لو أدرك زكريا نيل ثورة يناير لرأى الشيخ إمام في ميدان التحرير، وعرف الإجابة. قبل الاسترسال يثور سؤال: مَن زكريا نيل؟ نائب رئيس تحرير "الأهرام" كتب مقالاً عنوانه "من هو...؟؟" مندهشاً من النعي الباذخ للشيخ إمام عيسى "فنان الشعب".
وقد قرأتُ عن الشيخ إمام قبل أن أسمعه. سماعه في المرحلة الثانوية يتطلب شريط كاسيت وجهاز تسجيل غير موجود أصلاً. لا يبقى إلا القراءة، الجسر إلى عوالم لا أعرفها. والجسور في مصر منسوفة بين العشش والقصور. وقد يعبر حرفوش إلى واحة الصفوة، في هروب طبقي؛ فيبالغ في القسوة على أهله. لا تسامُح مع الاستعلاء، ولو جاء من أحمد عبد المعطي حجازي.
في آذار/مارس 1991 تولى حجازي رئاسة تحرير مجلة "إبداع". وصدّر العدد التالي (نيسان/أبريل) بافتتاحية عنوانها "الصفوة... والحرافيش!". المجلة للصفوة، والحرافيش "يبقى لهم أن يقرأوها". فأسس الشاعر هشام قشطة مجلة "الكتابة الأخرى"، انحيازاً إلى الكتابة الجديدة. منطق حجازي هو منطق معظم صحفيي "الأهرام"، يرون لأنفسهم استحقاقاً صحفياً إلهيا. وهمٌ تاريخي أصاب كتاباً وصحفيين يساريين، بل إن كاتباً ناصرياً قال إن الأهرام هي "العتبات المقدسة".
وإلى صدام حسين يرجع الْتحاقي بالأهرام. أنهيت خدمتي العسكرية قبيل حرب الكويت، وصدرت "الأهرام المسائي" فجأة، واحتاجت إلى جيل شاب، واجتذبت مغضوباً عليهم وضالّين ومعطوبين، مع أغلبية من حرافيش موهوبين لا بيت لهم، فيسهرون فيها حتى الصباح.
قرأتُ عن الشيخ إمام قبل أن أسمعه. سماعه في المرحلة الثانوية يتطلب شريط كاسيت وجهاز تسجيل غير موجود أصلاً. لا يبقى إلا القراءة، الجسر إلى عوالم لا أعرفها
قبل صدور "الأهرام المسائي"، اهتزت الصورة الذهنية لتلك "العتبات المقدسة". في المرحلة الثانوية، رأيت مقابلة تلفزيونية لإبراهيم نافع رئيس تحرير الأهرام مع الملك حسين. كيف يخطئ رئيس تحرير الأهرام في اللغة؟ الاسترسال يحتمل الخطأ، أما السؤال الموجز الموجه إلى الملك فتفترض فيه السلامة اللغوية. خلال بضع سنوات سيوقع إبراهيم نافع قرار تعييني. ثم يسلمني، بصفته نقيب الصحفيين، جائزة التفوق الصحفي بحضور محمد حسنين هيكل الذي نال الجائزة التقديرية. القرب من "المطبخ" يتيح الاطلاع على تفاصيل لا يراها رواد "المعرض". سنعرف مقولة ساخرة منسوبة إلى كامل زهيري عن رئيس التحرير الذي يكتبون له مقالاته وكتبه المؤلفة والمترجمة: "كتّابه أكثر من قرائه".
مصر: السماء والأرض، النعيم والجحيم، الوفرة والندرة، الأصالة والتفاهة. وكذلك الصحافة. صحافة الأهرام في مقابل صحافة الشارع. سمعتُ بتشدد هيكل في ظهور صحفيي الأهرام بحد أدنى من الأناقة. صيفاً وشتاءً بالجواكيت، ويمتاز المديرون ونواب رئيس التحرير بالمعاطف، ورؤساء التحرير بالسيجار؛ لكي يردموا فجوة الشعور بالنقص، ويجعلهم أكثر ترؤساً.
من أين لمحرري "الأهرام المسائي"، الفواعلية بمكافأة زهيدة أو بدون، برفاهية ارتداء الجواكيت، ومعظمهم على باب الله، يتشارك في شقة بالضواحي أو غرفة على السطوح. لا يرحم رئيس التحرير قلة الحيلة، فيأمر مسؤولي أجهزة التكييف المركزي بخفض درجة الحرارة؛ لإجبار المحررين على الاحتماء من البرد بالجاكيت. البعض احتفظ في الدرج ببلوفر صوفي.
خرجت من مصر، للمرة الأولى عام 2000، إلى العراق عبر الأردن برّاً. في بغداد وجدت أشرطة الشيخ إمام، ولاحظت حضوره لدى شعب محاصر طوال عشر سنوات. وتأسست جمعيات أهلية لمحبي الشيخ إمام هنا وهناك. ما لا أغفره لنفسي أنني لم أقابله. في الجامعة قابلت معظم مثقفي مصر. ومع يحيى حقي استمرت الاتصالات الهاتفية، يسألني: "محمد القرش أبوك؟"، وكان يكتب القصة في الستينيات ثم اختفى. قلت للأستاذ يحيى إن أبي لا يقرأ. وذات مرة سألني عن معنى لقبي "القرش"، وأعطاني عدة معان. ثم قابلته في دار الأوبرا، وعرفته بنفسي. كان أشبه بملاك. تمنيت لو طال العمر بصلاح عبد الصبور ونجيب سرور.
الشيخ إمام عنوان مرحلة. صاحب اتجاه فني يُختزل بآلة واحدة، ووراء الاختزال نسق مركب.
لماذا أجّلت لقاء الشيخ إمام حتى فاجأتني وفاته؟ نعيه في "الأهرام" يؤكد الانتصار للصدق، لا جمال يضيع أثره. زكريا نيل نائب رئيس تحرير الأهرام كتب أن عدد الناعين 172 من ممثلي القوى الوطنية، والرموز الثقافية في الفنون والآداب. النعي لائق بهم وبالشيخ إمام، دليل على ذاكرة جمعية تنتقي أعلامها وأبطالها، لا تفرق بين رئيس أركان الجيش عبد المنعم رياض والجندي محمد عبد العاطي الشهير بصائد الدبابات. وتتسع الذاكرة لقائمة مفتوحة منذ عبد الله النديم إلى الجندي محمد صلاح. ذاكرة تنبذ التسطيح، ولا تأبه للأضواء والأموال المصروفة على اصطناع تافهين. من طابور رؤساء "الأهرام"، اصطفى الزمن اثنين: هيكل وأحمد بهاء الدين.
نعي الشيخ إمام غير مسبوق بالثقل الرمزي لجموع الناعين، وبالبداية غير التقليدية: "وأنا اللي في هواكي سبقت المعاد... يا سلمى يا عشق البنات والولاد... وطلّعت اسمك في كل البلاد... وكبّرت فيها الأمل في اللي جي... ومين اللي شايل ومين اللي طايل ومين اللي يثبت في وقت الهوايل... ومين فينا ميت... ومين فينا حيّ". من قصيدة "حَلَقة ذكر" كتبها أحمد فؤاد نجم عام 1976. وبعد البداية: "البقاء لله. القوى الوطنية المصرية تنعى إلى الشعب المصري والأمة العربية فنان الشعب الشيخ إمام عيسى". ومن الناعين: رؤساء أحزاب، وزراء ودبلوماسيون سابقون، وأدباء ونقاد، ومحامون، ورسامون، وأساتذة جامعيون، ومخرجون وممثلون وكتاب سيناريو، وموسيقيون ومطربون.
النعي وفاء وعرفان وتقدير للقيمة، وليس إبراء ذمة. لكن كاتب مقال "من هو...؟؟" قال إن الشيخ "ظل وراء جدران التعتيم عدة عقود دون أن يتبنى فريق من هذه النخبة قضيته ويدافعوا عن حريته الفنية... كل هؤلاء الذين نعوه من الأدباء والصحفيين يحملون الإثم، لأنهم لم يعطوه حقه لتظل الأجيال تعرفه". كلام مرسل، يحدث أن يدخل أحدهم السينما قبل نهاية الفيلم، وبدلا الخروج الآمن انتظار للحفلة القادمة، أو الصمت والتركيز لتخمين ما فاته، ينهض ويتعالم فيشرح أخطاء المخرج وارتباك السيناريو. سُمح للشيخ إمام بانفراجة مؤقتة تبناها رجاء النقاش، ولم يحتملوه. اعتقل الرجل بتهمة الغناء. الفنون عُقدة السلطات الديكتاتورية، تصيبها بحساسية مزمنة.
لو فوجئ بهذا النعي صحفي في مؤسسة صحفية جنوبية، يتقاسمون فيها ساندوتشات الطعمية ولا يهتمون بالجواكيت، لما فعل مثل الأستاذ زكريا وكتب: "يبدو من نعيه ووصفه أنه فنان شعبي... ما هي هويته السياسية أو الوطنية".
الشيخ "ظل وراء جدران التعتيم عدة عقود دون أن يتبنى فريق من هذه النخبة قضيته ويدافعوا عن حريته الفنية... كل هؤلاء الذين نعوه من الأدباء والصحفيين يحملون الإثم، لأنهم لم يعطوه حقه لتظل الأجيال تعرفه"
الصحفي الجنوبي، استناداً إلى احترامه لمهنته، يلوم نفسه. كيف لا يعرف رجلًا يصفه ممثلون للضمير الوطني بأنه "فنان الشعب"؟ لا بدّ أنه يعرف واحداً على الأقل من بين 172 ناعياً؛ فيسأله عن بعض التفاصيل، ويغبّر يديه بمراجعة ملف الشيخ إمام في الأرشيف. المسؤولون الكبار في مؤسسات الشمال، وعلى رأسها الأهرام، لا يدخلون الأرشيف، وتأتي إليهم الملفات، وبعضها مغبّر يؤذي الجواكيت. فالأسهل هو اتهام الناعين بالتقصير.
الشيخ إمام عنوان مرحلة. صاحب اتجاه فني يُختزل بآلة واحدة، ووراء الاختزال نسق مركب، ويبدو الثراء في إعادة توزيع موسيقى أغنياته بفرقة موسيقية، بأداء التونسية صوفيا صادق واللبنانية ساندي شمعون مثلاً، وبحماسة شبان نجحوا في استعادته في ميدان التحرير خلال ثورة 25 يناير.
ذكرت اسميْ بهاء الدين وعبد الصبور. حضورهما الدائم راجع إلى الأثر، البصمة العابرة للأجيال، منزوعا من ذلك مناصب بهاء الدين في رئاسة التحرير الأهرام ومجلات "صباح الخير" و"المصور"، و"العربي" الكويتية. وقارئ عبد الصبور لا يعنيه أنه كان مستشاراً ثقافياً لمصر في الهند ورئيساً لهيئة الكتاب. اكتشفتُ الآن أنني لا أتذكر للأستاذ زكريا إلا مقاله عن الشيخ إمام؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين