فشلت كل الفتاوى التي حرّمت زيارة القبور في يوم العيد أن تمنعني من زيارة قبر والدي بانتظام لمدة 23 عاماً مضت، مثل مئات الناس، أرى العيد فرصة لمشاركة الأحباء الراحلين مظاهر احتفال خاصّة بطعم حزين خفي، لا يعكر صفوها سوى محترفي كسب الرزق من مجاورة الموتى، وفرض عليهم الفقر استثمار الحزن بل ومغازلته من أجل المزيد من الجنيهات القليلة، بالتسوّل أو قراءة بعض آيات القرآن، ويصل الأمر لسرقة متعلّقات القبر، بعد أن تحوّلت عندهم صرخات أهل الميت وأدعية الرحمة وطلب المغفرة لنفير انطلاق جولة صيد سريعة.
"متصورنيش عيالي كبار في الجامعة هيشفوني"
انتظرت انتهاء صلاة العيد ولم أستمع إلى الخطبة التي لم يتغير محتواها طوال أربعة عقود من الزمن، استمعت فيهم لقصص الرضوخ لأمر الله تعالى وبرّ الوالدين وشروط الأضاحي، وأسرعت لزيارة والدي، وفعلاً نجحت خطتي في تجنّب بعض الزحام، ولكن يبدو أن الفكرة راودت آخرين مثلي، وسقطت جلستي فريسة لاجترار الأحزان وهجوم سيل من الذكريات الضائعة. عزمت على المغادرة سريعاً والهروب من ثقل الافتقاد الدامي، ولكن على بعد خطوة واحدة اهتزّ قلبي وغلبني الشوق، فقرّرت أن التقط بعض الصور للقبر.
سيطرت على المقابر حالة من الفوضى الشديدة والتدافع بعد دخول سيارة يتخطى سعرها المليون جنيه، يوزّع راكبيها أكياس صغيرة من اللحم، لتغلبني الدموع بعد سقوط الرجل المسنّ وسحقه بالأقدام في رحلته لكيس "اللحمة"
"إلحقوا الأستاذ بيصورنا"
"والنبي يا حبيبي متصورناش. بلاش نظهر. أنا عيالي في الجامعة كبار مش عايزاهم يشوفوني".
"جنازة؟ يا مانت كريم يا رب"
"العيدية وغلاوة اللي ميّتلك"
سؤال استطاع أن يوجّه لي صدمة قوية ويجعلني أشرد من جديد بدون ردّ، وأفكر في موجة الغلاء السوداء التي احتلت أسواق مصر لأول مرة من أكثر من قرن من الزمن، فالأسعار تحرّكت خلال عامين لأكثر من ضعفين إلى أربع أضعاف في كل السلع الأساسية، مع ثبات مميت للأجور، وأنظر لحالي وأنا أعمل 16 ساعة يومياً لضمان الحد الأدنى من الحياة، وألجأ للحوم المجمّدة التي تقارب نصف السعر الذي ذكره "المسنّ".
فرض عليهم الفقر استثمار الحزن بل ومغازلته من أجل المزيد من الجنيهات القليلة، بالتسوّل أو قراءة بعض آيات القرآن، ويصل الأمر لسرقة متعلّقات القبر، بعد أن تحوّلت عندهم صرخات أهل الميت وأدعية الرحمة وطلب المغفرة لنفير انطلاق جولة صيد سريعة
"في واحد بيوزع لحمة"
بدت الشمس واضحة في كبد السماء وهاجم الحرّ العديد من الأولاد الفرحين بالعيد بعد أن احتضنت جيوبهم العيدية، يفكرون بطرق الاستمتاع بها في ظل جهلهم بباب رزق الأب، فهل صادق الموت ليجد للحياة باباً، ويمهّد طريقاً لمستقبل أولاده، لينفّذوا كلمات خطبة عيد الأضحى، وبرّ الوالدين ويتجاهلوا فتاوى التحريم ويسرقوا ساعات العيد الأولى ليضعوها بين يدي الأب في قبره؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون