شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"يا باشا يا عين القملة"… همسات المصريين من وراء ظهور حكامهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

هل يُعدّ هدوءُ شعبٍ ما وعدم ثورته على الاستبداد والظلم دليلاً على خضوعه وضعفه واستكانته؟ وهل يجب أن يطمئن الحاكم لغياب الاحتجاجات ضده أم يحذر هدوء ما قبل العاصفة؟ وهل تقتصر أشكال المقاومة الشعبية للاستبداد والطغيان على الثورات والانتفاضات وأحداث العنف؟ أم أن هناك أشكالاً ناعمة لمقاومة الظل أو الحيلة تمارسها الشعوب المقهورة؟

في مشهد عبقري من مسرحية "تخاريف" (عام 1989)، كاشفاً عن جانب خفي من علاقة الحاكم المستبد بشعبه وأحد أشكال مقاومة الظل، يقول المواطن ابن الشعب الذي جسده الفنان هاني رمزي أمام الرئيس الديكتاتور، الذي أدى شخصيته محمد صبحي: "الناس عمرها ما كانت مبسوطة... الناس كانت عاملة إضراب؛ بتديهم قليل بيشتغلوا أقل، تاخد منهم ضرايب زيادة، ياخدوا رشاوى وإكراميات أزيد، بتغصبهم على مشروعات كارهينها بيخربوها عشان يشمتوا فيك... صدقني يا فندم محدش يقدر يضحك على الناس".

"المواجهة بين القوي ومن لا قوة لديه تحمل قدراً من الخداع، فالفلاحون والإقنان ليسوا أحراراً في أن يقولوا آراءهم في حضور السلطة، إنهم يخلقون خطاباً سرياً يمثل نقد السلطة، ويتم تداوله من وراء ظهرها"

وفي كتابه "المقاومة بالحيلة... كيف يهمس المحكومون من وراء ظهر حكامهم" يقول العالم السياسي والأنثروپولوجي الأمريكي، جيمس سكوت، إن "المواجهة بين القوي ومن لا قوة لديه تحمل قدراً من الخداع؛ فالفلاحون والإقنان ليسوا أحراراً في أن يقولوا آراءهم في حضور السلطة، إنهم يخلقون خطاباً سرياً يمثل نقد السلطة، ويتم تداوله من وراء ظهرها"، مبيناً أن هناك أحد أشكال المقاومة يعتمد على الحيلة والإيهام قبل أن يلجئ الناس إلى العنف والثورة، يؤدي لوجود خطاب مُعلَن، وخطاب مستتر، وجه وقناع، بين الحاكم المستبد والمحكومين المغلوبين على أمرهم، والتي تتضمن قيامهم بالسخرية من الطاغية المستبد وإفقاده هيبته بين الناس وكشف أسراره وأفعاله الخسيسة وفضح أكاذيبه، جاعلين منه أضحوكة، فلا يحول بطشه وطغيانه بين ظهوره بمظهر الخائب الضعيف.

وتؤدي تلك السياسات وفقاً لـسكوت إلى "توليد الشتائم والإهانات للكرامة الإنسانية بشكل يُولِّد في المقابل خطاباً مستتراً عن الشعور بالمهانة"، ويعتمد ذلك على التمويه والتورية والاختباء خلف الكنايات والمجازات، كي لا يتمكن الحاكم المستبد من البطش بهم، ويزيد سمك القناع إطراداً مع تزايد حِدَّة القمع أو تضييق المساحة الآمنة للمحكومين.

ويتنكر الخطاب المستتر للمقهورين وفقاً للعالم الأمريكي وراء السخرية والنكات، الشفرات والتلميحات والمجازات، والأغاني والحكايات والأساطير، والقيل والقال والغمز واللمز، وغيرها من الحيل اللغوية، كما أن المحكومين يحرصون على الشعرة الفاصلة بين الخطابين المستتر والمُعلَن، والتي إن انقطعت ستصبح حريتهم أو وظائفهم أو حتى حيواتهم مهددة.

متى تتحرك جينات الثورة عند المصريين؟

من خلال التأمل في التاريخ المصري، ربما نستغرب كون المصريين قلّما ثاروا في وجه حاكم مستبد أو مُحتل غاصب، برغم كونهم أول شعب في التاريخ ثار ضد حاكمه؛ حيث كانت ثورة الجياع  الأولى من نوعها، والتي قام بها المصريون ضد الملك بيبي الثاني بسبب المجاعة والفقر وسوء أحوال مصر آنذاك، حسب ما ورد في بردية أيبوير ونصوص الأهرام التي وجدت في أهرامات عائلة بيبي الثاني، جنوب سقّارة.

غير أن آلاف السنوات انقضت قبل أن يثور المصريون على الاحتلال الروماني في عهد الإمبراطور ماركوس اوريليوس (161- 180 م)، فيما يُعرف بحرب الزرع أو الحرب البكوليه، ثم انقضت عهود أخرى بعد دخول العرب والمسلمين مصرَ، ليقوم أقباط مصر بثورة مسلحة ضد الحكم الأموي والعباسي للبلاد، عُرفت بثورة البشموريين القبطية في القرنين الثامن والتاسع الميلادي، ولم تشهد مصر حراكاً شعبياً حتى اندلعت ثورة القاهرة الأولى في 20 تشرين الأول/أكتوبر 1798، ضد الحملة الفرنسية على مصر، والتي قادها الأزهر الشريف، ثم ثورة القاهرة الثانية في 20 آذار/مارس 1800، والتي انطلقت من حي بولاق، واستمرت قرابة شهر قبل أن يحرق الجنرال الفرنسي كليبر القاهرةَ بمدافعه في 21 نيسان/أبريل 1800.

منذ آلاف السنوات أجاد المصريون مقاومة الخفاء وسلاح السخرية لمحاربة أعدائهم وتجاوز الفترات العصيبة من تاريخ وطنهم ومواجهة الظلم، بشكل يخلع أقنعة غرورهم واستعلائهم.

وفي تلك المرة بدأت الثورة من قلب الجيش بقيادة أحمد عرابي باشا في الفترة 1879-1882 ضد الخديوي توفيق والتدخل الأجنبي في مصر، قبل أن ينخرط فيها الشعب المصري ويؤيدها، فيما يُعرف بهوجة عرابي أو الثورة العرابية، وعقب الحرب العالمية الأولى اندلعت ثورة شعبية كبرى في مارس/آذار 1919، ضد الاحتلال الإنكليزي وتغلغله في شؤون الدولة وإلغاء الدستور وفرض الحماية وإعلان الأحكام العرفية.

ولم يعرف التاريخ المصري المعاصر ثورات شعبية منذ انتفاضة الخبز التي اندلعت في يومي 18 و19 كانون الثاني/يناير 1977 جراء ارتفاع أسعار السلع، حتى قيام ثورة 25 كانون الثاني/يناير في عام 2011 ضد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك وما تلاها من تظاهرات واسعة للتنديد بحكم المجلس العسكري ثم جماعة الإخوان فيما يعرف بثورة 30 حزيران/يونيو التي انتهت بعزل الرئيس الأسبق محمد مرسي في 3 تموز/يوليو 2013، ثم احتجاجات أنصاره التي امتدت لنحو عامين.

في الواقع تؤكد صفحات التاريخ أن المصريين بطبعهم لا يميلون للخضوع والاستكانة، ولكن ما الذي يتحكم في "جينات الثورة" لديهم؟ وكيف يجتازون فترات الظلم والفقر والاستبداد إذا لم يلجأوا للاحتجاج والثورة؟ وما هي أسلحتهم الخفية وأساليب الظل التي يستخدمونها في تلك الفترات؟

شعب ماكر لاذع القول، روحه مرحة

منذ آلاف السنوات أجاد المصريون مقاومة الخفاء وسلاح السخرية لمحاربة أعدائهم وتجاوز الفترات العصيبة من تاريخ وطنهم ومواجهة البطش والظلم، بشكل يخلع أقنعة غرورهم واستعلائهم، قبل أن يلجأوا للاحتجاج والثورة كخيار أخير؛ فليس هناك أبلغ من وصف الشاعر الروماني ثيوكربتوس للمصريين، قبل الميلاد بحوالى 200 سنة، بأنهم شعب ماكر لاذع القول، روحه مرحة، بسبب ما رآه من براعتهم في السخرية من ملوك وقياصرة وقضاة الرومان مُلقبين بطليموس الأول بـالزمار والقيصر الروماني بتاجر السردين!

ولم يكن الرومان أول من تعرض لسخرية المصريين كنوع من المقاومة، فكثير من ملوك الفراعنة لم يسلموا من الرسوم الساخرة على قطع الفخار المستوية التي تُعرف بـ"الأوستراكا"، بجانب ما جاء في بردية تورين الموجودة داخل المتحف المصري بتورينو، والتي تعود إلى عصر الملك رمسيس الثاني، ومنحوتات صخور جبل القرنة بالأقصر، الساخرة من الملكة "حتشبسوت" وعلاقتها بالمهندس "سنموت".

طريقة المصريين في السخرية من السلطة، المتمثلة في الوالي رجب باشا الذي أرسله السلطان العثماني أحمد الثالث إلى مصر في نهاية العام 1720، للتخلص من بكوات المماليك وانتهت مؤامرته بالفشل، لفتت نظر المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي، فوثقها في كتابه الشهير "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، قائلاً إن المصريين نكّتوا على الباشا التركي، وحوّلوه إلى أغنية لحنوها ورددوها، قائلين: "يا باشا يا عين القملة، مين قال لك تعمل دي العملة، ويا باشا يا عين الصيرة، مين قال لك تدبر دي التدبيرة”، وهي القصة التي وردت أيضاً في كتاب الأمير أحمد الدمرداشي "الدرة المصانة في أخبار الكنانة".

وفى هامش "العجة والبصارة" بكتاب "هوامش المقريزى" يكشف المؤرخ والكاتب  الراحل صلاح عيسى، عن جانب من سخرية المصريين من الفاطميين ومحاولاتهم لفرض المذهب الشيعي بالقوة، وكيف استخدموا طعام "البصارة" كطريقة للتنديد بمصادرة الحريات ومنع الحكام الفاطميين خطباءَ المساجد من التطرق للواقع بكلمة، فما كان من أحد الأئمة إلاّ أن قال في خطبة الجمعة: "البصارة يا عباد الله من أفضل الأطعمة لتقوية المؤمن، وتصنع البصارة من فول مجروش وتنقع فى ماء ثم تدق فى ماجور".

تحمل معنى مزدوج لا يفهمه المعتدي

وفي حديثها لرصيف22 ترى الدكتورة إيمان الليثي، أستاذة الأنثروبولوجيا الثقافية بجامعة القاهرة، أن الشعب المصري ابن الشمس ومحب للحياة منذ عهد الفراعنة وتقديسهم لآمون رع، بطبيعته يواجه الأزمات بالبهجة؛ حيث يستخدم الكلمة والنكتة والأغنية المتناقضة مع الواقع الصعب والمرير بشكل يعكس قدرته على الاستمرارية، وتحمل معنى مزدوج لا يفهمه المعتدي لكنه مفهوم بين أفراد الشعب، ومن بينها أغنيتي "يا عزيز يا عزيز كُبة تاخد الإنجليز"، و"يا بلح زغلول" وهي أغنيات تشير للرغبة في جلاء المستعمر عن البلاد، مضيفة أن المصريين واجهوا المستعمر الفرنسي بالسخرية والنكات قبل الوصول لمرحلة الثورة والتضحية بالحياة.

وتضيف الليثي أنه برغم الأجواء الصعبة التي عاشها ثوار 25 كانون الثاني/يناير أثناء اعتصامهم بميدان التحرير، إلاّ أنهم لم يتخلوا عن روح الفكاهة والسخرية ذات المعنى المزدوج لديهم بدلاً من الحزن واليأس، مشددة على أن الشعب المصري مُحب للحياة والمقاومة وشعب "مالهوش كتالوج"، لافتة لكون تلك الروح تمتع بها المصريون منذ العصر الفرعوني، وظهرت على ألواح "الأوستراكا" التي عُثر عليها في الأقصر، مثل سخرية العامل المصري من رئيسه في العمل.

ماذا لو سُلبت من المصريين سخريتهم؟

عندما جاءت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة الجنرال نابليون بونابرت كانت الغلبة في القوة العسكرية للفرنسيين، إلاّ أن المصريين امتلكوا سلاحاً نجح في إزعاج بونابرت وجنوده، ألا وهو الضحك والسخرية، حيث ابتكروا شخصية "علي كاكا" الذي يلف حول وسطه حزاماً يتدلى منه آلة جنسية ضخمة وصنعوا منها حلوى في الموالد للسخرية من نابليون والتلميح بعجزه الجنسي، وعملوا على تحطيم معنوياته بالنكت والقفشات، مما دفعه لتجريم النكات ومنع إطلاقها في الشارع، بحسب ما قاله الكاتب عادل حمودة في كتاب "النكتة السياسية… كيف يسخر المصريون من حكامهم"، غير أن الشعب لم يهدأ حينها فخرج بثورتين ضد الفرنسيين.

بدوره أيضاً تعرض الاحتلال البريطاني للسخرية ونكات المصريين الذين أسسوا مقهى "المضحكخانة"، في نهاية شارع محمد علي بالقاهرة، والتي كان يجتمع فيها الظرفاء لتأليف النكات، والتي سرعان ما كانت تنتشر على ألسن الناس، ولم تخلُ من سخرية من الحكومة والإنكليز والملك والسرايا؛ الأمر الذي أثار حفيظة الجيش البريطاني، فأغلقوا المقهى واعتقلوا روادها، بحسب كتاب "ملامح القاهرة في 1000 عام"، للأديب الراحل جمال الغيطاني، لكن لم يمض الكثير حتى اندلعت ثورة 1919، ولم يكف المصريون عن سخريتهم فراحوا يغنون "يا بلح زغلول"، للتضامن مع قائدها سعد باشا زغلول، بعد نفيه، وإغاظة المندوب السامي البريطاني.

عبر التأمل في طبيعة الشخصية المصرية سندرك أن السخرية جزء أصيل منها، ويزداد حجمها بزيادة سوء الأوضاع المجتمعية، وتصبح ملاذاً للمقهورين أمام كل طاغية مستبد

وعادت النكات إلى الشارع المصري من جديد وعادت "المضحكخانة" تسخر من كل شيء، وتتحدى القمع والدولة البوليسية، وهو ما لم يرض عن نظام الحكم العسكري الذي حكم مصر بعد الإطاحة بعرش الملك فاروق في 23 تموز/يوليو العام 1952، فقام بهدم المقهى التاريخي وبنى محله مديرية أمن القاهرة، في مفارقة غريبة من نوعها!

سخرية تصل إلى حدّ الفحش

وفي كتابها "الشخصية المصرية في الأمثال الشعبية" ترى الدكتورة عزة عزت، أستاذة الإعلام بجامعة القاهرة، أن "حب المصري للفكاهة وخفة روحه أمر لا خلاف عليه، وهما دفعاه للسخرية اللاذعة والتهكم حتى في ساعات الجد والألم، فهو يسخر من نفسه، ومما يصيبه، وكأنه يستعلي على المحن بأسلوب يبدو للعامة وكأنه وسيلة إضحاك، وإن انطوى على تلميحات لاذعة، تسخر من الحياة ومن سلوك المجتمع، وتنتقده بشدة قد تصل إلى حد الفحش أحياناً بهدف التأثير في النفس بعنف وكأنها دعوة للرفض والتعبير".

من خلال التأمل في طبيعة الشخصية المصرية سندرك أن السخرية جزء أصيل منها، ويزداد حجمها بزيادة سوء الأوضاع المجتمعية، وتصبح ملاذاً للمقهورين أمام كل طاغية مستبد؛ لذا ربما يجب أن يقلق الطغاة بشدة إن فقد المصريون يوماً قدرتهم على السخرية!

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

شكل حياتنا اليومية سيتغيّر، وتفاصيل ما نعيشه كل يوم ستختلف، لو كنّا لا نساوم على قضايا الحريات. "ثقافة المساومة" هذه هي ما يساعد الحكام على حرماننا من حريات وحقوق كثيرة، ولذلك نرفضها، ونكرّس يومياً جهوداً للتعبير عن رفضنا لها، والدعوة إلى التكاتف لانتزاع ما لنا من قبضة المتسلّطين. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard