استمد الفاطميون شرعيتهم من نسبهم، ولم يكن لهم حاجة من الناس لاكتساب أي من مظاهر القداسة الخارجية، سواءً في حياتهم أو بعد مماتهم، لهذا فقد أقاموا مقابرهم داخل القاهرة المسورة "الملكية" في مقر إقامتهم بالقصور الزاهرة. أما الأيوبيون الذين اكتسبوا شرعيتهم من حروبهم على الصليبيين في الشرق الإسلامي، ومن إعادة مصر إلى الإسلام السني كذلك وإحياء الخلافة العباسية، لم يكن لديهم أي ادعاءات بالقدسية ولم يطالبوا بأي سلطة دينية، لذا فكان اختيارهم في الدفن تحت ظلال ضريح الإمام الشافعي.
أما المماليك، تلك النخبة العسكرية، فتلك الطريقة لم تعد مناسبة لطموحاتهم والتي كانت تبحث عن تخليد ذكراها من خلال إنشاء آثار معمارية ضخمة كمدافن لهم، وعقد أوقاف سخية لمنشآتهم لصيناتها ونقل الثروة عن طريقها لذريتهم.
كان المماليك يولون عناية خاصة لاختيار مرقدهم الأخير، وطريقة بنائه، التي يأملون عن طريقها تخليد اسمهم في التاريخ؛ فتلك المؤسسات الجنائزية التي كانوا يعملون عليها بشكل خاص على عكس القصر الذي يقيمون فيه بصورة مؤقتة، كانت تخضع لنمط خاص سواء في حياة السلطان أو بعد مماته.
فرض المماليك، أكثر مما فعلت أي جماعة أخرى، وبشكل استثنائي، حضورهم الجنائزي في واقع المدن المصرية والسورية كذلك. لا يمكن إرجاع تلك الهمينة لأسباب مادية فحسب، وإنما كذلك لمعنى فهمهم للحياة وفلسفتها، كما أنه كان لعامل التأثير البيئي والثقافي دور هام في حياتهم كعبيد سابقين جُلبوا من آفاق بعيدة، وتحولوا إلى حياة جديدة.
فرض المماليك، أكثر مما فعلت أي جماعة أخرى، وبشكل استثنائي، حضورهم الجنائزي في واقع المدن المصرية والسورية كذلك. لا يمكن إرجاع تلك الهمينة لأسباب مادية فحسب، وإنما كذلك لمعنى فهمهم للحياة وفلسفتها
عبرت تلك المؤسسات بشكل دقيق عن تلك الفلسفة في الحياة والملك، وبعيداً عن طقوس الجنازات، فإن الاهتمام الأكبر كان ينصب على المكان الذي سترقد فيه جثامينهم بانتظار يوم القيامة، بالإضافة إلى الأعمال الخيرية التي لحقت بهذا المكان؛ تلك الأعمال الخيرية التي ستنجيهم يوم الحساب.
المؤسسات الجنائزية حول مفهوم معبر
يستعمل لفظ العمارة الجنائزية للدلالة على منشآت معمارية قامت على أساس جنائزي، ترتكز تلك المنشآت على إقامة ضريح أو قبر لشخصية ما، في مكان خصص للدفن. كانت المؤسسات الجنائزية غالباً ما تتكون من ضريح ومدرسة لتعليم المذاهب الدينية أو خانقاة لإقامة الصوفية أو كتاب لتعليم الأيتام والأطفال، بالإضافة إلى سبيل مياه.
وهذا نوع خاص من العمارة يختلف وظيفياً عن أي نوع آخر من العمائر الدينية، كعمارة المساجد الجامعة مثلاً، حيث أن الأولى أقيمت في الأساس على قبة ضريحية دفن فيها السلطان أو الأمير، ماعدا ذلك فكل الملاحق تابعة لها مثل المدارس المذهبية أو الخانقاوات التي تقام عليها، فقد أقيمت تلك الملاحق لخدمة الضريح وصاحبه من الناحية الروحية بالتأكيد، كنوع من أنواع الأعمال الخيرية التي تسهل عملية الحساب في الآخرة وتضمن الدخول إلى الجنة، أما العمائر الدينية الأخرى كالمساجد فهي قائمة بذاتها تقوم بوظيفة مثل الصلاة مثلاً فقط.
وبالتالي فعمارة المنشأة الجنائزية تُطوَع لخدمة الضريح أولاً وأخيراً، لذلك فإن تخطيط المبنى يهُيَّأ ويُعد إعداداً كاملاً لتلك الغاية والهدف. وبالتالي فإن التحدي يكمن في أن يكون الضريح هو من يتصدر المشهد، ولا شيء آخر. بعيداً عن كل ملحقات المنشأة، فإن القبة الضريحية هي العنصر الرئيسي الذي يجب أن يكون على الشارع الرئيسي والمركزي في المدينة.
القبة الضريحية ألا تتوارى؟
في الشارع الأعظم المركزي الذي بنيت عليه القاهرة، شارع المعز لدين الله الفاطمي بمسماه الحديث وشارع بين القصرين بمسماه التراثي، تتحقق تلك الفلسفة بشكل أساسي. بدأت تلك السياسية بشكل فعلي مع ضريح الملك الصالح نجم الدين أيوب في القاهرة. هذا الضريح الذي أقامته زوجة الملك، شجر الدر، وهي من المماليك أيضاً تخليداً له بعد وفاته.
كان للملك الصالح دلالة روحية على المماليك، فهو الأب الروحي لهم، والمؤسس الفعلي لملكهم وسلطتهم في الدولة، فلقد اعتنى بالإكثار من شراء المماليك الأتراك والتركمان والأرمن والجركس في جيشه عندما استلم زمام الأمور بالديار المصرية، فأصبحوا إحدى تشكيلات الجيش الجديدة.
أقيم ضريح الملك الصالح وسط شارع بين القصرين، بشكل مركزي، وألحقت به مدرسة في الجوار، لكن الضريح يتصدر المشهد، فهو الصورة الرئيسية والعامة للمنشأة الخاصة به، التف حوله السلاطين أتباعه، كونه القائد والملهم لهم، فهذا ركن الدين بيبرس البندقداري أقام مدرسته بجانبه، وكذلك أقام المنصور قلاوون مجموعته المميزة قبالته.
ضريح الصالح نجم الدين أيوب
لكن ثمة ملاحظة هنا؛ فعلى طول خط بين القصرين، لا نكاد نلحظ من تلك المنشآت المعمارية الكثيرة إلا القباب الضريحية، فهي تشكل الخيط الرئيسي فيها، ابتداءً من قبة المنصور قلاوون الضخمة التي ألحقت بها العديد من المنشآت الخدمية والروحية، كالمدرسة والبيمارستان "المستشفى"، الذي وضعت قبته على الشارع الرئيسي وفتح فيها العديد من الشبابيك الواسعة.
ضريح وقبة المنصور قلاوون، شارع المعز لدين الله الفاطمي
ثم على جانبه قبة ابنه الناصر محمد، تلتها أيضاً منشأة ضخمة للظاهر برقوق، عمل على تكريسها في خدمة المتصوفة والفقراء، بقبة ضريحية لا نكاد نلحظها من الداخل، لكنها ترتكز على رأس الطريق من الخارج. هذا الشارع كان حكراً على السلاطين فقط، فلا ينافسهم في هذا الشارع المكتظ بالسكان أحد من الأمراء الصغار.
ضريح ومدرسة الناصر محمد بن قلاوون، شارع المعز لدين الله الفاطمي
أما شارع الصليبة في القاهرة أحد أقدم شوارع القاهرة بمفهومها العام، فكان السباق فيه بين الأمراء، وهو الخط الذي يهبط بانحدار من القلعة مركز الحكم وميدانها المسمى بميدان الرميلة، حتى قناطر السباع على القناة، ثم خلفها إلى النيل وجزيرة الروضة التي كانت تشكل ثقلاً سياسياً هاماً أيضاً في عصر المماليك.
يتقاطع هذا الشارع أيضاً مع محور الشارع الأعظم عند نقطة سبيل أم عباس، امتداداً إلى ميدان السيدة نفيسة، ثم هو أيضاً يحاذي جامع أحمد بن طولون أكبر مساجد القاهرة، حتى تلة الكبش وبركة الفيل.
كان الأمير المملوكي، يضع في حسبانه أن يحاط وصولاً إلى يوم القيامة بأولاده بناتاً وصبياناً، يرافقهم أحياناً محظية تزوجها، وينضم إليهم كذلك في بعض الحالات أفراد عائلة حليفة من الفقهاء أو ناظرو الدواوين
ذلك المسار الهام والذي كانت تسلكه المواكب في الاحتفالات التي ارتبطت بارتفاع منسوب النيل وفتح القناطر، باعتباره مركزاً هاماً ومفضلاً لدى تلك النخبة العسكرية، كان مسرحاً كبيراً عبّر بشكل كبير عن تلك الفلسفة الخاصة بعمائر المماليك الجنائزية.
هناك على تلك الربوة الصخرية العالية، أقيم أول بناء أميري في هذا الشارع، يتكون من ضريحين متلاصقين مع خانقاه للمتصوفة ومدرسة أيضاً، ألحق بهما مكان للعباد والتعليم وأماكن نوم للدارسين المقيمين. هذا البناء ينتمي إلى شقيقي السلاح المتلازمين الأميرين سلار وسنجر.
قبتي سلار وسنجر، قلعة الكبش
في شارع مزدحم وهام كهذا، لا يجب أن يفوت صاحب تلك المنشأة الفخمة، فرصة وضع القبتين على الشارع الرئيسي بشكل مميز، حتى يكون لهما النصيب الأكبر من دعاء العامة بعد مماتهما وتخليد ذكراهما، حتى لو كلفه هذا حيلة معمارية جعلت من شكل المبنى غريباً بمدخل منكسر صعب.
يكفي السير في شارع الصليبة ابتداءً من تلك المنشأة، لكي ندرك مدى استمرارية هذا المبدأ الذي تم اقتباسه من العمارة السلجوقية عبر البيت الأيوبي، والذي نال دعماً مستمراً وطويلاً على طول خط تاريخ المماليك بالرغم من تعدد الطرز المعمارية.
ففي الجوار تبرز قبة الأمير صرغتمش أحد أمراء السلطان الناصر محمد بن قلاوون أيضاً والتي تشكلاً جزءاً رئيسياً للمدرسة بشكل ملحوظ على قارعة الطريق، منحياً كل عناصر المدرسة المعمارية جانباً ومركزاً بشكل أساسي عليها، كذلك فمسجد الأمير شيخو الذي احتضن تبرز تربته بشكل رئيسي على نفس الخط، مروراً بمدرسة صغيرة للأمير قانيباي الناصري وضريحاً للأمير تغري بردي.
قبة الأمير صرغتمش شارع الصليبة تصوير كريزول، متحف فيكتوريا وألبرت
منشآت الأمراء التي لا تزال حتى اليوم تزين خط الصليبة لم تكن فقط مساهمة منهم لخير الصالح العام، بل استقبلت جثامينهم ومجدت ذكرهم.
وصولاً إلى ميدان الرميلة عند القلعة، ورؤية رمز العمارة المملوكية الأكبر، مدرسة السلطان حسن، هنا في تلك المدرسة الضخمة، تحدى السلطان فتاوى العلماء التي كانت تشدد على عدم إقامة القبة الضريحية أمام المحراب، فخالفهم وأقامها أمام المحراب لتحقيق نفس الغرض المأمول، أن تكون على شارع رئيسي بل هنا على أحد أشهر الميادين في القاهرة المملوكية.
كيف كان يفكر الأمير المملوكي؟
كان الأمير المملوكي، يضع في حسبانه أن يحاط وصولاً إلى يوم القيامة بأولاده بناتاً وصبياناً، يرافقهم أحياناً محظية تزوجها، وينضم إليهم كذلك في بعض الحالات أفراد عائلة حليفة من الفقهاء أو ناظرو الدواوين.
تلك الحالة التي يصنعها لنفسه كانت عوضاً له عن حالة الغربة التي عاشها على تلك الأرض التي ينعزل وينفصل عن هويتها وأمتها. كان يحيط نفسه بتلك الصحبة التي تعوضه عن الوحدة، فتلك النخبة العسكرية حتى وإن حكمت مصر والشام كانت تنعزل عنها، فكان هذا التراب الذي دفنوا فيه والذي يرشد إلى ضريح يقيمونه، هو شهادة الإثبات الوحيدة على كونهم من أصلاء البلد.
مشاهد تعلقت بالضريح
كان الأمير يعد لوفاته بتوظيف قراء دائمين لتلاوة القرآن بشكل مستمر طوال اليوم، حيث يتم توظيف أهم المقرئين ليرتلوا بجانب قبره أو أمام نافذة الضريح، على نحو يتيح للمارة أيضاً أن يفيدوا من التلاوة المستمرة.
فتوظيف قراء للقرآن مثله مثل أي عمل خيري يلحق بالضريح، كتعليم الأيتام في الكتاتيب الملحقة أو أسبلة المياه التي كانت توفر الماء للمارة، أو بيمارستان يعالج به المرضى، كل تلك الأعمال الصالحة كانت تهدف في النهاية إلى إثقال صحيفة أفعال الملك يوم القيامة.
عند ضريح سودون من زاده، كان يوجد أربعة وعشرون مقرئاً. أيضاً تنقل المصادر عن تناوب المقرئين بشكل دائم على قبة المنصور قلاوون ليلاً ونهاراً.
لا تتوقف قراءة القرآن للمتوفى على هذا فحسب، بل كان يوقف أيضاً قراء له يقرأون القرآن على روحه بشكل مستمر في الحرم المكي أيضاً، وخصصت لهم مرتبات من أواقف تلك المنشآت.
التراب الذي دفنوا فيه والذي يرشد إلى ضريح يقيمونه، هو شهادة الإثبات الوحيدة على كونهم من أصلاء البلد
الثواب الذي يرجوه أمير من وقف تلاوات قرآنية على قبره، ليس حكراً عليه، بل كان يخطط لتقاسمه مع ذريته ومع كافة المسلمين، وأحياناً مع السلطان الحاكم أيضاً؛ فمثلاً نجد أن الأمير أسنبغا الطياري ورغم العدد المتواضع للمقرئين الذين قاموا على ضريحه، يضع في وقفيته قائمة طويلة من الذين يرجو ثواب تلك القراءة لهم، حيث يقول: "سيعود ثوابها لمولانا السلطان الأشرف برسباي وذريته للمنشئ وأبنائه وعتقائه وزوجاته ولمعتقه المرحوم جناب الناصري محمد بن الزيني رجب ولأمه وذريتها".
انطلاقاً من ذلك، فإن الهدف الرئيسي لإقامة تلك المنشآت الجنائزية هو حركة سياسية قبل كل شيء، وهي تخليد اسم السلطان أو الأمير، وترديد ذكره الدائم على ألسنة الناس، لكن في بعض الأحيان كانت تفشل تلك المحاولة، فعلى سبيل المثال، بعد وفاة الأمير قوصون خرج الناس على مجموعته الجنائزية بقرافة سيدي جلال الدين السيوطي فهدموها، ولا زالت بقاياها تشهد بالعداوة التي خلقها مع الناس، بالاستبداد والظلم.
الحرص على الدفن في المثوى الأخير
بسبب الطبيعة الاجتماعية لتلك النخبة، وتقلباتهم العسكرية الكثيرة، فكثيرٌ منهم كان يموت بشكل فجائي أو في بلد مختلف بسبب الخلافات السياسية الكثيرة بينهم، لذلك كانوا يوصون حتى بعد مماتهم أن يدفنوا في تلك الأماكن التي أعدت خصيصاً لتلك الغاية، حتى نجد أن رفات بعض الأمراء تنقل أحياناً إلى أماكن أخرى بعد عدة سنين من دفنها أول مرة يوم الوفاة.
فتنقل المصادر التي تتحدث عن الأمير حسام الدين طرنطاي الذي سجنه الأشرف خليل وعذبه حتى مات، ثم دفن سراً في القرافة حتى لا تقوم عليه قائمة، أن أعيد له الاعتبار مرة أخرى بعد مرور أربع سنوات على يد زميله في السلاح الذي تسلطن لاحقاً وهو كتبغا، حيث نقل رفاته إلى مدرسته التي أنشأها داخل القاهرة.
حدث هذا الأمر كذلك مع الأمير تنكز الأشرفي الذي توفي في دمشق عندما كان نائباً لها، ودفن مؤقتاً في ضريح أحد أسلافه، إلا أنه وبعد أربعة أشهر أخرجت زوجته جثته من التراب وأخذتها معها إلى القاهرة لتدفنها في مكان مخصص لذلك.
هذا الحرص الدائم والمستمر كان يهدف في النهاية إلى تحقيق الغاية المثلى من إنشاء تلك المؤسسات الجنائزية وهو تخليد ذكر اسم الأمير والسلطان بين الناس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه