"

المنظّمة، وضمن حملة "عش الحياة" التي أطلقتها عام 2019، لتعزيز جهود الوقاية من الانتحار، أكّدت أنّ عدد الذكور الذين يلقون حتفهم بسبب الانتحار أكثر بمرّتين من عدد الإناث، (12.6 من كل 100،000 ذكر مقارنةً بـ5.4 من كل 100،000 أنثى).

في حين يصرّح الدكتور شرتوني، بأنه "لا دليل علمياً على أنّ الرجال أكثر ميلاً إلى الانتحار. الأشخاص معرّضون للانتحار على اختلاف جنسهم، لكن المسار الذي قد يقودهم إلى الانتحار من محفّزاته عدم التعبير عن المشاعر والكبت اللذين يعاني منهما بعض الرجال".

بين العوائق و"الجنون"

حتى أيامٍ ليست ببعيدة كثيراً، كان المرض النفسي وصمةً و"تابو" والمصاب به "مجنون، معتوه، أخوت، وأهبل" في نظر المجتمع. الأمر الذي شكّل لسنوات سدّاً منيعاً أمام أي شخص يودّ أن ينهي معاناته وآلامه النفسية أو النفس-جسدية ويذهب إلى عيادة طبيب نفسي أو معالج.

برأي نور، حتى اليوم لا يزال جزء من المجتمع الشرقي ينظر إلى من يلجأ إلى العلاج النفسي على أنّه "مجنون، وهذا مفهوم خطأ تماماً، لكنّه ليس ما كان يعيقني". ويصرّح الشاب الذي يستمرّ في مواصلة رحلة علاجه النفسيّ حالياً، بأنّه لم يكن يعتقد بأنّ المعالج قادر على حلّ مشكلاته: "عندما بدأت شعرت بالفرق الكبير. المسألة تتطلّب وقتاً بالتأكيد والمعالج لا يقول لنا افعل كذا أو كذا، لكنّه بطريقة ذكية يوضح لنا ما يجري ويوجّهنا إلى ما هو خيرٌ لنا، ويكشف كل التفاصيل التي لا ندركها وندرك مدى تأثيرها في حياتنا". يؤكد نور أهمّية ذهاب كل شخص أو كل من يحتاج إلى علاج، إلى أخصّائي: "كل إنسان لديه أمور عالقة في ذاكرته ولا وعيه منذ الطفولة، تظهر في مراحل متقدمة من عمره إذا لم يتمّ العمل عليها".

أمّا دانيال مهنّا، فيرى أنّ المجتمع اليوم أصبح أكثر تصالحاً مع فكرة العلاج النفسي: "هناك تطوّر ملحوظ ولو بوتيرة بطيئة. سابقاً كان الطبّ النفسي في دير الصليب فقط، ومن يذهب إلى هناك يوصف بالمجنون ويتعرّض للتنمّر والسخرية. اليوم الوضع مختلف، لكن علينا أيضاً التخفيف من التنمّر". وعن نفسه يبدي الشاب الجامعيّ والعامل، رغبةً في خوض رحلة العلاج النفسي من دون أي تردّد، لكن ما يعيقه هو العامل المادّي فقط، نظراً إلى ارتفاع التكاليف في ظلّ الأزمة في لبنان.

تختلف الاحتياجات النفسية والاقتصادية والاجتماعية لكلّ إنسان، بغضّ النظر عن جنسه، باختلاف ظروفه وشخصيته وتطلّعاته

علي ريا، يعبّر عن تفهّمه "لمن يصل إلى الانتحار بسبب الأوضاع التي نعيشها اليوم، أنا لديّ خيارات وعائلة ومحيط داعم، لكن المنتحر ربّما لا يملك شيئاً من ذلك، لهذا ألوم المجتمع ولا ألومه". يكشف ريّا أنّه كأي إنسان آخر مرّ بفترات عصيبة وضغوط وظروف، لكنه أجاد التعامل معها بمنطق وعقلانية من دون الحاجة إلى اللجوء إلى العلاج حتى الآن.

وسيم (36 عاماً)، الذي يعمل كميسّر جلسات توعوية ودعم نفسي، يصرّح بأنه بحكم عمله يصادف الكثير من الرجال الذين يعانون من أزمات نفسية بسبب مخلّفات الطفولة أو الضغوط الحالية، ويعتقد بأنّ الحلّ الرادع للانتحار هو "الاكتشاف المبكر للحالة أو المرض اللذين يعاني منهما الرجل، وخوض مسار العلاج. التوعية وجلسات الدعم النفسي عاملان أساسيان جداً، وكذلك التعاضد الاجتماعي ووجود محيط داعم يمسك بيد الفرد للخروج من أزماته".

في هذا السياق، يقول كرم، الذي مرّ بمسيرة علاج نفسي على مدار عام كامل تقريباً، بعد تعرّضه لموقف شديد الصعوبة على حدّ وصفه: "لم تكن أمامي أيّ عوائق، بل أعتقد أنّ الفرد هو من يعيق نفسه إن لم يتّخذ قراراً بحلّ أزماته. العلاج أمرٌ مهم ومفصليّ لكن الفرد مهما ذهب إلى معالجين من دون إرادة فعلية منه لحلّ مشكلته أو السيطرة على تصرّفاته غير السويّة، لن يصل إلى أي مكان".

ويشدّد كرم على أنّ المحيط هو الركيزة الأولى. يفصح لرصيف22 بأنّه يعتمد "قاعدة تصفية الأفراد، أي الإبقاء على عدد محدود جداً من الأشخاص حولي كعائلة وزملاء وأصدقاء، أكون على سجيّتي أمامهم، وأستطيع الاتّكاء عليهم في المحن، لأنني مهما بلغت من السلام النفسي، لو كان محيطي مؤذياً فلن أخرج من الدوّامة".

وسيم وكرم يلفتان أيضاً إلى علامة فارقة في مسار النجاة النفسيّ، هي "العقيدة الدينية أو الإيمان بالله تعالى والتقرّب منه".

ماذا يريد الرجال؟

تختلف الاحتياجات النفسية والاقتصادية والاجتماعية لكلّ إنسان، بغضّ النظر عن جنسه، باختلاف ظروفه وشخصيته وتطلّعاته، لكن في خضمّ الحديث عن الصحة العقلية والنفسية للرجال يرى وسيم أنّ إيجاد فرص عمل مناسبة ونظام حماية حقوقي لأبناء المجتمع من شأنه وقايتهم جميعاً رجالاً ونساءً من هاوية الألم النفسي.

"نحتاج من المجتمع ألا يقيّدنا بأدوار جندريّة، وألا يتنمّر علينا إذا خرجنا من صناديقه، وألا يلومنا ويعاقبنا إن عبّرنا عمّا في دواخلنا. نحن نريد مساواةً بمساحة التعبير داخل أسرنا وفي المجتمع ككلّ" يقول نور.

نحتاج من المجتمع ألا يقيّدنا بأدوار جندريّة، وألا يتنمّر علينا إذا خرجنا من صناديقه. نحن نريد مساواةً بمساحة التعبير داخل أسرنا وفي المجتمع ككلّ

ووفق كرم: "ما يحتاجه الرجال هي حاضنة سليمة، وحضن سليم، وشريك سليم، وبيئة تقدّر طاقاتهم ومواهبهم وتيسّر لهم الفرص، كل شيء يبدأ من الأسرة الأولى، وعند اتّخاذ قرار الزواج وتأسيس الأسرة لا يجب على الإطلاق تفريق الإسقاطات على الأبناء".

ربّما ما يحتاجه كل رجلٌ في أيامنا هذه، هي "مسافة أمان"، أمان وظيفيّ واقتصادي ومجتمعيّ وعائليّ وعاطفيّ، يبدأ بإنزال حمل الجبال عن أكتافه، وبعدم تنميطه وحصره في أدوار اجتماعية معيّنة. بلى، الأب في كثير من الحالات هو الحضن الأوّل والسند الأخير، لكنّ ذلك لا يعرّيه من حقّه في التعب والاستكانة، والرجل، مطلق رجل، من دون أيّ صفة اجتماعية هو مخلوقٌ له كامل الحقّ في التعبير، وفي المرور بحالات ضعفٍ وأسى، وفي أن يكون ما يريد أن يكون لا ما يريدون له أن يكون، حتّى لو لم تشرعن المواثيق الدولية الحقوقية ذلك في مراسيم رسمية بعد.

ملاحظة: وضعنا الاسم الأوّل لبعض المتحدثين بناءً على طلبهم، كونهم يعملون في مؤسسات تمنع عليهم التصريح لوسائل إعلام.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard