شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
غياب الحميمية لدى الرجال... حياة جافة تظلم كلا الجنسين

غياب الحميمية لدى الرجال... حياة جافة تظلم كلا الجنسين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 23 ديسمبر 202201:00 م


يجلس بعض الشبان في شرفة أحد المنازل، يتبادلون الحديث الضاحك، ثم يحكي أحدهم عن إفشائه سرّ إدمان والده الكحول، الأمر الذي أدى في النهاية إلى تدمير عائلته. يحاول الشاب ضبط نفسه عند الحديث عن والده، ولكن الأمر ينتهي بانفجاره في البكاء.

يظهر على الأصدقاء عدم الراحة من هذه الدموع المفاجئة. يتخشبون في جلستهم، وينظرون إلى بعضهم البعض خلسةً، حتى تنتهي موجة بكائه التي أحرجتهم أكثر مما أحرجته. هذا مشهد جاء في فيلم سينمائي حديث، جعلني أهمس لرفيقتي: "هذا هو الفرق بين الرجال والنساء، لو كانت مكان هؤلاء الشبان فتيات لرأينا الكل يحتضنها ويربت على كتفها".

لماذا هذه الحميمية الغائبة في معظم الأحيان بين الذكور؟ كيف يعيش الرجال في هذا المحيط شديد الجفاء؟ وكيف تؤثر التربية الاجتماعية على الرجال؟

عالم شديد الجفاف

الحميمية هي مشاعر القرب التي تحدث عندما يستطيع الأشخاص الانفتاح على بعضهم البعض، والتعبير عن مشاعرهم الحقيقية وأفكارهم ومخاوفهم ورغباتهم، ويحدث كل ذلك عندما يثق الأشخاص ببعضهم البعض، ويشعرون بأنهم قادرون على أخذ المخاطرة لإظهار هشاشتهم للعالم.

يتخلى بعض الرجال عن إظهار الحميمية في العلاقات، سواء بين بعضهم البعض أو بينهم وبين شريكاتهم، لأنهم يخشون فقدان استقلاليتهم، فالتقارب العاطفي الحقيقي يدور حول التوازن بين إحساس الشخص بنفسه واتصاله بالآخرين من حوله.

قد يواجه الرجال أيضاً صعوبات في إيجاد الحميمية أو الراحة في التقارب مع الآخرين بسبب نقص "المفردات العاطفية" لديهم، إذ إنهم غالباً ما يشعرون بأنهم أقل قدرةً على التعبير عمّا يشعرون به مقارنةً بالنساء، وقد يشعرون بعدم الارتياح في الأحاديث التي تدور حول العواطف.

وبالرغم من أن مسألة التحدث والتواصل مع الآخرين، مهارة يمكن مع الوقت تعزيزها، غير أنها غائبة عن عالم الرجال، والسبب قد يكمن في التربية: منذ طفولتهم، تتم برمجة الذكور على أن البوح عن المشاعر مهارة نسائية فقط، لا يحتاج إليها الرجال، بل يتعرضون للتعنيف لو حاولوا التعبير عن مشاعرهم بالبكاء أو الكلمات.

قد يواجه الرجال أيضاً صعوبات في إيجاد الحميمية أو الراحة في التقارب مع الآخرين بسبب نقص "المفردات العاطفية" لديهم، إذ إنهم غالباً ما يشعرون بأنهم أقل قدرةً على التعبير عمّا يشعرون به مقارنةً بالنساء

تحدث الشاب العشريني أحمد غنام، عن هذه الأمور، لرصيف22، قائلاً: "هذا الخوف من الحميمية مصدره القلق من الظهور بمظهر الضعيف، وهذا أكثر وضوحاً عند الأجيال الأكبر سنّاً لكون الأجيال الأصغر لديها وعي بما تعنيه الصدمات النفسية والحاجة إلى التعبير عن النفس".

وتابع قائلاً: "في الكثير من الأحيان، الخوف من إظهار الحميمية ينبع من الخوف من الظهور بمنظر الشخص الضعيف أو غير القادر على تحمل المسؤولية"، مشيراً إلى وجود تيارين متعارضين في الوقت الحالي: الأول هو وعي بعض أفراد الأجيال الأصغر بالحاجة إلى اللجوء إلى طرف آخر بحثاً عن الدعم وإظهار الهشاشة اللازمة لذلك، ولكن في الوقت ذاته هناك خطاب مضاد يحث الشباب على التخلي عن الحميمية.

وعليه، في ظل خطوات بطيئة إلى الأمام في اتجاه تحرير الرجل من القواعد التي تجبره الابتعاد عن الحميمية بينه وبين جنسه، هناك خطوات عكسية أوسع.

تحدث عبد الرحمن مصطفى، وهو معلم في السادسة والعشرين من عمره، عن أسباب مشابهة لغياب الحميمية في عالم الرجال: "لا أتذكر أني عبّرت عن مشاعري بشكل كامل أو كنت على وشك البكاء في حضور أي من أصدقائي، والسبب دوماً يعود إلى التربية التي ترى أنه على الرجل ألا يبكي".

وأضاف لرصيف22: "لم أشعر بأن لديّ مكاناً آمناً للتعبير عن ألمي مؤخراً، إلا مع زوجتي القادمة، وقررت أني لو رُزقت بأولاد سأعلمهم منذ الصغر أن البيت مساحة آمنة تماماً يستطيع فيها كل شخص التعبير بحرية، والمرور بكل المشاعر سواء الحزن أو الغضب أو الضعف، وهذا لا يتعارض مع القوة وتحمّل الضغط كما هو شائع".

بدوره، تحدث المحاسب الأربعيني محمد سيد، حول تعبير الرجال عن مشاعرهم في مجتمعاتهم المغلقة: "التعبير بالبكاء أو بالتلامس ليس شائعاً في مجتمعات الرجال فقط، ولكن مرةً واحدةً حدث ذلك خلال الدراسة الثانوية، وقد بكى زميل إثر تعرّضه لتوبيخ وتنمّر من أحد المعلمين، ولكنه قام بذلك أمامي فقط، وأعتقد لأنه ظنّ أني شخص آمن لن يسخر منه أو يعايره بهذا الضعف، ولكن الشائع أن يتم التعبير عن الحزن أو الضعف بطرق أخرى، مثل المرح واللهو مع الأصدقاء، أو أي وسيلة أخرى لكسر حالة الحزن الذي يصعب التعامل معه".

أضاف قائلاً: "بعد ارتباطي بشريكتي، تعلمت أن هناك مساحةً آمنةً يمكننني خلالها التعبير عن مشاعر قلة الحيلة والضعف، وهو أمر لم أستطع اختباره مع أصدقائي أبداً".

الرجال والنساء من الكوكب نفسه

في الواقع، إن الحميمية هي احتياج بشري حقيقي، هي الوجه الآخر للوحدة وغياب الحميمية من أهم أسباب فساد العلاقات مع الشريك/ ة.

من أشهر الكتب الخاصة بالعلاقات التي نالت شهرةً واسعةً، كتاب "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة"، الذي يفترض فيه الكاتب جون غراي، أن هناك طبيعةً مختلفةً لكل من الجنسين تنعكس على كل التصرفات البشرية تقريباً، غير أنه في وقت لاحق ظهرت الكثير من الكتب التي أثبتت خطأ هذه النظرية.

فقد وجد الباحثون أنه لا توجد أي اختلافات بين أدمغة الرجال والنساء: قام العلماء بإجراء عمليات مسح الدماغ لأكثر من 1،400 رجل وامرأة، ووجدوا أنه في حين أن بعض السمات تكون أكثر شيوعاً في أحد الجنسين، فإن دماغ كل شخص "فسيفساء"، أي يضم مجموعةً فريدةً من هذه الميزات، بالإضافة إلى وجود سمات أخرى شائعة في كلا الجنسين.

منذ طفولتهم، تتم برمجة الذكور على أن البوح عن المشاعر مهارة نسائية فقط، لا يحتاج إليها الرجال، بل يتعرضون للتعنيف لو حاولوا التعبير عن مشاعرهم بالبكاء أو الكلمات

تعليقاً على هذه النتائج، قالت أستاذة علم النفس دافنا جويل: "ما تظهره هذه الدراسة هو أن هناك طرقاً متعددةً لتكون ذكراً وأنثى، ولا توجد طريقة واحدة، ومعظم هذه الطرق متداخلة تماماً"، وتالياً هناك اختلافات فردية بين كل امرأة وامرأة ورجل ورجل، ولكن لا توجد اختلافات عامة تفرّق بين الاحتياجات النفسية والاجتماعية لكل من الرجال والنساء.

عليه، لا يوجد هذا التقسيم الحاد الذي افترضه جون غراي، وتوافق عليه الثقافة الشائعة وتعدّه المبرر المنطقي لغياب الحميمة لدى الرجال.

الخلط بين الحميمية والجنس

يخلط بعض الرجال بين الحميمية والجنس، فيفترضون أن ممارسة العلاقة الحميمة مع الزوجة هي طريقة كافية بحدّ ذاتها لإظهار الحب والشغف، ولكن الجنس من دون الحميمية لا يُعدّ كافياً خاصةً بعد انقضاء مرحلة "شهر العسل" في العلاقة التي تستمر من 6 إلى 36 شهراً، وبعدها تفقد العلاقة الشدة الأولية وتبدأ مرحلة ثانية تحتاج إلى بذل الجهد للحفاظ على التقارب العاطفي الذي بدا أنه جاء بسهولة في البداية.

سأل رصيف22، مجموعةً من السيدات عن رأيهنّ بهذا الموضوع، فجاءت الكثير من الإجابات المتشابهة: معظم الرجال خاصةً في المرحلة الأولى من الزواج، يكون لديهم خلط كبير بين التلامس والحميمية والتعبير عن المشاعر الإيجابية منها والسلبية والجنس، وأرجعن ذلك إلى التربية غير السليمة.

قالت مي أحمد، البالغة من العمر 30 عاماً، لرصيف22: "لاحظت أن لغة التلامس للتعبير عن المشاعر أو الود موجودة بيني وبين زوجي، ولكن ليس بينه وبين أفراد عائلته الآخرين، فهذه ليست الطريقة التي اعتادوا على التعامل بها في منزلهم، ولكنها الآن من أهم طرق التواصل بيننا".

الإجابة نفسها تقريباً قدّمتها يمنى فؤاد، التي أضافت: "لاحظت غياب هذه الحميمية في التعامل بين زوجي وأصدقائه، أو بينه وبين بقية أفراد عائلته، ولكنها شيء اكتسبناه في أسرتنا الصغيرة على مرّ السنوات. كانت هناك صعوبات في البداية بالتأكيد، لكن التلامس الودّي حاجة إنسانية سواء للرجل أو المرأة".

يخلط بعض الرجال بين الحميمية والجنس، فيفترضون أن ممارسة العلاقة الحميمة مع الزوجة هي طريقة كافية بحدّ ذاتها لإظهار الحب والشغف، ولكن الجنس من دون الحميمية لا يُعدّ كافياً خاصةً بعد انقضاء مرحلة "شهر العسل"

تحدث الدكتور في علم النفس، أحمد عزت، لرصيف22، عن أسباب غياب الحميمية لدى بعض الرجال وتأثيرها على العلاقات العاطفية: "الموضوع في أساسه نابع من ثقافة ذكورية تحتقر فكرة الضعف، وتعدّ العاطفة والتعبير عن المشاعر الخاصة أمام الآخرين ضعفاً وسبّةً، كذلك هناك الجانب الديني والتخويف الذي يمارس على الأطفال في سن صغيرة، فيصبح هناك رعب من الاقتراب الجسدي من الآخر".

وأضاف عزت: "إن فكرة غياب الحميمية في العلاقة بين الرجال تعود إلى الثقافة والتربية التي تشكل بعد ذلك حدود ما هو طبيعي، وتالياً من الناحية النفسية، يبدأ الرجل بالشعور بالتهديد في حال اقترب من حدود انتهاك ما هو مسموح، ما يؤدي إلى كبت المشاعر وفقدان الاتصال مع الذات والمشاعر الحقيقية وارتداء أقنعة القوة والصلابة واحتقار احتياجاته"، مشدداً على أن "الخوف من الحميمية لا يقف فقط عند حدود العلاقات بين الرجال، ولكن يمتد إلى العلاقة بالأنثى، لأنه يغلق مسار المشاعر والحميمية".

باختصار، يتربّى بعض الذكور بصورة خطأ، ويُبَرمجون على كراهية التلامس والرعب من الحميمية وإظهار الضعف، لذا يكبرون تحت مظلة من الجفاف تمتد إلى بقية جوانب حياتهم، وقد تؤثر على علاقتهم العاطفية والجنسية وعلى كيفية تربية أولادهم في وقت لاحق. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard