شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
عن الفقر الذي سرق عمري

عن الفقر الذي سرق عمري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 19 أكتوبر 202203:42 م

تبدو الكتابة عن الفقر أشبه بـ"وصف ديستوبي متكرر"، لواقع يعيشه الملايين، منذ أن وطئت أقدام أول إنسان أرض هذا الكوكب التعيس. فالفقراء هم "الحزب البشري الأكبر"، الذي لا صوت ولا وزن له، ولا يخافه أحد، الحزب الذي يُدفن أعضاؤه في قبور الخرافة والدروشة، ويتعامل زهاده الأوفياء معه كـ"فضيلة"، مهما بلغت درجة سواده، ويضعونه في خانة "الحكمة الربانية"، والامتحان الأبدي لمعدن الإنسان، وقوة صبره وتحمله في سبيل جنة موعودة، وانتظار عدالة لا تأتي. 

ربما لا أعاني من "عوز الكرامة"، أو "فاقة الكبرياء". لكنني لم أكن لسنوات طويلة محصناً أبداً من شعور عميق بخزيِ الفقر. فلطالما رافقني كظل يلتصق بي، كصديق غير مرغوب فيه، ولم أختره. حتى أنني كدت أتعود على وجوده. لا زلت أذكر دائماً، نظرات الأسى في عيون والديّ، وهم يجيبون بالصمت والتجاهل العاجز أمام إلحاحنا أنا وإخوتي على شراء لعبة أو ملابس جديدة أو طلب "خرجية" العيد.

ولا تغيب عني صورة أبي المتهالك، الذي يعمل ليل نهار، بين وظيفته وعمله كسائق تاكسي، لتأمين حاجاتنا اليومية، كي لا نمد أيدينا لأحد. وأمي التي كانت تقطع كل صيف أميالاً من كروم اللوز لـ"تعفّر" حبات اللوز اليتيمة عن الأشجار، بعد جني المحصول، ثم تعمد إلى تشميسها وتكسيرها وبيعها لتغطي جزءاً من مصاريف بداية كل عام دراسي.

عندما ضربني أبي قهراً، لأنني طلبت منه 200 ليرة للذهاب إلى الجامعة. قبّلت يد والدي يومها، ولعنت "أبو سنسفيل الفقر

أتذكر أيضاً، قطعة النقود الحجرية من فئة 25 ليرة، التي كنت أدسّها في جيبي كحِرزٍ ثمين، والتي كانت عبارةً عن مصروف طريق في أثناء الذهاب إلى المدرسة والعودة منها لمدة يومين. وعندما ضربني أبي قهراً، لأنني طلبت منه 200 ليرة للذهاب إلى الجامعة. قبّلت يد والدي يومها، ولعنت "أبو سنسفيل الفقر". وعندما اضطرت أمي إلى بيع "رأس الغاز" وكرسي البلاستيك المكسور لبائع الألمينوم الذي مر بالمصادفة، لتؤمّن لي أجرة الطريق.

أو ذلك الحذاء الأسود الذي مشى بي ومشيت به، أربع سنوات دراسية كاملة حتى دخولي الجامعة، لأن أبي ببساطة لم يكن في مقدوره أن يشتري لي حذاءً جديداً. كنت أتباهى بحذاء البالة الإيطالي ذاك، وأصف متانته وجودته، محاولاً إخفاء عجزي عن استبداله. كانت تلك طريقة الادعاء ذاتها، التي كانت أمي تحاول من خلالها تجميل واقعنا البائس، فتتفنن في وصف فوائد أكلة المجدرة مثلاً، بوصف البرغل بـ"مسامير الركب"، أو في تدبيج المديح لطعم "الجظمظ" اللذيذ، بسبب غياب اللحم الدائم عن قائمة طعامنا اليومي.

بالنسبة إلى بعض العائلات، كان النجاح والقبول الجامعي لولدهم أو ابنتهم مناسبةً سعيدةً ومدعاةً للفخر. بالنسبة لعائلتي المتواضعة مادياً، كان يوم قبولي في أحد أقسام كلية الآداب، يوم بؤس ونكد عظيم. حينها، اضطرت والدتي إلى عمل جمعية بمبلغ 5،000 ليرة، للتمكن من التسجيل ودفع قيمة الكتب والمُقررات. كانت كل ليرة أصرفها من تلك الثروة البسيطة التافهة، في أثناء إقامتي في العاصمة، تشعرني بحرقة لئيمة في الحلق، وشعورٍ عظيم بالذنب. وكأني كنت أسحب اللقمة من فم إخوتي.

عشت كغيري من أصحاب "الجيوب الفارغة" دائماً، في "سوق البشر" هذا، الذي يُباع ويُشترى ويُستغل فيه الإنسان كأي سلعة، كعبدٍ مهمشٍ، وكائن غير مرئي.

سرعان ما تغلّب علي ذلك الإحساس القاتل. توقفت عن الدراسة لمدة عامين كاملين للمساهمة في إعالة أهلي، وعملت "عتالاً" في سوق الهال، وعاملاً في تقشير البطاطا في مطعم شعبي، وأجيراً في مكتب عقاري، ثم عاملاً ليلياً في معمل للمحارم. كنت أخرج عند الظهيرة، لأعود في آخر الليل منهكاً، ومحطماً فأنام نوم القتيل. ولكن، كان يملأني شعور عظيم بالرضا، عندما كنت أعطي والدتي مبلغاً بسيطاً يساهم ولو قليلاً في مصروفنا اليومي.

في المقابل، كنت أحسّ بوطأة الفقر المادي الذي يُحدد مكانة الشخص بما يمتلكه من الأرصدة البنكية، والماركات التي يرتديها، والسيارة الفارهة التي يقتينها، والبيت الـ"سوبر ديلوكس" الذي يقطنه، لأن "اللي معو قرش بيسوى قرش"، بعيداً عن أي قيمة معنوية تُعدّ في إطار التنظير الفارغ. لذلك، عشت كغيري من أصحاب "الجيوب الفارغة" دائماً، في "سوق البشر" هذا، الذي يُباع ويُشترى ويُستغل فيه الإنسان كأي سلعة، كعبدٍ مهمشٍ، وكائن غير مرئي.

ضروب الفقر التي عشتها، وصور البؤس التي عرفتها، قد تكون تفاصيل صغيرةً بما يمكن أن يقاسيه آخرون. ربما تُعدّ "قدراً أحمق"، وواقعاً مأساوياً، فنحن حُكماً، ضحايا هذا الجور البشري المستمر منذ الأزل؛ نرثه، ولا نصنعه بقدر ما يصنعنا.

فالفقر، سُلَمٌ بدرجات نحو الأسفل، يقود إلى وجهة واحدة هي الهاوية، ومقدمة طبيعية لخراب روحي ونفسي أشد وطأةً، وفاتحة منطقية لعوز أخلاقي أخطر. والفقر دائماً، وجش كاسر بأسنان ومخالب غير مرئية تنهش الروح والقلب معاً. يورث الخجل والإحساس بالدونية، والمَسكنة المرتبطة بسؤال الناس، و"السؤال لغير الله مذلة"، كما يُقال. وهو كذلك، كحبوب الجرب التي تلتصق ببشرتك، وكأنه علامة مميزة قبيحة. لذا تلاحق كل فقير مفردة "جربان".

الفقر لا يمتلك قناعاً ليستر نفسه به، بقدر ما هو "قميصٌ من نار" يجعل من صاحبه "منتوفاً" حتى العظم. حتى الفقير الذي يطمح لما ليس في يده، أو مرتبته، يعترضه مثل اجتماعي ساخر يقول: "فقير وزبّو كبير"

والفقر لا يمتلك قناعاً ليستر نفسه به، بقدر ما هو "قميصٌ من نار" يجعل من صاحبه "منتوفاً" حتى العظم. حتى الفقير الذي يطمح لما ليس في يده، أو مرتبته، يعترضه مثل اجتماعي ساخر يقول: "فقير وزبّو كبير"، أو تُستخدم عبارة "فقير" أو درويش لتفسير جهل وسذاجة أحدهم. أو تأتي بمعنى "غشيم"، وهو الشخص الذي لا يمتلك الذكاء الكافي للتعامل مع المواقف التي يواجهها.

الطفر، وهو معادل العوز، ذكرى أبدية تترك ندوباً عميقةً لا تُمحى في الروح. عشته بأدق تفاصيله المؤلمة والطريفة في آن. فلطالما طويت الليالي على معدة خاوية، أو غيّرت طريقي إلى البيت خشية مطالبة الدائنين. أو استبدلت وسائل النقل بـ"الموتو رجل"، لأنني كنت عـ"الحديدة"، و"عايف التنكة"، من شدة الإفلاس.

طفرٌ تجرعتُ مرارته حتى أني لا أنساه، أراه يومياً في وجه طفلٍ منكسر يبيع الدخان أو علب المحارم عند إشارات المرور، أو سيدة تجلس على قارعة الطريق تتسول قوت يومها. هو عمري الذي لم أعشه، والذي استهلكته ولا أزال في صراع بطولي عبثي، لتأمين حاجاتي الأولى كالبهائم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image