يعيش أهل بلدي
وشيش الراديو لم يكن يعيق المتعة الغامضة التي كانت تحملها أغاني الشيخ إمام من بغداد، من "صوت فلسطين". كان لفلسطين صوتاً من بغداد يقتطع ساعة من وقت المساء كل يوم، وكانت ساعة فلسطين تلك تحمل صوت الشيخ إمام لدقائق قليلة تتخلل كلاماً بطولياً، سنكتشف لاحقاً كم كان غارقاً في الهزيمة. كنت حينها يافعاً يبحث عن عالم غير هذا العالم "الشائع"، وكانت أغاني الشيخ عنصراً من عالم مغاير غير واضح المعالم ولكنه جذاب لأنه مغاير. كان يزيد من جمال أغنيات الشيخ أنها غير شائعة، وأنك تستمع إليها كأنها بضاعة مهرَّبة، قطعة نادرة وتحمل آثار مشقات الطريق الصعب.
يتوقف كلام المذيع، ويضطرب القلب بانتظار الأغنية، هل تكون للشيخ إمام أم لغيره (لم يكن غيره يعني لي شيئاً)، وإذا كانت للشيخ إمام، فأي أغنية تكون. هل تكون "يا فلسطينية والبندقاني رماكو". لم أكن أعلم ماذا يعني "البندقاني"، ولا أعلم اليوم، فقط أعتقد أنها مشتقة على طريقة أحمد فؤاد نجم، من البندوق أي ابن الحرام (والله أعلم). أم تكون "واه يا عبد الودود" بلهجتها الصعيدية التي تشعر معها ببداهة الرجولة والأمانة. أم تكون "الخط دا خطي والكلمة دي ليا"، أم "اتجمعو العشاق في الزنزانة"، أم "وهبت عمري للأمل ولا جاش" أم ...
نقرات عود الشيخ إمام، نحنحاته ونقاء صوته وخفة دمه في التقطيع وفي التلاعب باللحن، أشياء تنتمي إلى الأغنية بنفس درجة انتماء اللحن والكلمات، وكل هذا مجتمعاً ينتمي إلى عالمي الغامض القصي الجميل الذي رحت أبنيه وأختار عناصره وأزيّنه وافتن به
نقرات عود الشيخ إمام، نحنحاته ونقاء صوته وخفة دمه في التقطيع وفي التلاعب باللحن، أشياء تنتمي إلى الأغنية بنفس درجة انتماء اللحن والكلمات، وكل هذا مجتمعاً ينتمي إلى عالمي الغامض القصي الجميل الذي رحت أبنيه وأختار عناصره وأزيّنه وافتن به.
صار لدي رغبة في معرفة كل شيء عن الشيخ إمام. ما اسمه؟ هل اسمه "الشيخ" وكنيته "إمام"، أم أن الشيخ مجرد لقب وإمام هو اسمه، إذن ما هي كنيته؟ ثم فوجئت حين سمعت من أحدهم إنه أعمى. لم أصدق. لا أدري لماذا استثقلت الأمر في البدء. بعد سنوات قليلة، حين تابعت دراستي الثانوية في مدينة اللاذقية، كانت المفاجأة أنني عثرت على شريط كاسيت للشيخ إمام في إحدى مكتبات السوق. اشتريت الشريط على الفور، رغم أنه لم يكن لدي "مسجلة" لأستمع إليه. على الشريط كانت صورة الشيخ إمام التي أراها للمرة الأولى. كان بنظارتين غامقتين ويبدو بالفعل أعمى، وعلى رأسه غطاء يشبه غطاء الرأس الروسي، وفي حضنه العود. وكان اسمه على الشريط أيضاً "الشيخ إمام عيسى". هكذا إذن اكتملت معرفتي بشخص من سيصبح أحد المكونات الثابتة في عالمي المغاير المختار.
أما توسع معرفتي بأغاني الشيخ إمام، فلم يبدأ إلا حين أصبح عندي مسجلة تسمح لي بسماع ما أريد حين أريد. الشريط الأول الذي بدأ به هذا الجهاز حياته عندي كان للشيخ إمام، وكانت الأغنية الأولى فيه والتي صارت التمثيل الأبرز للشيخ في ذهني هي "قيدو شمعة يا أحبة ونوروني". في كلماتها ولحنها وفي أدائها ونقرات العود التي تتباعد ثم تكتظ مثل الرسم بقلم رصاص، كانت هذه الأغنية رفيقة أيامي الثقيلة وأنا وحيد في غرفتي المستأجرة، بعيد عن أهلي، أواجه السنة الدراسية الأهم في سوريا، سنة البكالوريا.
النساء اللواتي ينشرن الغسيل على البرندات، والآباء الذين يحملون مستلزمات البيت إلى بيوتهم، والأمهات اللواتي ينادين على أولادهن وهم يلعبون في الشارع، ورائحة الطبخ وأحاديث الجيران البعيدة، واشتعال الشموع حين تنقطع الكهرباء... كل شيء كان يذكرني بوحدتي وبعدي عن أهلي. كانت تلك الأغنية بمثابة ملجأ، كنت أنتظر شمعة تنورني، شمعة من الأُلفة، وقد أخذت صوت الشيخ إمام إلى ذاتي وصار أليفي ومؤنسي وخيطاً يربطني بانتماء. لم تكن هذه الأغنية غرامية في مسمعي، لم يكن قد مال العشق بقلبي، كما تقول الأغنية. كان في الأغنية حيرة بالأحرى: "من هنا سكة سلامة/ من هنا سكة ندامة/ أمشي فين يا ناس قولولي/ قيدو شمعة ونوروني"، وفيها شكوى: "بحر بيني وبين هواي/ موجه يشبه موج ظنوني". كلمات لم تكن تنعكس في نفسي كشكوى حبيب، بل كشكوى حالم.
كنت أنتظر شمعة تنورني، شمعة من الأُلفة، وقد أخذت صوت الشيخ إمام إلى ذاتي وصار أليفي ومؤنسي وخيطاً يربطني بانتماء... مجاز في رصيف22
إلى اليوم تعيدني هذه الأغنية إلى غرفتي تلك في "حارة الزين" في اللاذقية، إلى أثاثها البسيط، إلى السرير الذي كنت أستثقل ترتيبه لأنه سوف يتلخبط بعد قليل، إلى صوت ثواني ساعة المنبه الذي كان يقلقني برتابته اللانهائية، ولكي أحذفه من جو الغرفة وقت الدراسة، لم تكن لي وسيلة سوى أن أضع المنبه في البراد الذي كان رغم قدمه، مفخرة أثاث غرفتي.
يعيدني صوت الشيخ إلى تفاصيل تلك المرحلة التي رافقني فيها كملاذ سمعيّ من الوحدة المترافقة بهمّ أن لا تخذل أهلك الذين يقطعون عن أنفسهم كي يفتحوا لك، ما استطاعوا، سبيلاً للنجاح. كانت قضايا أغانيه تعينني على "قضيتي"، وكانت علاقتي بأغانيه تتجاوز الموسيقى والجمال، كان فيها شيء يلامس حس الانتماء والهوية.
ثم بدأ عالم الشيخ إمام يتصالح مع العالم العادي والشائع. هكذا صار يمكن أن تسمع الشيخ عبر إذاعة رسمية، مثل إذاعة دمشق. أغان مثل "أنا توب عن حبك" أو "يا ولدي"، صار يسمعها ويرددها أناس كثر، بمن فيهم من يعادي عالمه المغاير الذي جعلك تحب الشيخ إمام. أنت تدخل عالمه وتواجه، فيما هو يخرج من ذاك العالم ويتكيف.
مضى وقت طويل قبل أن يتحرر في نفسي الشيخ إمام من قضاياه، وأصغي إليه وإلى موسيقاه وعوده، كما أصغي إلى مغنٍ لا إلى خيط انتماء، فتغدو موسيقاه موسيقى تكتسب جمالها من ذاتها لا من ارتباطها بشيء ليس من جنسها، وكذا الكلمات والأداء. لكن، مع ذلك، لا يمكنك أن تحرر نفسك من الذكريات، من ترابطات ختم عليها الزمن ولاتزال تملي عليك ظلالها حين تسمع نحنحة الشيخ ونقرات عوده الصافية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...