شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
عيد برائحة الفقر... متسوّلو لقمة العيش بين الأموات

عيد برائحة الفقر... متسوّلو لقمة العيش بين الأموات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والفئات المهمشة

الأربعاء 5 يوليو 202311:18 ص

فشلت كل الفتاوى التي حرّمت زيارة القبور في يوم العيد أن تمنعني من زيارة قبر والدي بانتظام لمدة 23 عاماً مضت، مثل مئات الناس، أرى العيد فرصة لمشاركة الأحباء الراحلين مظاهر احتفال خاصّة بطعم حزين خفي، لا يعكر صفوها سوى محترفي كسب الرزق من مجاورة الموتى، وفرض عليهم الفقر استثمار الحزن بل ومغازلته من أجل المزيد من الجنيهات القليلة، بالتسوّل أو قراءة بعض آيات القرآن، ويصل الأمر لسرقة متعلّقات القبر، بعد أن تحوّلت عندهم صرخات أهل الميت وأدعية الرحمة وطلب المغفرة لنفير انطلاق جولة صيد سريعة.

"متصورنيش عيالي كبار في الجامعة هيشفوني"

انتظرت انتهاء صلاة العيد ولم أستمع إلى الخطبة التي لم يتغير محتواها طوال أربعة عقود من الزمن، استمعت فيهم لقصص الرضوخ لأمر الله تعالى وبرّ الوالدين وشروط الأضاحي، وأسرعت لزيارة والدي، وفعلاً نجحت خطتي في تجنّب بعض الزحام، ولكن يبدو أن الفكرة راودت آخرين مثلي، وسقطت جلستي فريسة لاجترار الأحزان وهجوم سيل من الذكريات الضائعة. عزمت على المغادرة سريعاً والهروب من ثقل الافتقاد الدامي، ولكن على بعد خطوة واحدة اهتزّ قلبي وغلبني الشوق، فقرّرت أن التقط بعض الصور للقبر.

سيطرت على المقابر حالة من الفوضى الشديدة والتدافع بعد دخول سيارة يتخطى سعرها المليون جنيه، يوزّع راكبيها أكياس صغيرة من اللحم، لتغلبني الدموع بعد سقوط الرجل المسنّ وسحقه بالأقدام في رحلته لكيس "اللحمة"

"إلحقوا الأستاذ بيصورنا"

"والنبي يا حبيبي متصورناش. بلاش نظهر. أنا عيالي في الجامعة كبار مش عايزاهم يشوفوني".

جمل سرقتني من أفكاري المتشابكة لأرى أمامي ثلاث سيدات بالزي التقليدي الأسود ورجل رثّ الثياب، يبدو أنه الفوج الأول من هجوم المتسوّلين، أعادت إحدى السيدات نفس الجملة وهي تقترب مني بنظرة توسّل وصوت ضعيف، لأؤكد لها أنني لم أتعمّد تصويرها، وبعد أن اطمأنت، صنعت الكلمات لحظات صداقة قصيرة بيننا.
"معلش يا ابني جوزي كان على باب الله والموت خطفه وعندي أربع عرايس، تلاته منهم في الجامعة، وكان لازم أربيهم، وزي مانت عارف الدنيا ضيقة ومفيش فلوس، بس بلاقي ولاد الحلال زيك هنا ورزق ربنا كتير، شوفلي حاجه ربنا يرحم أمواتك".

"جنازة؟  يا مانت كريم يا رب"

لحظة دخول يدي في جيبي شاهدت التفاف الأربعة حولي مع كلمات الدعاء، وفجأة انطلق من إحداهن صوت: "ألحقوا جنازة، ياالله بسرعة".
لترد أخرى: "الحمد لله. يا مانت كريم يا رب، الفرج من عندك. ابعت كمان".
التفت لأجد أعداد المتسولين زادت عن إمكانية العد السريع، ليغرق المشيّعون وسطهم، ولكن أذني انتبهت لصوت الرجل رثّ الثياب وهو يتلو بصوت ضعيف الآيات الأولى من "سورة يس" في خشوع سريع زائف، وأجد نفسي للمرة الثانية أضع في يديه جنيهات بسيطة، ما إن لامست أصابعه وشاهدها بشكل خاطف، حتى صرخ بسرعة: "صدق الله العظيم"، وهو يسابق البصر لينضم لصفوف الباحثين عن الرزق بين أهل المتوفي.

"العيدية وغلاوة اللي ميّتلك"

مزيج غامض من الخوف والرهبة والدهشة منع أقدامي من التحرّك، وفرض ابتسامة ساخرة حزينة على شفتي منعت دموعاً غافلتني من استكمال رحلتها، لأرى كيف خلق الفقر باباً للرزق وسط الموت، وكيف تنوّعت الحيل، ليظهر مشهد جديد في زيارة القبور الحرام، وتضيع خطتي لتجنب الهجوم الممنهج لطالبي الرزق.
"العيدية يا بيه وغلاوة اللي ميّتلك"، كلمات تضافرت مع لمسة على كتفي لتنقلني لفضاء جديد مع رجل تخطّى السبعين من عمره، وأظهر إلحاحاً متعمداً، ولم يكتف بتأكيدي على نفاذ "الفكة"، ولكنه أصر ليحصل على مبتغاه: "العيدية فلوس مجمدة"، يتطور الأمر سريعاً ويسألني: "هتدبح الساعة كام يا بني، والنبي نفسي في كيلو لحمة دا وصلت 400 جنيه؟".

 سؤال استطاع أن يوجّه لي صدمة قوية ويجعلني أشرد من جديد بدون ردّ، وأفكر في موجة الغلاء السوداء التي احتلت أسواق مصر لأول مرة من أكثر من قرن من الزمن، فالأسعار تحرّكت خلال عامين لأكثر من ضعفين إلى أربع أضعاف في كل السلع الأساسية، مع ثبات مميت للأجور، وأنظر لحالي وأنا أعمل 16 ساعة يومياً لضمان الحد الأدنى من الحياة، وألجأ للحوم المجمّدة التي تقارب نصف السعر الذي ذكره "المسنّ".

فرض عليهم الفقر استثمار الحزن بل ومغازلته من أجل المزيد من الجنيهات القليلة، بالتسوّل أو قراءة بعض آيات القرآن، ويصل الأمر لسرقة متعلّقات القبر، بعد أن تحوّلت عندهم صرخات أهل الميت وأدعية الرحمة وطلب المغفرة لنفير انطلاق جولة صيد سريعة

"في واحد بيوزع لحمة"

سيطرت على المقابر حالة من الفوضى الشديدة والتدافع بعد دخول سيارة يتخطى سعرها المليون جنيه، يوزّع راكبيها أكياس صغيرة من اللحم، لتغلبني الدموع بعد سقوط الرجل المسنّ وسحقه بالأقدام في رحلته لكيس "اللحمة"، واحتلّت الكدمات وجهه، ووجدت نفسي وسط الزحام لإنقاذ الرجل. غادرت السيارة سريعاً وانفضّ الجمع بعد توزيع الغنائم، مددت يدي لمساعدة العجوز على القيام، فاصطدمت بوجهه سعيداً: "الحمد لله خدت كيسين لحمة، تاخد واحد؟"، ارتعشت كل جوارحي من عرضه القاتل لي، فأنا ابن الأستاذ فلان وسليل عائلة كبيرة، ووظيفتي كذا وكذا. تسارعت خطواتي للهرب من شبح الموت القاتل الجاسمة على عقلي، هل أنا حقاً...؟

بدت الشمس واضحة في كبد السماء وهاجم الحرّ العديد من الأولاد الفرحين بالعيد بعد أن احتضنت جيوبهم العيدية، يفكرون بطرق الاستمتاع بها في ظل جهلهم بباب رزق الأب، فهل صادق الموت ليجد للحياة باباً، ويمهّد طريقاً لمستقبل أولاده، لينفّذوا كلمات خطبة عيد الأضحى، وبرّ الوالدين ويتجاهلوا فتاوى التحريم ويسرقوا ساعات العيد الأولى ليضعوها بين يدي الأب في قبره؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نؤمن في رصيف22، بأن بلادنا لا يمكن أن تصبح بلاداً فيها عدالة ومساواة وكرامة، إن لم نفكر في كل فئة ومجموعة فيها، وأنها تستحق الحياة. لا تكونوا زوّاراً عاديين، وساهموا معنا في مهمتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image