استعرضنا في المقالين السابقين كيف مهدت طريقة إدارة المماليك لأحوال البلاد، ويسّر استغراقهم في اكتناز الثروات والاقتتال على الكراسي لنجاح العثمانيين في الاستيلاء على مصر. كما رأينا من خلال الوثائق التاريخية التي أرَّخت لحكمهم، كيف اتبع العثمانيون وهم الحكام الجدد الذين استظلوا بسلطة "الخلافة"، منهج المماليك نفسه في الإدارة الاقتصادية والسياسية، بل واستعانوا بالمماليك أنفسهم كمباشرين لإنفاذ سلطة الحكام الجدد على الأراضي المصرية، مما قاد إلى تكرار الفشل الاقتصادي نفسه والإسهام في مزيد من التراجع في وقت يترصد فيه طامحون آخرون على الطرف الشمالي الغربي من المتوسط.
عندما نبدأ في دراسة تاريخ مجتمع ما وتطوراته وفقاً لمناهج البحث التاريخي، فنحن نحاول نقل صورة عن واقع ذلك المجتمع في الماضي إلى الوعي الحاضر، من خلال رصد لحظات ازدهار هذا المجتمع وتتبع عوامل انهياره، مع الإلمام بالسياقات التاريخية والتأثيرات المحيطة جغرافياً؛ ذلك أن قراءة الأحداث التاريخية بشكل منفصل عن طبيعة أنماط الإنتاج والتشكيلات الاجتماعية والقوى السياسية الحاضرة في وقتها، ينافي الرؤية العلمية للتاريخ، وهو ما يجعلنا حبيسين في ثنائية الغزو والفتح التي تفتح المجال لمعارك تاريخية خاوية، لا تضيف لواقعنا إلا مزيداً من الاستقطاب، بقدر ما تجعل مجتمعاتنا خارج سياقات التاريخ والعلم.
سياسات الاحتكار والاكتناز وتخفيض قيمة العملة والإنفاق الطرفي (على تطوير المدينة بشكل خاص) التي تتبعها تلك النخب التي ورثت الذهنية المملوكية والبنية العسكرية للحكم، منعت المجتمع المصري ولا تزال تمنعه من تطوير وسائل الإنتاج بشكل ديناميكي
وعليه لا يمكن أن يكون الغزو العثماني لمصر مطلع القرن السادس عشر أو الغزو الفرنسي نهاية القرن الثامن عشر محض صدفة تاريخية أو تلبية لرغبة شخصية خاصة لسليم الأول أو نابليون بونابارت، فـالتاريخ لا يصنعه الأبطال بشكل فردي وإنما حضورهم في التاريخ هو تجسيد لمتغيرات اجتماعية واقتصادية هم في القلب منها؛ وهنا تحديداً يتبلور السؤال التاريخي الجيد الذي يستهدف رفع الحجاب عن أسباب موضوعية، اجتماعية أو اقتصادية، دفعت الأحداث التاريخية دفعاً نحو ذلك الغزو باعتباره عملاً سياسياً من الأساس، أو تلك الحملة باعتبارها عملاً اقتصادياً في المقام الأول.
الخروج من العصور الوسطى؟
أتى العجز عن صد هذا الغزو العثماني أو تلك الحملة العسكرية الفرنسية نتيجة سقوط مصر في بئر سحيقة من التردي الاجتماعي والتفكك الاقتصادي أدى كلاهما إلى انهيار عسكري، وهو ما يعكس حال النخب الحاكمة في مصر التي تمركزت حول نفسها عاجزة عن مجاراة التغييرات التاريخية ومواجهة التحديات الداخلية، بل وعجز المجتمع المصري عن إنتاج نخب سياسية جديدة، بعد أن قطع الغزو العثماني السُبل أمام التحولات الاجتماعية التي كانت آخذة في التبلور نتيجة تحلل النظام المملوكي، والتي كان يمكن أن تُنتج مسارات آمنة للخروج من الأزمة التاريخية والانفكاك من العصور الوسيطة.
أدرك بونابارت الأبعاد الدينية التي شكلت شرعية العثمانيين في حكمهم لمصر، ولم يكن راغباً أن تظهر غزوته تلك باعتبارها اعتداءً على حقوق "الخليفة" العثماني، فبات يعمل على إقناع المصريين أنه لا يناصبه العداء، وأنه أحق بحفظ الدين الإسلامي من المماليك الكفرة
وبالنظر إلى ما يقدمه عماد أبو غازي في دراسته، "1517 - الاحتلال العثماني لمصر وسقوط دولة المماليك"، فإن وصم العصر العثماني بالجمود والتدهور قد ظل اتجاهاً مسلماً به بين المؤرخين المتخصصين، ووجد سنده العلمي في النظرة الماركسية للتاريخ في صورتها الكلاسيكية، وفي كتابات المستشرقين الأوائل الذين درسوا العصر العثماني، إذ تقاطعت مع كتابات المدرسة التاريخية المصرية. وأصبح من المسلم به بين المثقفين المصريين أن الحكم العثماني كان مسؤولاً أساسياً عن تخلفنا عن رَكب التقدم، بعدما أسهمت تيارات الفكر السياسي المصري الحديث القومي والليبرالي على اختلافها خلال القرن القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في نشر هذا الاتجاه، بهدف بناء أسس الحداثة الاجتماعية والسياسية على النمط الأوروبي، وتحقيق الاستقلال عن الدولة العثمانية صاحبة السيادة الفعلية أو الإسمية على بلادنا خلال ثلاثة قرون امتدت إلى العقد الثاني من القرن العشرين.
إلا أن العقود الأخيرة قد شهدت تحولات منهجية في النظر إلى الدولة العثمانية، تسعى للتخلص من الاتجاه السائد وتتبنى رؤى مختلفة تستهدف قراءة ديناميكيات تاريخ مصر العثمانية، بشكل يكشف طبيعة الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
وتُعد دراسة "بيتر جران" حول "الجذور الإسلامية للرأسمالية" من الدراسات المؤسسة لذلك الاتجاه الجديد في الدراسات العثمانية، والتي تبنى أعمدتها المنهجية على ظهور مصادر تاريخية إضافية لذلك العصر والتي تُشكل وفرة معرفية جديدة عن تفاصيل الحياة، وكذلك اكتشاف عشرات من المخطوطات التاريخية والأدبية والفقهية التي لم تكن معروفة من قبل، فضلاً عن إتاحة آلاف الوثائق والدفاتر المالية والسجلات القضائية.
الجذور التاريخية للحملة الفرنسية
ترجع العلاقات التقليدية بين فرنسا والدولة العثمانية إلى عام 1536، حين اتحدتا ضد "بيت هابسبورغ" أكبر العائلات الملكية في أوروبا، وفقاً لكرستوفر هيرولد في كتابه "بونابرت في مصر"، ونعرف من هنري لورنس في كتابه "الحملة الفرنسية فى مصر بونابرت والإسلام"، أن فرنسا الملكية هي الشريك التاريخي للإمبراطورية العثمانية خلال فترة وصلت فيها الدولة العثمانية إلى ذروة قوتها، لكنها في القرن السابع عشر لم تعد الدولة المتطلعة للتوسع قياساً على القرن السادس عشر، ولما كانت بصمة الأيديولوجية المسيحية على أوروبا لا تزال قوية بما يكفي في القرن السابع عشر، فإن إضفاء الشرعية الدينية على التوسعات الأوروبية كان لا يزال قائماً، وعليه اندفع الملك لويس الرابع عشر نحو التفكير في غزو مصر بتشجيع من رجاله عام 1671، لكنه ما لبث أن تراجع تحسباً لعداوة الدولة العثمانية التي كانت لا تزال مرهوبة الجانب، وفقاً لكتاب الحداثة والامبريالية "الغزو الفرنسي وإشكالية نهضة مصر".
في نظر فرنسا، كان للاستيلاء على مصر مزايا عدة، ظهرت في تقارير الدبلوماسيين وتوصيات الرحالة الفرنسيين، على رأسها تدعيم التجارة الشرقية، فقد لقي مشروع شق قناة تربط بين البحرين "قناة السويس لاحقاً" اهتماماً كبيراً لدى الفرنسيين والإنجليز على السواء منذ منتصف القرن السادس عشر
وكان الاهتمام بأحوال الدولة العثمانية المفككة قد انتشر في جميع أنحاء العالم أواخر القرن الثامن عشر، بدءاً من اندلاع حربها مع روسيا (1768-1774)، خاصة مع انحياز السياسة الفرنسية (إلى العثمانيين، وتزايد الرسائل الواردة من ثغور شرقي المتوسط إلى جريدة "La Gazette France"، من خلال شبكة معلومات مباشرة عن أوساط دبلوماسية فرنسية، وفقاً لهنري لورنس في كتابه "الأصول الفكرية للحملة الفرنسية على مصر"، بينما تتركز أغلب أنباء الشرق بين عامي (1772-1773) حول شخص "علي بك الكبير" الذي نجح في شد انتباه الأوروبيين بعد تمرده ضد اسطنبول وانفراده بحكم مصر، بل والنجاح في مد نفوذه إلى الشام والحجاز.
وبات لدى الأوروبيين تصور راسخ مفاده أن انحلال الإمبراطورية العثمانية وتفككها باتا أمراً لا مفر منه، وبالرجوع إلى كتاب "الأصول الفكرية للحملة الفرنسية" فإن السياسة الفرنسية أصبحت منقسمة على نفسها حيال المسألة الشرقية، ودعت رجال البحرية إلى الإسراع في الانسحاب من التحالف مع السلطان العثماني، واقتسام ممتلكات السلطنة مع الروس والنمساويين، على أن تكون مصر من نصيب فرنسا، خوفاً من أن تبادر النمسا إلى امتلاك مصر، وخلاف ذلك كان هناك الخط التقليدي لوزارة الخارجية الفرنسية والتي ترى في وصول الروس والنمساويين إلى ضفاف شرق المتوسط من شأنه أن يؤدي إلى انقلابات جذرية لمجمل توازنات القوى، ومن ثم تتبنى ضرورة الإبقاء على الدولة العثمانية من خلال فرض عملية إصلاح تشمل جميع القطاعات وخاصة العسكرية، وحشد كل الوسائل لتمكين العثمانيين من الصمود أمام الروس.
تلك البُنية العسكرية والذهنية المملوكية (التي يجب العمل على التخلص منها)، تفرض أنماطاً اقتصادية تقليدية غير قادرة على إدارة الموارد بالشكل الأمثل
ونعرف من كرستوفر هيرولد في كتابه، "بونابرت في مصر"، أن كتاب البارون "دتوت"، "المسمى "مذكرات عن العرب والترك"، كان قد أصبح أكثر الكتب المقروءة في مكتبة جمعية نيويورك عام 1789، والبارون دتوت هو ضابط فرنسي من أصل مجري، عمل فترة طويلة مستشاراً عسكرياً لدى الجيش العثماني، أوفدته الحكومة الفرنسية عام 1777 بمهمة رسمية تقتضي التفتيش على المؤسسات القنصلية والتجارية الفرنسية شرقي المتوسط، أما مهمته غير الرسمية، فقد كانت استطلاع إمكانية الاستيلاء على مصر وإحالتها مستعمرة فرنسية.
كتب دتوت إلى حكومته يبلغها أن حصون مصر الحربية ضعيفة لا يحسب لها حساب، وأن في الاستطاعة اتخاذ جزيرة كريت قاعدة للعمليات الحربية والاستيلاء على ثغور مصر (الإسكندرية-رشيد-دمياط)، بل إن سيلاً من المذكرات عن "المسألة الشرقية" كان يغمر الحكومة الفرنسية طوال عشرين عاماً (1770-1790)، على رأسها تقارير السفير الفرنسي في اسطنبول (1868-1784)، والقنصل الفرنسي في مصر 1783، بالإضافة إلى كتابات الرحالة الفرنسيين التي ظهرت بين 1784 و 1788 تدعو الحكومة الفرنسية إلى سرعة الاستيلاء على مصر، كما نعرف من الدكتور أحمد زكريا الشلق في كتابه الحداثة والامبريالية، أن الحكومة الفرنسية ترددت حيال التدخل في تلك المسألة في الوقت الذي بدأت فيه تتهاوى الملكية الفرنسية، وتظهر إرهاصات الثورة الفرنسية ما صرفها مؤقتاً عن فكرة غزو مصر.
عانى التجار الفرنسيون كثيراً من تعرض تجارتهم إلى المصادرة والنهب، إضافة إلى الإتاوات التي فرضها بكوات المماليك، فاضطروا إلى إغلاق بيوتهم التجارية في القاهرة
على هذا النحو كان للاستيلاء على مصر مزايا عدة، ظهرت بوضوح في تقارير الدبلوماسيين وتوصيات الرحالة الفرنسيين، كان على رأسها تدعيم التجارة الشرقية.
وقد لقي مشروع شق قناة تربط بين البحرين "قناة السويس لاحقاً" اهتماماً كبيراً لدى الفرنسيين منذ منتصف القرن السادس عشر، وفق كرستوفر هيرولد، إلا أن ثمة اعتباراً آخر كان قد تصدر دوافع الاستعمار الفرنسي، وهو أن مصر "أخصب بقاع الأرض كلها"، وفقاً لتصريح القنصل الفرنسي في مصر "Jean Baptiste Mure"، ضمن تقرير قدمه لحكومته يحثها على الاستيلاء على مصر، والوارد بكتاب "الحملة الفرنسية وخروج الفرنسيين من مصر"، إذ باتت فكرة راسخة عند الدبلوماسيين الفرنسيين أن الأراضي المصرية يمكن زراعتها دون مشقة وبنفقات تقل كثيراً عما يحدث في المستعمرات الأمريكية، وبشكل يجعل من مصر مركزاً للتجارة الدولية، وهو ما يسد أولاً حاجة فرنسا من الغلال والقطن وقصب السكر، ويضعف هيمنة انجلترا على السلع الشرقية، وهو ما يمكن استنتاجه بوضوح مما سجله علماء الحملة في كتاب وصف مصر، المصريون المحدثون.
نابليون المُسلم التقي
قرر سليم الأول العثماني الذي فرض سلطانه على مصر عام 1517 أن يحكم كل إقليم من أقاليم مصر الأربعة والعشرين من خلال بكوات المماليك وأمرائهم، على أن يُشكل هؤلاء البكوات ديواناً يرأسه الوالي أو الباشا العثماني، ومن ثم يشرف هذا التنظيم على جمع الجزية وخراج الأرض من الفلاحين بواسطة الكُشاف والجباة والملتزمين، حيث يسلَّم إلى المماليك البكوات فيرسلون جزءاً منه إلى الباشا في القلعة، ويرسله بدوره عبر البحر إلى الباب العالي. وفقاً لكرستوف هيرولد في كتابه، بونابرت في مصر.
فلما انتصف القرن الثامن عشر كانت السلطة المركزية في الدولة العثمانية قد بلغت من الضعف والوهن مبلغاً، وأصبحت الإدارة في مصر مهزلة يقوم بها بكوات المماليك والباشوات التُرك وفرقهم العثمانلية، وعاش البكوات وجنودهم الجاهلون بكل شيء إلا الفروسية وجمع الأموال، عيشة الترف والفخامة على حساب باقي الطبقات الاجتماعية من المصريين الذين فاض بهم الكيل، نتيجة الجور وتزايد فرض الجبايات ووحشية أساليب جمعها، كما يخبرنا الجبرتي، وقد نجح الأهالي بمساعدة مشايخ الأزهر بإعلان الإضراب العام فيما عرف تاريخياً بـ "انتفاضة 1795"، أن ينتزعوا اعترافاً موثقاً من بكوات المماليك يتعهدون فيه برفع الظلم والجور عن البلاد، وإبطال المكوس، وعزل الكُشاف الجائرين، وصرف الجوامك والجرايات والعلوفات (رواتب المشايخ والمستحقين في الأوقاف وطلاب الأزهر).
استأثر البكوات المماليك بإدارة شؤون مصر، فعزم نابليون أول ما استقر له الأمر على إنشاء إدارة وطنية تضم أعيان مصر ومشايخها، ورسم: "من اليوم وصاعداً لا يُستثَّنى أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، فالعُقلاء والفضلاء والعلماء بينهم سيدبّروا الأمر، وبذلك يَصلح حال الأمة"
وبالرجوع لكتاب "الحملة الفرنسية وخروج الفرنسيين من مصر"، فقد عانى التجار الفرنسيون كثيراً من تعرض تجارتهم إلى المصادرة والنهب، إضافة إلى الإتاوات التي فرضها بكوات المماليك الذين لم يعبأوا بما بين فرنسا والسلطان العثماني من تحالف، وحتى بعد ما بذلته الحكومة الفرنسية في دعم تجارتها الشرقية عبر برزخ السويس إلى ثغور المتوسط، من خلال توطيد علاقاتها مع مراد بك (شيخ البلد) عام 1785، فإن ذلك لم يمنع بكوات المماليك عن فرض الإتاوات، ولم يتوقف تعرض مخازنهم للنهب، ما اضطرهم إلى إغلاق بيوتهم التجارية في القاهرة، والانسحاب إلى الإسكندرية، فلا غرابة أن ينحاز التجار الفرنسيون إلى مصالحهم وتدعيم مشروع يستهدف استيلاء فرنسا على مصر، ومد حكومتهم بالمعلومات اللازمة لذلك، وفقاً لكتاب "بونابرت في مصر"، لكن ما لبثت الأيام أن اثبتت لرجال الحملة أن معرفة التجار بمصر لم تتجاوز ثغور المتوسط.
كان نابليون بونابرت صاحب الانتصارات المدوية في أوروبا يُدرك ذلك كله، ودفعه طموحه نحو الشرق إلأى انتحال دور المُّخلَص للمصريين والتجار الفرنسيين من براثن المماليك أعداء الدين الإسلامي، على نحو ما اشتمل بيانه إلى قوات الحملة في يوليو/ تموز 1798: "أيها الجنود، ستقومون بغزوة سيكون لها أبلغ الأثر على الحضارة والتجارة في العالم، وستكون أكبر ضربة توجه لإنجلترا، والمماليك الذين يفضلون التجارة مع الانجليز دون سواهم، والذين أمعنوا في إذلال مفاوضينا، واشتد طغيانهم على سكان وادي النيل التعساء، سيصبحون -أي المماليك- بعد وصولنا ببضعه أيام، أثر بعد عين"، حسب، مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية على مصر. فما كان للمماليك أن تصمد أمام مدافع الفرنسيين، كما وقفت فروسية المماليك عاجزة أمام التشكيلات القتالية المربعة، كما نعرف من كتاب جيش الشرق.
على أن نابليون الذي أدرك الأبعاد الدينية التي شكلت شرعية العثمانيين في حكمهم لمصر، باعتبارهم حفظة الدين الإسلامي، لم يكن راغباً أن تظهر غزوته تلك باعتبارها اعتداءً على حقوق السلطان العثماني، فبات يعمل على إقناع المصريين أنه لا يناصب "الباب العالي" العداء، وأنه أحق بحفظ الدين الإسلامي من المماليك الكفرة، وأعلن بونابرت: "أيها القضاة والمشايخ وأعيان البلاد، قولوا لأمتكم غن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون خالصين، وإثباتاً لذلك قد نزلوا في روما الكبرى وخرّبوا فيها كرسي البابا الذي كان دائماً يحّث النصارى على محاربة الإسلام، ومع ذلك فإن الفرنساوية في كل وقت صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني، وأعداء أعدائه، أدام الله ملكه، وفي الخلاف المماليك امتنعوا من طاعة السلطان. أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك وأصلح حال الأمة المصرية"، وفقاً الجبرتي.
ولما كان البكوات المماليك قد استأثروا بإدارة شؤون مصر، فقد عزم نابليون أول ما استقر له الأمر على إنشاء إدارة وطنية تضم أعيان مصر ومشايخها، ورسم: "من اليوم وصاعداً لا يُستثَّنى أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية، فالعُقلاء والفضلاء والعلماء بينهم سيدبّروا الأمر، وبذلك يَصلح حال الأمة"، حسب نقولا التركي في كتابه "تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية"، ولم تكف مساعي نابليون عن طلب ود المصريين على اختلاف موقعهم الاجتماعي (نخب / عامة)، إلا أن أغلب المعاصرين للحملة الفرنسية لم يظهروا أي اعتراف بمحاسنها، وأظهروا مقاومة شديدة لذلك الاحتلال، وأعلنوا العصيان تلو الأخر حتى انهكوا الفرنسيين، ثم يلقون من غزاتهم الرد المعتاد من التدمير والعنف، ويخبرنا الجبرتي، "أنهم [أي الفرنسيين] أحدثوا على تل العقارب بالناصرية أبنية وكرانك وأبراج وضعوا فيها من آلات الحرب والعسكر المرابطين فيه، وهدموا عدة دور من دور الأمرا".
الحداثة وسؤال التغيير
القول إن مصر الغافلة منذ الغزو العثماني 1517 قد شهدت صحوها نتيجة الاحتلال الفرنسي قصير الأمد، هو قول مبالغ فيه، سواء فيما يتعلق بقرون الظلام العثماني المزعوم، أو بادعاء ديمومة التغيرات التي أحدثها الوجود الفرنسي، كما نعرف من كتاب القاهرة تاريخ حاضرة لأندريه ريمون، فقد فشلت الحملة في نزع مصر من ملكية السلطان العثماني وظلت شرعيته فيها قائمة حتى مطلع القرن العشرين، ولولا استيلاء محمد علي، على السلطة 1805 لكانت آثار الحملة محدودة للغاية، إلا أن الدور الذي كانت الحملة قد لعبته هو الكشف عن سوءات النظم المستقرة في مصر العثمانية، ما طرح سؤال التغيير في أذهان المصريين، وهو تحديداً ما أتاح الفرصة لمشروع محمد علي أن ينمو، ومن ثم تشكلت "المسألة المصرية".
لم تكن نتائج الحملة الفرنسية أقل حسما فحسب بل وصلت حد السلبية، وأخذت أحوال البلاد تسير من سيء إلى أسوأ خلال السنوات الأربع التالية لخروج الحملة، وازدادت معاناة المصريين بسبب مظالم الأتراك والمماليك، وتدخل القوى الأوروبية الكبرى فى شؤون البلاد، وتوالت الاحتجاجات الشعبية
وتؤكد دراسة كينيث كونو، فلاحو الباشا، الأرض والمجتمع والاقتصاد في الوجه البحري 1740_1858، على ارتباط وتواصل الواقع الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع المصري في القرن الثامن عشر بما حدث في القرن التاسع عشر، مما ينفي فكرة الانفصال التاريخي أو الانقطاع الاجتماعي والاقتصادي بين القرنين، إذ لا يمكن القول بوجود أخدود تاريخي حدث عام 1797 مع وصول الحملة الفرنسية، وإنما استمرت أغلب النظم الاجتماعية والسياسية على نفس وتيرتها، بل ولم تحدث هذه القطيعة التاريخية حتى بعد وصول "حمد علي إلى رأس السلطة عام 1805، وإنما ظلت مصر جزءاً من الكيان العثماني وظل محمد علي وأبناؤه من بعده ولاة و خديوية لدى السلطان العثماني.
ولم تكن نتائج الحملة الفرنسية أقل حسما فحسب بل وحتى سلبية، وأخذت أحوال البلاد تسير من سيء إلى أسوأ خلال السنوات الأربع التالية لخروج الحملة الفرنسية من مصر، وازدادت معاناة المصريين بسبب مظالم الأتراك والمماليك، وبسبب تدخل القوى الأوروبية الكبرى فى شؤون البلاد، وتوالت الاحتجاجات الشعبية.
وبالنظر إلى دراسة نيللي حنا، ثقافة الطبقة المتوسطة في مصر العثمانية، فإنه يجب إعادة النظر في فكرة الحداثة الجاهزة التي حملها الفرنسيون معهم إلى مصر، إذ إن المجتمعات تتطور وفقاً لسياقات تاريخية خاصة بها، وبالاعتماد على قوى داخلية وذاتية تدفعها نحو التَغيُّر، تلك السياقات تختلف بالضرورة عن السياق الأوروبي، بل تذهب نيللي حنا إلى أن ما حدث زمن محمد علي من تطور وسائل الانتاج نحو التصنيع، ما هو سوى تصعيد لعمليات بدأت على نطاق ضيق وبوسائل فنية محدودة في مراحل سابقة خلال القرن الثامن عشر، ما يعني أن الدَفعة التي جاءت على يد "حمد علي، ما هى إلا تلبية لواقع كان قد فرض نفسه من قبله.
وإن كان لا غنى لمصر عن الاستعانة بالحداثة الأوروبية فإن مصر يمكنها أن تتبنى منها ما يناسب سياقاتها الطبوغرافية، وأن تبني نموذجها الحداثي الخاص الذي يراعي إشكالياتها التاريخية، والذي لابد له أن ينُتج على يد نخبتها المدنية الحديثة التي بدأ تبلورها مع مطلع القرن العشرين، وهي التي يجب أن تعمل جاهدة على الخروج من الشرنقة، وفقاً لتعبير يونان لبيب في كتابه مصر المدنية.
وفي النهاية، فإن الأزمة تكمن في البنية العسكرية للنظام المملوكي نفسه والتي ظلت ولا تزال جزءاً أساسياً من مكون الدولة المصرية إلى الآن، ذلك أن استمرار العقلية المملوكية (الحكم لمن غلب) والتي تلقي بظلالها على عالمنا المعاصر، والتي خلقت وفقاً لكتاب الحداثة والامبريالية "الغزو الفرنسي وإشكالية نهضة مصر"، حالة من الانفصال الطبقي بسبب انغلاق الطبقة الحاكمة (بتنوعاتها العسكرية والدينية) على نفسها، نتج عنها حالة ممتدة من عسكرة المجتمع المصري وتحجيم خصائصه المدنية، ومنع أي تراكم اقتصادي/اجتماعي يُسهل تكوين نخب مدنية قوية قادرة على إدارة موارد البلاد، بل وسهولة الإطاحة بأي تجربة مدنية طامحة للسلطة، ومن ثم خلق حالة من الاحتقان الطبقي والسياسي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تلك البُنية العسكرية والذهنية المملوكية (التي يجب العمل على التخلص منها)، تفرض أنماطاً اقتصادية تقليدية غير قادرة على إدارة الموارد بالشكل الأمثل، وفقاً لكتاب أنور زقلمة، المماليك في مصر، ذلك أن سياسات الاحتكار والاكتناز وتخفيض قيمة العملة والإنفاق الطرفي (على تطوير المدينة بشكل خاص) والتي تتبعها تلك النخب قد منعت المجتمع المصري ولا تزال تمنعه من تطوير وسائل الإنتاج بشكل ديناميكي، سواء في المنظومة الزراعية السائدة في الريف أو في الحرف التقليدية المتمركزة في المدينة، وهو ما يخلق تناقضاً حاداً بين ازدهار التجارة الخارجية وارتفاع معدلات النمو في كثير من الأوقات، وبين التدهور الشديد على المستوى الاجتماعي والاقتصادي في الداخل.
وإن كانت المسألة (العثمانية/الفرنسية) تضعنا أمام إشكاليات تاريخية ممتدة تتماس مع واقعنا بشكل يجعل من سؤال الغزو والفتح سؤالاً ملحاً؛ إلا أنها تظل مسألة أعمق من أن تُختزل في إشكاليات مصطلحي الغزو والفتح، بل مسألة تحتاج لمزيد من الجهد البحثي من خلال جامعات مصرية، ومراكز بحثية متخصصة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...