من تُعرف بأم كلثوم إيران هي المطربة قمر الملوك (1905-1959)، المعروفة بسخائها وعطائها للأيتام وعوائل الفقراء. ومن بين العوائل تلك، تعرفت قمر المُلوك إلى عائلة مكوّنة من أمّ شابّة وطفليها، زُبيدة ونادر. رعت المطربةُ الشهيرة هذه العائلة وطلبت من الطفلين أن ينادياها بـ"ماما قمر".
هنا نتطرق إلى حكاية ابنة قمر المُلوك بالتبنّي، زبيدة، التي تشابهت حياتها في كثير من الأحيان مع حياة "ماما قمر". أما عن قمر الملوك ودورها في الفن الإيراني المعاصر، فقد نُشر عنها سابقاً في رصيف22.
وُلدت زبيدة جَهانگيري عام 1941 في طهران. توفي والدها وهي طفلة، وترعرعت يتيمةً، تماماً كما ترعرعت الفنانة قمر. وحينما نشأت العلاقة بين المغنية وبين أسرة زبيدة الفقيرة التي كان عمرها 5 سنوات وقتذاك، اهتمت بها كثيراً، وعلّمتها الغناء، واصطحبتها معها إلى حفلاتها الغنائية، كما كانت تفعل جدّة قمر معها.
تركت النجمة في ذروة تألقها وشهرتها التمثيل، احتجاجاً على ما وصفته بـ"الابتذال" في الفن المصوّر. قرارٌ جريء لا يصدر من أحد إلا إن كان مقتنعاً بمبادئه، راضياً بمكتسباته، واثقاً من خطواته، عارفاً بمسيرته
تعرفت الصبية في منزل الفنانة على غناء أم كلثوم ومحمد فوزي والأدب العربي، من خلال الأسطوانات الموجودة هناك، حتى عشقت اللغة العربية عموماً، واللهجة المصرية خصوصاً، وأتقنتهما من دون تعليم مدرسي.
حينما وصلت زبيدة إلى الثانوية، كان عليها اختيار فرع دراسي، فوقفت حائرةً بين طلب أمها الحقيقية "سِيما"، التي أرادتها أن تكون راقصة باليه، وبين أمها ال "قمر الملوك" التي أرادتها أن تحذو حذوها وتكمل طريقها وتصبح مغنّيةً كبيرة.
اختارت الفتاة المدرسة الموسيقية، فأوصت قمر زملاءها بابنتها بالتبني. وبدأ الاهتمام بها من قبل المدرسة. وبعد أن كشفوا أن لها صوتاً جميلاً وعذباً بنوا آمالهم عليها، فخصصوا لها راتباً شهرياً جيداً، لتنفرد بذلك عن باقي زملائها وزميلاتها.
شعر وغناء في الـ15 من عمرها
الرعاية والمنحة اللتان نالتهما تلك الفتاة اليتيمة من قبل كبار الموسيقى الإيرانية، لتعلّم الغناء والعزف على الكمان، نذكراننا تماماً بالرعاية التي حصلت عليها قمر الملوك في مراهقتها من قبل قامات الفن الموسيقي الإيراني وقتذاك.
كل التوقعات كانت تشير إلى أن زبيدة، ظاهرة الموسيقى النسائية الواعدة في المستقبل، خاصةً أنها لفتت الأنظار بعدما باتت تغنّي في حفلات قمر الملوك، ثم تقرأ أشعارها للحاضرين.
وافقت المجلات والصحف على طباعة ونشر أشعار الشابة باسمها الفني الذي اختارته لنفسها "شَبنم". ومن تواجدها على منصة الغناء إلى جانب قمر، كشف مخرجو الفن المسرحي موهبة التمثيل لدى زبيدة عبر أدائها الغنائي والشعري الممتع، وجمالها الطري، وجسدها الناضج في الخامسة عشر من عمرها.
أصبح التمثيل شغفها، فأدت مسرحيات كثيرةً حتى تأخرت عن تمارينها الموسيقية. اشتكاها مدرّسوها عند قمر الملوك، بيد أن الأخيرة أيضاً كانت غير راضية عن خوضها غمار التمثيل، ولكن قرار الصبية كان حاسماً، فتحولت أمها "سيّما" إلى مديرة أعمالها وراحت تبرم عقودها الفنية، وتم استئجار سيارة خصيصاً لها لكثرة أعمالها المسرحية الليلية. واختارت زبيدة اسماً فنياً آخر للتمثيل: "بَروين" (Parvin)، ثم تركت مدرسة الموسيقى قبل أن تنال شهادة الدبلوم.
أول ممثلة في التلفزيون
في حفل افتتاح التلفزيون الإيراني في تشرين الأول/أكتوبر عام 1958، دعيت زبيدة لإجراء عرض خاص مع زملائها وهي في الـ17 من عمرها. وهنا تشابهت مسيرتها مرةً أخرى مع مسيرة "ماما قمر"، إذ كانت الأخيرة من أولى الفنانات التي تعاونت مع الإذاعة الوطنية وقت تأسيسها.
كانت زبيدة أول ممثلة تظهر على شاشة التلفزيون الإيراني، وعملت فيه نحو 6 سنوات ممثلةً ومقدمةً وكاتبةً، وقررت أن تشتهر باسمها الفني الأول "شبنم". وبعد عامين من حضورها التلفزيوني، تمت دعوتها إلى التمثيل السينمائي، لتشارك في 5 أفلام سينمائية.
في تلك الفترة التي لم تفرغ فيها زبيدة من نشاطها الفني، كانت قمر الملوك التي أرادتها أن تكمل طريقها تمر بأصعب حالاتها الصحية وحيدةً بلا معيل، حتى توفيت في 1959، وهو ما ترك أثراً كبيراً على نفسية ابنتها بالتبني.
تزوجت نجمة السينما والمسرح والتلفزيون في الخمسينيات، من فنان شهير وقتذاك باسم أكبر "مِشْكِين"، الذي اصطحبها في الكثير من الأعمال، وساندها في الكثير من المحن، خاصةً بعد وفاة قمر، ثم تطلقت منه دون إنجاب بعد سنوات، وهنا أيضاً تشابهت حياتها الشخصية مع حياة "ماما قمر" تماماً.
اعتزال في عز النجومية
في تلك الأعوام، دخل الابتذال ساحة الفن كما في العالم الغربي، فأصبحت فيه المرأة بضاعةً وكان لا بد لها أن تخرج نصف عارية على خشبة المسرح أو شاشة التلفزيون أو اللقطات السينمائية، وعلى الممثلة أن تقبل بتمثيل مشاهد لم توافق عليها زبيدة، وهي الفتاة الأديبة التي تهتم بالأخلاق.
تركت النجمة في ذروة تألقها وشهرتها التمثيل، احتجاجاً على الابتذال في الفن المصوّر. قرار جريء لم يصدر من أحد سوى ممن يكون مقتنعاً بمبادئه، راضياً بمكتسباته، واثقاً من خطواته، عارفاً بمسيرته.
كانت زبيدة، ومنذ عام 1961، عضوةً في نقابة الأدباء الإيرانيين، وعاشرت الكتاب والشعراء الكلاسيكيين، كما تفننت النجمة السابقة في كتابة الأشعار الصوفية حتى لفتت انتباه كبار الشعراء الصوفيين المعاصرين، فكانت أينما حلّت محط أنظار الجميع لدقتها وإتقانها موهبتها.
استكمال طريق "ماما قمر"
لم تكمل الشاعرة طريق الفنانة قمر في الغناء، لكنها حذت حذوها وورثت سخاءها، فعندما ماتت قمر الملوك وجدت ابنتها بالتبني قائمةً من العوائل المعوزة والأيتام الذين رأت أنه لا بد لها من مساندتهم.
قامت باستكمال طريق الإحسان حتى مماتها، وفي شتاء 1962 الذي كان أقصى شتاء يمرّ في تاريخ البلاد وقتها، مرت زبيدة وهي في سيارة أجرة على يتامى في الشارع، فلم تجد في جيبها سوى كلفة الأجرة، لذا قررت أن تصطحبهم معها وينزلوا أمام البنك حيث أفرغت حسابها ووهبته لهم.
بعد اعتزالها التمثيل، تزوجت من النحات والرسام الإيراني محمد قاضي، وشاطرها زوجها العطاء، ثم تبنيا يتيمين هما: علي وصمد.
أصبحت زبيدة عام 1966، التي كانت أيام الغناء والتمثيل عضوةً في مجلس تحرير مجلة "خواندني ها" (Khandaniha)، لموهبتها في كتابة الشعر، نائبة رئيس تحرير المجلة.
شعر وكتابة وتدقيق
نالت زبيدة الاستقرار الذي لطالما كانت تطمح إليه في حياتها؛ زوج فنان مثقف وأطفال بالتبني، وأشعار وعمل صحافي في أشهر مجلات الدولة، وراتب شهري ومساعدة للأيتام، حتى جاء انتصار الثورة ضد الملكية عام 1979.
صادر الثوار ملكية المجلة وثرواتها وأعدموا صاحبها، فعادت زبيدة إلى منزلها بلا راتب، ووقع اختلاف فكري أيديولوجي بينها وزوجها وبين ابنيهما حول الثورة، فالأخيرة هزت المجتمع الإيراني وعصفت بكيان الأسرة في كل منزل. خرج الولدان من البيت من دون عودة، أما زوجها الفنان فتم قطع راتبه الذي كان يتقاضاه من الحكومة السابقة.
عاش الفنانان وضعاً مالياً صعباً، حتى دعت الإدارة الجديدة للمجلة الخاضعة لسطوة النظام الإسلامي، الصحافية زبيدة للعمل من جديد في منتصف الثمانينيات كمدققة، لما لها من خبرة في تدقيق الترجمة الفارسية للكتاب الفرنسي: "حياة محمد" (La vie de Mahomet).
إلى جانب تدقيق صفحات المجلة، قامت بتدقيق ترجمة كتاب "نهج البلاغة" المنسوب إلى الإمام علي بن أبي طالب، وقامت بتدقيق ترجمة كتب أخرى منها: "شهيدة الحب رابعة العدوية".
"مع ابتعادها عن التحجر الفكري والخرافات، كان لها إيمان راسخ بالأسس الدينية الإسلامية بلمسة صوفية، وتشبه في ذلك الشاعرة الصوفية العربية في القرن الثاني للهجرة، رابعة العدوية"؛ هكذا وصفها الأديب الإيراني المغترب مَنوتشهِر بُرومَند.
"مع ابتعادها عن التحجر الفكري والخرافات، كان لها إيمان راسخ بالأسس الدينية الإسلامية بلمسة صوفية، وتشبه في ذلك الشاعرة الصوفية العربية في القرن الثاني للهجرة، رابعة العدوية"
تقاعدت من وظيفتها ولجأت إلى نشر أشعارها وإلى كتابة خواطرها. فنشرت ديوانَي شعر، الأول: "پرواز را فریاد کن"، (اصرخ التحليق)، والثاني: " آسمان باران گریست وفاجعهٔ روز آخر"، (بكت السماء مطراً وكارثة اليوم الأخير).
وكتبت حياة قمر الملوك وذكرياتها معها في كتاب تحت عنوان: "القمر الذي أصبح شمساً". ودوّنت كتاباً آخر حول علي أصغر أميراني، صاحب مجلة "خواندني ها"، وخواطرها في مجلس تحرير المجلة.
وبرغم أنها كانت تعاني من الوضع المعيشي، إلا أنها بعد وفاة زوجها أهدت 23 لوحةً من لوحاته إلى متحف سعد آباد، كما أهدت مكتبتها الخاصة، وهي من هواة القراءة، إلى مرکز دائرة المعارف الإسلامیة في طهران.
توفيت الفنانة الأديبة "زبيدة" أو "شبنم" كما اشتهرت، في 20 تموز/يوليو 2019، بسبب إصابتها بمرض السرطان، ولم يحضر جنازتها سوى قلة من أصدقائها المقربين، من دون تكريم رسمي أو شعبي، لتشبه أمها "قمر الملوك" في آخر محطاتها في الحياة، أيضاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت