في منتصف الحرب العالمية الأولى، جال أحمد عزت الأستاذ، سكرتير السلطان محمد رشاد الخامس، على المدن السورية كافة وتوقف في حماة، حيث شاهد جمعاً من العائلات الأرمنية المشردة، الهاربين من البطش والمجازر التي ارتُكبت بحقهم. وفي أحد مساجد حماة، تعرف إلى فتاة صغيرة مجهولة الهوية، لا تتكلم إلا الأرمني والتركي، فأحبها وتزوجها بعد أن اعتنقت دين الإسلام وفق إرادته، وأعطاها اسم "حسنية". كانت حياة حسنية قصيرة، وتوفيت بعدها بعشر سنوات، بعد أن أنجبا أطفالاً، منهم بهجت الأستاذ، الذي عرف كأحد مطربي إذاعة دمشق، وشقيقته (جدتي) التي توفيت عام 2001.
تعرفت إلى هذا الشق من تاريخ أسرة أمي في مرحلة متقدمة من حياتي، ولعله يفسر التعاطف الكبير والاحترام الذي أكنه لأرمن سوريا. هم أصدقائي منذ أيام الدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت، وكان أحد أقرب أصدقائي من أرمن حلب المهاجرين إلى دمشق. أمضينا ساعات طويلة معاً في الحديث عن "القضية الأرمنية" وعن تاريخ الأرمن في المشرق العربي، وعن الجيش السري لتحرير أرمينيا الذي تحالف مع منظمة التحرير الفلسطينية أيام الحرب الأهلية في لبنان، وأقاما قواعد تدريب مشتركة في سهل البقاع. كان صديقي يحب ياسر عرفات كثيراً، وكانت قصته المفضلة أن "أبي عمّار" حين سُئل عن علاقته بالأرمن، أجاب: "الله، أنتو مش عارفين أنه اسمي ياسر عرفتيان؟".
بين القدس وبيروت
توزع الأرمن على بلدان المشرق العربي منذ بدء المجازر بحقهم في مطلع القرن العشرين، ولكنهم كانوا موجودين في فلسطين منذ القرن الخامس. وقد وصل تعدادهم في فلسطين سنة 1948 إلى 15 ألفاً، أما اليوم فقد تناقص عددهم إلى قرابة الخمسة آلاف، 1000 منهم في إسرائيل.
عدد الأرمن كان ضئيلاً في لبنان حتى مطلع القرن العشرين، ولكنه سرعان ما كبر بعد وصولهم إليه لاجئين هاربين من المجازر العثمانية، واستوطنوا قرى البقاع والمتن
في القدس القديمة يوجد حي أرمني شهير، ظلّ عصياً على إسرائيل، ولم يتمكنوا لا من هدمه أو تغيير واقعه الديمغرافي. تمركز الأرمن في حيهم ورفضوا المغادرة يوم النكبة سنة 1948، ولكن الكثير منهم هُجّر خلال السنوات اللاحقة من القرن العشرين، إما أثناء حرب 1967 أو في زمن الانتفاضتين الأولى والثانية.
أما في لبنان، فقد كان الحضور الأرمني أكثر وضوحاً وتأثيراً، حيث سُمح لهم بإنشاء أحزاب ومدارس خاصة بهم، إضافة لجامعة هايكازين الشهيرة في بيروت، التي بدأت كمعهد تعليمي سنة 1995 وتحولت إلى جامعة محترمة ومرموقة في تسعينيات القرن الماضي. ولهم اليوم أحزاب رئيسية في لبنان، تعد جزءاً أساسياً من المجتمع السياسي اللبناني: حزب الطاشناق والهنشاك، مع حصة في البرلمان تصل إلى 6 نواب وممثلين اثنين في الحكومة.
عدد الأرمن كان ضئيلاً في لبنان حتى مطلع القرن العشرين، ولكنه سرعان ما كبر بعد وصولهم إليه لاجئين هاربين من المجازر العثمانية، واستوطنوا قرى البقاع والمتن، وأقاموا حياً كاملاً في بيروت لا يزال قائماً حتى اليوم، ويُعرف ببُرج حمّود.
توزع الأرمن على بلدان المشرق العربي منذ بدء المجازر بحقهم في مطلع القرن العشرين، ولكنهم كانوا موجودين في فلسطين منذ القرن الخامس.
أثناء الحرب الأهلية تمترس أرمن لبنان في أحيائهم ورفضوا حمل السلاح، لا مع المسلمين المؤيدين لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولا مع الأحزاب المسيحية الكبيرة كحزب الكتائب والقوات اللبنانية. وكلما أقترب منهم أحد من الأطراف المتصارعة قاموا إما بطرده أو قتله، ما أمكنهم من الحفاظ على حيادهم التام حتى نهاية الحرب الأهلية.
وقد اشتهر منهم عدة شخصيات نافذة، مثل كريم بقردوني، الرئيس الأسبق لحزب الكتائب، والكاتبة والإعلامية الشهيرة مريم نور، والعازف غي ميانوكيان. لم يعرف لبنان أي إحصاء سكاني منذ ثلاثينيات القرن الماضي ولكن التقديرات الإعلامية تضع عدد الأرمن بحوال 150 ألف اليوم، علماً أن الكثير منهم شدّوا الرحال بسبب التراجع الاقتصادي الكبير الذي شهده لبنان في السنوات القليلة الماضية، إضافة إلى تفجير مرفأ بيروت يوم 4 آب/أغسطس 2002 الذي راح ضحيته أكثر من 240 شخص، 15 منهم من الأرمن.
أرمن سوريا
ولم تختلف هجرة الأرمن كثيراً في سوريا المجاورة، التي كانت ذروتهم فيها مطلع عهد الاستقلال سنة 1946، يوم وصل عددهم إلى قرابة 400 ألف نسمة. ظلّ عددهم يتراجع ويتناقص وصولاً إلى ما ظننّاه الرقم الأدنى سنة 2011، وهو 100 ألف ونيف من الأرمن موزعين: 70 ألفاً في حلب، 20 ألفاً في القامشلي، وقرابة الستة آلاف في دمشق.
لم يكن للأرمن أي أحزاب سياسية في سوريا حتى في مرحلة الخمسينيات، علماً أن نشاط الطاشناق كان معروفاً من قبل الدولة السورية قبل قيام الوحدة مع المصرية سنة 1958. كان لهم ثلاثة نواب في البرلمان أيام الانتداب الفرنسي، من أنطاكيا وحلب، إلا أنهم في سنة 1943 استبدلوا أحد المقاعد بتمثيل أرمني في دمشق وانتُخب المقاول المعروف ناظاريت يعقوبيان نائباً على قائمة رئيس الجمهورية شكري القوتلي.
قام يعقوبيان بترميم وإعادة بناء المجلس النيابي السوري إثر تعرضه لقصف من الفرنسيين سنة 1945. وفي مرحلة الاستقلال، شارك الأرمن في كتابة دستور عام 1950، ووصل اثنان منهم إلى مناصب رفيعة في الدولة السورية، هما هرانت مانولين (1896-1978)، القائد العام للدرك في عهد القوتلي، وآرام كارامانوكيان (1910-1996)، أحد الآباء المؤسسين للجيش السوري الذي تولى سلاح المدفعية مطلع الخمسينيات.
اليوم لا نعرف بالتحديد كم أرمني بقي في سوريا؛ يُعتقد أن عددهم لا يتجاوز 10-12 ألف على أبعد تقدير، ما بين دمشق وحلب. لا يزال لهم تمثيل نيابي محدود، ولكنهم لم يصلوا إلى منصب وزاري بدمشق منذ نشأة الدولة السورية الحديثة
وهنا يجب التوقف قليلاً عندهم لأنهما من أكثر الأرمن نسياناً في الوطن العربي. عُرف مانوليان باسمه الشهير "هرانت بك" وقد تولى فرض الأحكام العرفية على سوريا أثناء الاضطرابات التي رافقت تراجع القوات العربية في فلسطين. ورث جهاز الأمن العام من فرنسا وكان بحالة من الفوضى العارمة، فقام بتنظيمه وترتيبه ورفع عدد قواته من 5200 إلى 9800 سنة 1949. وفي عهده تم تسريح أو اعتقال ما لا يقل عن 400 شخص من قوى الأمن الداخلي، قبل أن يتقاعد ويعمل وكيلاً لشركة الطيران البريطاني بدمشق.
هاجر هرانت بك في نهاية حياته إلى الولايات المتحدة وفيها توفي سنة 1978، مثل زميله آرام كارامنوكيان، الذي هجر السياسة أيضاً، وفضل الدراسة في جامعة السوربون، ثم انتقل للعيش في أمريكا، وفيها توفي.
وكان كارامانوكيان قد شارك في حرب فلسطين الأولى سنة 1948، ونال وسام الشجاعة من القوتلي، وبعد تسريحه من الجيش انتُخب نائباً عن حلب في المجلس النيابي سنة 1961. أما اليوم، فلا نعرف بالتحديد كم أرمني بقي في سوريا؛ ويعتقد أن عددهم لا يتجاوز 10-12 ألف على أبعد تقدير، ما بين دمشق وحلب. لا يزال لهم تمثيل نيابي محدود، ولكنهم لم يصلوا إلى منصب وزاري بدمشق منذ نشأة الدولة السورية الحديثة، علماً أن عدداً منهم حقق شهرة كبيرة في مجالات إبداعية بعيدة عن السياسة، مثل الإعلامي الراحل مهران يوسف، والمغنية لينا شاماميان، والفنان الشهير سلوم حداد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 11 ساعةمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.