الارتحال في الفضاء العمراني غوصٌ في جوانيات الذات، وتدقيق في خرائط أعماقها، وتمحيص لمقوماتها وعناصرها وملامحها، وتصالح بين المكان والزمان، والجغرافيا والتاريخ. شموخ المعمار القائم على أسس من القيمة والمنفعة والتناغم الهندسي واللوني والتوافق بين الضرورات الحياتية والجماليات البصرية، كما في مناطق القاهرة الفاطمية مثلاً، والقاهرة الخديوية، هو شموخ لقامة الإنسان، وتأكيد لحيويته وطاقته الإيجابية وبصمته الإبداعية المميزة.
أما انهيار النسق المعماري، وتشققه، وتشوهه، وتهاويه، كما في الأبنية الحديثة غير المتناسقة والفوضوية والعشوائية في الكثير من أحياء القاهرة وطرقها وميادينها، فهو دليل القبح المعاصر، وخريطة التغييب للحاضر وللذاكرة، والمرآة العاكسة لتراجع الشخصية المجتمعية، وتداعي الهوية الوطنية، وانحدار الفلسفة الحضارية، وتقزّم مقوّمات القوة الناعمة كلها، بشكل عام.
أما محاولات الجهات الرسمية في مصر لترميم الوجه القاهري التاريخي الحضاري القديم، تحت شعار استعادة القاهرة الفاطمية والمملوكية وقاهرة الفسطاط وغيرها، وتحويلها إلى مزارٍ سياحي وما إلى ذلك، فهي أعمال تبدو متحفيةً وتوثيقيةً في طابعها، على أهميتها الآثارية بطبيعة الحال، لكنها لا تصبّ في صنع واقع معماري راهن، نابض وحيّ وأصيل.
فلسفة الحياة
تتعالى فكرة المعمار لدى الكاتب المصري والباحث في العلوم الاجتماعية والتاريخ والمطبوعات ورئيس قطاع المشروعات والخدمات المركزية في مكتبة الإسكندرية سابقاً، الدكتور خالد عزب، إذ يعنون كتابه الجديد بـ"العمران... فلسفة الحياة في الحضارة"، على اعتبار أن العمران هو تاج الحضارة وفلسفة الحياة وسرّ نشوء نظام دائم الفاعلية في الكون، بكل مظاهره الروحانية والمادية، بل إن عمارة الأرض هي وظيفة الإنسان الأولى في هذا الوجود. ومن ثم، فقد انطلق علم العمران في عصور سابقة من الفهم العميق لمعطيات الحضارة الإسلامية وسائر منجزاتها.
انهيار النسق المعماري، وتشققه، وتشوهه، كما في الأبنية الحديثة غير المتناسقة والفوضوية والعشوائية في الكثير من أحياء القاهرة وطرقها وميادينها، فهو دليل القبح المعاصر، وخريطة التغييب للحاضر وللذاكرة
وهذا العلم العمراني يقود البشر إلى أن يعرفوا كيف يحيون على هذه الأرض، ويتمتعون بكل ما وهبه الله لهم فيها من نعم. ومجالات العمران الحضاري هي كل الأنشطة الإنسانية وما يترتب عليها من تفاعلات وعلاقات، وما يتصل بها من تطورات معرفية وفكرية تعكس نمو الإنسان وارتقاءه عبر العصور، بما في ذلك ممارسة السلطة في مستوياتها المتعددة.
خالد عزب
العمارة، ببساطة، وفق هذه المرتكزات التي يعوّل عليها خالد عزب، هي نقيض الخراب، ونقيض الخمول، ونقيض العدم. وهذه العمارة ليست البناء المادي وحده بالتأكيد، فهي عمارة روحانية في جوهرها، وفنية، وابتكارية، وهي الفعل البشري بمستوياته المتنوعة، وفي أنضج صوره، وأخصبها، وأروعها. ويستند عادةً هذا العمران المتفوق، الذي أساسه العدل، إلى قواعد الإجادة والإبداع والجمال والعلم والعمل معاً.
فقدان البوصلة
رحلة عبر الزمان إلى القاهرة التاريخية، في أوانها لا أواننا، كفيلة باستشراف هذا العمران الراقي الرفيع بمفرداته وحيثياته كافة، كفلسفة حياتية وحضارية في آن، الأمر الذي دفع الخديوي إسماعيل في القرن التاسع عشر، إلى الحلم بأن تصير القاهرة عاصمة النور في العالم، وباريس الشرق. وقد اقترن التطور المعماري آنذاك بحركة نهضوية تنويرية واسعة، وبثراء فكري ومعرفي وعلمي وإبداعي وجمالي وفني شامل في كل المجالات، وكانت مجموعة من أبنية القاهرة هي بحد ذاتها مراكز ثقافيةً وإشعاعيةً، مثل دار الأوبرا الخديوية، والمطابع، ودور الكتب، والمتاحف، والمسارح، ودور السينما، وغيرها.
أما الرحلة العكسية، في الانحدار المعماري الماثل في قاهرة اليوم والأمس القريب، إحدى أكثر المدن فوضويةً وتلوثاً وضجيجاً في العالم، فإنها رحلة تقودنا على نحو مضاد إلى الغياب البشري وضعف الحضور والتأثير للقوة الناعمة المصرية على وجه العموم، بوصف العمران العنوان العريض الذي تندرج تحته سمات التقدّم الإنساني وأبجديات صناعة الحياة اللائقة بشعب يدرك خصائصه ومميزاته.
إن المعمار، بنظرة إبداعية وفلسفية ونفسية، قيمة اعتبارية كبرى، وقدرة تعبيرية فائقة، فالمكان مثلما يذهب غاستون باشلار، هو امتداد الإنسان، وهو بوصلة التاريخ والجغرافيا والحضارة. والمكان المصري، بشكل خاص، هو شخصية عبقرية كما يرى الدكتور جمال حمدان، في مؤلفه الضخم "شخصية مصر... دراسة في عبقرية المكان". وقد تنبأ حمدان مبكراً بتراجع العمران المصري وتفكك منظومة المكان، لتسقط البلاد في الانعزال والتأخر وتفقد شخصيتها وهويتها وإطلالتها المؤثرة، عربيّاً وإقليميّاً وعالميّاً.
تآكل الشخصية
ولأن البناء المعماري وبناء الإنسان هما وجهان لعملة واحدة، فإن تساقط النسق العمراني القاهري، والمصري عموماً، هو مرادف لتآكل الشخصية المصرية وضياع المعاني الأولية للهوية والتحقق والتشبث بالجذور. وتتعدد الدراسات والأبحاث الاجتماعية والنفسية التي تتناول تدهور صفات الشخصية المصرية، وانخراطها في فوضاها وعشوائيتها، بالتوازي مع فوضى المكان وعشوائية العمران.
خالد عزب يرى في كتابه "العمران... فلسفة الحياة في الحضارة" أن كلمة السرّ في أي فلسفة معمارية يجري العمل عليها تكمن في الإتقان. والإتقان هنا ليس مجرد صفة، بل هو منهج يقود إلى خلق قواعد لكل عمل وعلم وصنعة وحرفة
إن هذه الشخصية المصرية، في تمثلاتها الشعبية وتجلياتها الريفية مثلاً، كانت بوتقةً لأخلاقيات وفضائل إيجابية كالشجاعة والشهامة والبساطة والنصاعة والمرح ونجدة الغرباء والحرص على اتّباع الموروث وحماية التقاليد وغيرها من الصفات النبيلة والنموذجية. لكن خلال السنوات الأخيرة، جرى تجريفها وتفريغها من محتواها الشعبي الأصيل، لتصاب بأمراض مستعصية مثل الأنانية والخداع والنفاق واللا مبالاة والتواكل والحرص على المكسب المادي دون بذل جهد حقيقي، وغيرها من صور التردي والانفلات من المعايير الرصينة، وهو ما تصفه الدكتورة عزة عزت في كتابها "التحولات في الشخصية المصرية"، بسقوط الشخصية المصرية في هاوية "تكبير الدماغ" وإصابتها بمتلازمة "طنِّشْ تعِشْ تنتعشْ"، بمعنى الفردية وإيثار الذات وهدم أواصر الترابط والتلاحم مع الآخرين.
الإتقان ودور السياسة
ولكي يعود العمران المصري إلى ما كان عليه من مواكبة للحياة، وإجادة، وجمال، واحتواء لكيان الشخصية وملامح الهوية، فإن خالد عزب يرى في كتابه "العمران... فلسفة الحياة في الحضارة"، أن كلمة السرّ في أي فلسفة معمارية يجري العمل عليها تكمن في الإتقان. والإتقان هنا ليس مجرد صفة، بل هو منهج يقود إلى خلق قواعد لكل عمل وعلم وصنعة وحرفة، وإيجاد مقاييس دقيقة يجري وضعها وتتم مراقبتها بصرامة، لكيلا يحدث إهدار للجهد أو الوقت. ومن خلال منهج الإتقان، يمكن للإبداع أن يتفجر بطلاقة في كل مجالات الحياة، ويمكن للجمال أن يسم كل منتج في حضارة العمران.
وتبقى "السياسة" من أهم الأطر التي يجب أن يعمل من خلالها العمران، وهي التي يعرّفها خالد عزب بأنها "فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها"، وكذلك فقه العمران، وهو مجموعة القواعد المنظمة لحركة العمران، التي منها مثلاً حق المرور، وهو حق الإنسان في أن يصل إلى منزله، وينظم حركة النقل والتحرك في الشوارع والطرقات، وحق الجوار، وهو الذي ينظم علاقات الجوار في السكن، ويضبط الحقوق والواجبات المتبادلة. ومن خلال هذه الأطر جميعاً، وغيرها، تتشكل ملامح النهوض العمراني المتكامل، ومجالات عمله، وتتحدد سماته الملائمة للمجتمع الجديد، ويُستعاد الأمل في بلورة الشخصية المصرية الخاصة المميزة مرةً أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...