ينحاز خيري بشارة، مع أبناء جيله من السينمائيين، إلى المهمشين والمنسحقين تحت وطأة الحياة والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فيتمحور عالمه حول آلامهم وآمالهم، ومقاومتهم شراسةَ العالم الذي يعيشون فيه ليشقوا لأنفسهم ممراً ضيقاً بين القسوة والإحباطات المتتالية، حتى يستطيعوا النفاذ منه نحو أحلامهم البسيطة.
ينسج خيري بشارة حكاياته حول مآسي أبطاله، نساءً ورجالاً، ويحتل الرجال المهزومون مساحة عريضة من أفلامه، فأغلبهم شخصيات مأزومة تئنّ تحت وطأة أزماتهم الداخلية، ومواقفهم المضطربة حيال الواقع، أو عنف الظروف الخارجية التي تعيق محاولاتهم المستميتة ليحظوا بالحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية المشروعة، مثل توفير لقمة العيش أو أربعة جدران يحتمون داخلها.
قلة من هؤلاء الرجال في سينما بشارة استطاعوا أن يشقوا لأنفسهم طريق الخروج من هذا الكهف المظلم، مثل "سيف" في فيلم "آيس كريم في جليم"، و"هدهد" في "كابوريا"، ولكن ظل أكثرهم عالقاً في مأزقه، ومنهم من كانت عواقب تردده وموقفه غير الواضح أعنف ممّا يُتصوَّر.
رجال تهزمهم أزماتهم الداخلية
يقدم بشارة نماذج عدة لرجال عالقين في صراعات داخلية تتمكن منهم، فيستسلمون لهزيمتها لهم، أو تضطرهم إلى اختيار طرق غالباً ما يخشونها ويتحاشونها، ويسيرون فيها بأقسى طريقة ممكنة.
في بداياته، قدم بشارة فيلمين طارحاً نموذج البطل المتردد بين ظروف الواقع الذي يرفضه، وبين اتخاذ رد فعل حاسم وواضح تجاه هذه الظروف، واضعًا قدمًا هنا وقدمًا هناك محاولاً إمساك العصا من المنتصف واللجوء إلى الحلول الوسط، ولكن يهزمه تردده لتكون عاقبة هذا الموقف المخلخل وغير المحسوم في كلا الفيلمين هو الموت.
أحمد التائه المائع المناضل الذي خذل أحد العمال، ومصطفى الرحالة كاره تخلف قريته يدفن ابن أخته حية، وزرياب المثقف العائش في فقاعته، يردد أنا "حمار وصرصار" قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة... من شخصيات خيري بشارة
يبدو المخرج "أحمد الشاذلي/ أحمد زكي" في فيلم "العوامة رقم 70" تائهاً متردداً لا يعرف حقًا ماذا يريد، فهو يتحمس للأشياء سريعاً، ولكن تفتر همته بنفس السرعة ولا تؤدي قراراته إلى شيء.
رجل يقف في منتصف الطريق بين قراره الزواج فجأة من خطيبته الصحافية "وداد/ تيسير فهمي"، والمضي قدماً في تنفيذ ذلك، وبين تحمسه لحديث العامل "عبد العاطي/ أحمد بدير" عن الفساد المتفشي في محلج القطن، وتردده في الذهاب إلى الشرطة للإبلاغ عن المجرمين، ويجد في اختفاء عبد العاطي مسكناً لضميره، ومبرراً لموقفه الباهت النافر من المواجهة والصدام المباشر.
يزداد موقف أحمد المائع وضوحاً مقارنة بموقف وداد الذي يزداد ثباتاً، وهي النموذج المناقض له تماماً، تقف على أرض صلبة، وتفكر، وتتبنى موقفاً جاداً بسرعة الإبلاغ ومحاولة كشف هذا الفساد.
وداد، بالنسبة له، هي الأخرى رمز للضمير الذي يؤنبه، ولا يواجهه سوى بميوعته وتردده المعهودين، فيصب غضبه عليها، ويهرب من أمامها مثل الأطفال.
تُكتشف جثة عبد العاطي، ويخبر أحمد الشرطة أنه قضاء وقدر، ولا تتردد وداد في إخبارهم بثبات أنه ضحية لصوص المحلج.
يمسي مقتل عبد العاطي وشعور أحمد بالذنب تجاهه هما الحجر الذي ألقي في مياه حياته الراكدة، لتدفعه إلى إعادة حساباته، ويتلقى علقة ساخنة على يد المسجونين معه في التخشيبة "السجن"، متهمينه بقتل عبد العاطي، لتصبح التهمة بمثابة الصفعة الأخيرة التي احتاجها ليحسم موقفه.
النموذج الثاني هو "مصطفى/ عزت العلايلي" في فيلم "الطوق والأسورة"، يسافر لسنوات طويلة، مكتسباً الخبرة والتمدن، ثم يعود معتقداً أن الحال قد تبدّل لكنه يجد القرية على حالها كما تركها، ويسخر من أمه عندما تخبره أن الدجال هو من أعاده إليها.
يدرك زرياب خطأه، ويعترف قبيل وفاته في مشهد لقائه ببائعة الهوى أنه كان “حمار وصرصار” ويلعن، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، الأيدولوجيات التي أضاع عمره في سبيلها
باكتشافه خطيئة “فرحة/ شيريهان” ابنة اخته يسقط قناع التمدن المزعوم، ويجد نفسه مقيداً بطوق العادات والتقاليد التي ينفر منها، ويكرهها، ولكنه بدفنها حية حتى تكشف له اسم من غرّر بها، ويقتلها ابن عمتها “سعد/ عبد الله محمود”
يصطدم "مصطفى" بعاقبة تردده بعد مقتل فرحة، ويثور غضباً من نفسه التي تهاونت في التحلل من التقاليد الخاطئة وتردده في اتخاذ الموقف الذي يدرك أنه الصواب.
ويكشف مشهد دفنه لفرحة عن تردده بين الانصياع للعادات والتقاليد التي تقضي بقتل الفتاة، وبين اعتبارها ضحية لا تستحق العقاب.
شخصية "زرياب/ على حسنين" في "آيس كريم في جليم" نموذج آخر للرجال المهزومين من صراعاتهم الداخلية، فهو الفنان اليساري الذي ظل حبيس فقاعته، ولم يستطع استيعاب تغير العالم من حوله، ما جعله عاجزاً عن التعاطي مع الواقع أو التعامل مع ابنته.
يصطدم زرياب بـ"سيف/ عمرو دياب"، وهو يمثل الشاب الذي يسعى إلى تحقيق أحلامه الفردية، والأشياء الصغيرة التي يحبها.
يدرك زرياب خطأه، ويعترف قبيل وفاته في مشهد لقائه ببائعة الهوى أنه كان “حمار وصرصار” ويلعن، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، الأيدولوجيات التي أضاع عمره في سبيلها.
المهزومون من ضغوط المجتمع
وفي تنويعة أخرى لنموذج الرجال المهزومين، قدم خيري بشارة في فترة التسعينات ثلاثة أفلام تطرح تيمة الحدث الواحد الذي يجمع عدداً من الشخصيات المأزومة معًا وهم يحاولون تجاوز هذا الحدث ليستأنفوا حياتهم المعهودة كما في فيلم "إشارة مرور"، أو ليحققوا أحلامهم ويعيشوا بشكل أفضل كما في فيلم “أمريكا شيكا بيكا" و فيلم "قشر البندق".
تمثل هذه الأفلام الحالة الغائمة التي سادت ما بعد الانفتاح في السبعينيات، وما تبعها من تدهور الأوضاع الاجتماعية خاصة لأبناء الطبقة الوسطى، التي أظهرتهم يدورون في حلقات مفرغة بلا نهاية بحثاً عن منفذ للخروج.
ورغم أن الشخصيات التي قدمها بشارة في هذه الأفلام هي نماذج مختلطة من النساء والرجال، فإن أزمات الشخصيات الرجالية أكثر سطوعاً وتبلوراً، أزمات تقع فيها النساء أيضاً.
ثلة من المهزومين
نرى في "أمريكا شيكا بيكا" ثلة من الرجال المهزومين بفعل الضغوط والتغيرات الاجتماعية التي تسحقهم تحت رحاها، فهم من أطياف مختلفة من الطبقة الوسطى، يحاولون التعلق بالحلم الأمريكي باعتباره أملهم في تبديد أوضاعهم المعيشية السيئة.
يخوضون رحلة مجهولة المعالم في سبيل الحصول على فيزا أسهل وأرخص، يقودهم خلالها نصاب طامع في دولاراتهم الشحيحة، التي تدبروها بالدين أو ببيع ممتلكاتهم الهزيلة، وتنتهي رحلتهم بضياعها، وضياع الحلم.
شخصيات عدة تتشاطر أزمات مشابهة:
1 - الطبيب فؤاد، ابن العامل الفقير ساكن الحي الشعبي، الذي وجد في امتهان الطب وسيلة للخروج من طبقته، ولكن لم يؤهله راتب مهنته المرموقة للخروج من دائرته المغلقة.
2 - الترزي البلدي رب الأسرة الذي انقرضت حرفته، ولا يعرف غيرها، فيقرر رهن بيته للجري وراء أكوام النقود الأمريكية المزعومة، فيموت وحيداً في أرض غريبة.
3 - الميكانيكي ابن البلد، الذي خانه حظه في البلاد العربية، بحثاً عن الرزق، فقرر أن يجربه هذه المرة مع الغرب.
تشكيلة أخرى من المهزومين
في فيلم "إشارة مرور"، يقدم بشارة نموذجين آخرين للرجال المهزومين، فيفتتح الفيلم بشخصية “نبيه/ عماد رشاد” الذي يصفعه مجهول على قفاه في وسط أحد ميادين قلب المدينة المزدحمة.
عالم أصبح يسيطر عليه كل قبيح وخسيس
يسكن نبيه شقة فاخرة في إحدى العمارات العتيقة في وسط القاهرة، وهو رجل مثقف وفنان وسليل عائلة عريقة، تأتيه هذه الصفعة وكأنها تحقير لكل ما يملكه من ثقافة ونبل الأصل في عالم أصبح يسيطر عليه كل قبيح وخسيس.
وفي خضم تألم نبيه من الموقف المهين، تهجره حبيبته، ونراه في نهاية الفيلم واقفاً في شرفة منزله، عازفاً مقطوعة "أداجيو" رثاءً لحاله وحال المدينة.
والنموذج الثاني في هذا الفيلم هو شخصية “زكريا القليوبي” المدرس الكهل المحبوس هو وزوجته في وحدتهما وحياتهما الراكدة، وحينما يكون على وشك استقبال الطفل الذي انتظره عشرين عاماً، تتعطل إشارة المرور في يوم ميلاده، فيفقد اتزانه العقلي، ويصيح في الناس، ويشعل النار في جسده، ويولد طفله في الشارع وكأن الحياة ترفض أن تحقق له حلماً واحداً من أحلامه دون أن يكون مغموساً في المُر.
والتنويعة الثالثة في هذه التيمة، الرجال المهزومين، هو فيلم "قشر البندق"، الذي يقدم مجموعة من الشخصيات البائسة، يجدون في مسابقة للأكل فرصة لكسب المال، وفي حالة الخسارة يكونون على الأقل قد تذوقوا طعاماً لن يستطيعوا تحمل ثمنه في الأحوال العادية.
ورغم وجود عدد لا بأس به من الشخصيات المهزومة إلا أن شخصية "ذهني/ محمود ياسين" هو النموذج الرجالي المهزوم الأكثر تكاملًا درامياً، فهو رجل أعمال متورط في قضية قروض بنكية، وأصبح وحده مهدداً بالسجن، يختبئ من الصحافة ومن أعين الناس الذين يعرفون قصته، ويحاول تهديدهم ليساعدوه على الهرب كما ساعدوا غيره حتى يلحق بأسرته، لكن ينتهي به الحال بسلاح موجه إلى رأسه.
ساكن العشوائيات في "حرب الفراولة"
يمثل "حمامة السوهاجي/ محمود حميدة" في فيلم "حرب الفراولة" طبقة أخرى من المهزومين الذين يسكنون العشش والبيوت المهدمة، ويبحثون عن الرزق ببيع الشاي والورود في الطرقات أو الفاكهة التي لا يستطيعون تذوقها. وبرغم ضيق حالهم يطمع الأغنياء في السعادة الهزيلة التي يملكونها.
يتطلع حمامة إلى الجائزة الكبيرة التي يقدمها له “ثابت بيه/ سامي العدل”، الغني الطامع في السعادة البسيطة التي يملكها مقابل أن يحقق له السعادة التي يبحث عنها.
يعتقد حمامة أن الأمر هين لكن يجد نفسه دمية، يتلاعب الرحل الغني بخيوطها كيفما يشاء، ويصبح مجروراً إلى لعبة تمتهن كرامته ثم تحوله إلى قاتل، نازعاً منه كل ما يملكه، أمه ثم حبيبته “فراولة/ يسرا”.
يستولي ثابت على كل شيء، ويصبح حمامة مجردًا من كل شيء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون