في اليوم السابع للعرس يُسمح للأم بزيارة ابنتها في بيت الزوجية حسب عادات أهالي واحة سيوة الهادئة القريبة من حدود مصر الغربية. يستعد زوج الأبنة لهذه الزيارة بطقوس خاصة فيُضحي بإحدى نخلاته مُقدماً قلبها لأم زوجته كمهر جديد، وتأكيداً على فهمه لتضحيتها بإهدائه أغلى ما تملك "ابنتها" ليهديها أغلى ما يملك"قلب النخلة".
النخلة هي الشجرة المقدسة في حياة أهالي الواحة، تشكل جزءاً رئيساً في جميع جوانب حياة اهلها، وإن شاركهم في تقديسها بعض أهالي محافظات الصعيد في جنوب مصر، إلا أن أحداً لم يصل لاعتبار النخلة الأعلى مكانة في كل الموجودات كما أهالي واحة الغروب.
شجرة الجنة في مصر القديمة
الدكتور مجدي شاكر الخبير الأثري يوضح لرصيف22 قيمة النخيل في حياة المصري القديم، إذ أدخلها في كل شيء بداية من تسقيف المنازل، كما جاء في الممر الأول لمقبرة الملك زوسر، والتمر كطعام وحشو ومشروب بعد تخميره كالبيرة (العرق) أو مادة للتحلية كالعسل (دبس التمر)، مضيفاً أن التمر كان مقدساً لدى المصريين، وحرصوا على وجوده في مقابر ملوكهم ونبلائهم ليكون زاداً طاهراً لهم خلال رحلتهم في العالم الآخر.
ارتبطت النخلة بالعالم الآخر في مخيلة المصري القديم ويظهر ذلك في نقوش المقابر، فدائماً ما تجد رسومات لسيدة تبكي تحت نخلة
استخدامات المصريين للنخيل منذ القدم لم تتوقف عند الطعام والتحلية وتقديم القرابين للآلهة، ولذا اتخذ صيغة حديثة مع وصول الإسلام ليصبح التمر تقربة إلى الله بإطعامه للفقراء والتبرع به للمساجد لإفطار الصائمين، تمتد الاستخدامات حتى إلى المالح من التمر الذي لا يزال يستخدم كعلف لحيوانات الحقل، بينما يصنع من الخوص الأواني والسلال، وهو ما استمر في العصر الحديث حتى اختراع مادة البلاستيك، حسب شاكر الذي يوضح أن النخيل ارتبط بالمناسبات المختلفة في مصر القديمة كالأعياد خاصة أعياد الموتى فجريد النخل كان ولا يزال يوضع على المقابر للتخفيف من أثر العذاب، كما استخدموه في رقصاتهم في الأفراح والأحزان كأداة إيقاعية.
وللدلالة على عمق تاثير النخيل في جوانب الحياة اليومية للمصريين، يشير شاكر إلى أحد مقتنيات متحف تورينو في إيطاليا، الذي يضم فرشاً كاملاً لغرفة اكتُشفت في مقابر إسنا تضم سريراً من الجريد وحصيراً من سعف النخيل، موضحاً أن التحنيط لم يكن لعامة الشعب من المصريين القدماء، فاستخدم بعضهم حصر السعف للتكفين كما أكتُشف في مقبرة قرب أرمنت.
ارتبطت النخلة بالعالم الآخر في مخيلة المصري القديم ويظهر ذلك في نقوش المقابر، فدائماً ما تجد رسومات لسيدة تبكي تحت نخلة، يقول شاكر إن المصري القديم كان يرسم الجنة في صورة نهر وزهور ونخيل اعتقاداً منه أن الأرض نسخة مطابقة للجنة في السماء، فكان يعتبرها الشجرة المقدسة التي تقدم له استفادة اقتصادية وروحية، إلا أنها لم تتجسد في شكل معبود كما حدث مع البقرة "حتحور"، فتقديسها هنا كان بشكل مختلف، تمنى المصري القديم أن يأخذ المدلول ذاته للنخلة العالية التي لا تتأثر بالرياح وتنتج لعشرات السنين لذا ذكرها في كتب الموتى.
في سيوة، النخل مهر وصناعة
يُشّبه الشيخ عمر راجح شيخ قبيلة أولاد موسى بواحة سيوة، ارتباط السيوي بالنخيل كارتباط الراعي بغنمه، فكما يُكرم راعي الأغنام ضيوفه بذبح إحداها، يُكرمهم السيوي بتقديم أفضل ما لديه وهو قلب النخلة، يوضح راجح أن تقديم الزوج لقلب النخلة في الليلة السابعة من العرس هو قمة التضحية فبعد نزع قلبها لم تعد النخلة صالحة للإثمار.
زراعة نخيل التمر في سيوة ممتدة منذ الحضارة المصرية القديمة، فيُطلق على الواحة اسم"سيخت آم" أي أرض النخيل، وكانت الواحة محطة رئيسة من محطات قوافل الحج والتجارة ومقصداً هاماً لتبادل البضائع منذ القدم
يعتبر التمر مكوناً أساسياً في معظم الأكلات السيوية كالتجلان التيني وهي مخبوزات من التمر والدقيق وزيت الزيتون، والبسيس وهي حلوى من التمر المطحون، يضيف راجح أن النخل يقدم للسيوي أفضل المشروبات وأهمها "اللاجبي" وهو عصير النخلة يكون موسمه الرئيسي في فصل الصيف، يقدم في وجبة الإفطار وإذا تُرك في النخلة لبعد صلاة الظهر يتحول لخمر بواسطة تنشيط معين ويسمى "عرق البلح".
لم يترك السيوي تفصيلة في النخيل دون الاستفادة منها، فيصنع من سعفها "المكانس، الأطباق، السلال، الموازين مثل الصاع، والحصير"، يقول الشيخ عمر إن الواحة تضم أكثر من 700 نوع من التمر بعضها يدخل في الصناعة الأشهر في الواحة فيُغطى بالشيكولاته ويُحشى بالمكسرات، وهناك تمر "الفريحي" الخاص بخشاف رمضان، وآخر يُستخدم كعلف للحيوان معلقا "النخلة مفيش حاجة فيها بتترمي".
الباحث في التراث السيوي محمد عمران جيري من أبناء الواحة، يقول لرصيف22 إن زراعة نخيل التمر في سيوة ممتدة منذ الحضارة المصرية القديمة، فيُطلق على الواحة اسم"سيخت آم" أي أرض النخيل، وكانت الواحة محطة رئيسة من محطات قوافل الحج والتجارة ومقصداً هاماً لتبادل البضائع منذ القدم.
قرية الجارة أكثر المناطق السيوية إتقاناً لصناعات قائمة على الخوص والجريد مثل السلال والأطباق والحقائب، وهو ما تحاول الدولة والجمعيات الأهلية دعمه بتقديم برامج تدريبية لتأهيل الشباب والفتيات في مجال الصناعات القائمة على منتجات النخيل
ولا تقتصر دلالة تقديم الجُمّار "قلب النخلة" على إهداء أم العروس فقط، يوضح عمران أن النخلة أهم ما يمتلك السيوي، لذلك ارتبط في الموروث بأنه وعد قوي بالحفاظ على الزوجة وتعبير عن السعادة بحضور الضيوف، مضيفاً أنه يتم تقديم الجمار ثالث أيام عيد الأضحى في شكل احتفالي لأنه يساعد على الهضم وله قيمة غذائية عالية.
15 لتراً من "اللاجبي" هو مقدار إنتاج النخلة الواحدة يومياً لمدة شهر أو أكثر في فصل الصيف، يصعد إلى النخلة شخص متخصص في استخلاص العصير يُسمى"اللاجاب" يستخرجه من قمة النخل دون إيذاء، حسب عمران الذي يلفت إلى أن العصير يحتوي على خلاصة النخلة، مضيفاً أن صناعة التمور بدأت في سيوة منذ السبعينيات وتطورت في أوائل التسعينيات مع بدء التصنيع الزراعي وإنشاء مصانع لتجفيف وتعبئة التمور وثلاجات الحفظ والوصول بالتمور للأسواق المحلية والعالمية حتى وصل الأمر لعقد مهرجان التمور في سيوة منذ عام 2015.
قرية الجارة أكثر المناطق السيوية إتقاناً لصناعات قائمة على الخوص والجريد مثل السلال والأطباق والحقائب، وهو ما تحاول الدولة والجمعيات الأهلية دعمه بتقديم برامج تدريبية لتأهيل الشباب والفتيات في مجال الصناعات القائمة على منتجات النخيل.
وفي سوهاج: النخيل وصية النبي
يختلف مدلول زراعة النخيل في صعيد مصرعنه في واحة سيوة، فالوازع الديني والروحانيات كانت الدافع الأول لحرص أبناء الصعيد على الإبقاء على زراعة النخل، تقول سلوى عثمان المنحدرة من قرية سليم التابعة لمركز طما في محافظة سوهاج إن كل بيت في قريتهم أمامه أو داخله نخلة أو أكثر، وحين يأتي موسم جمع الثمار يتهادى به الجميع ويوزعونه على الفقراء وما يتبقى يجففونه في الشمس مثل العجوة.
"أكرموا عمتكم النخلة" حديث نبوي علق في أذهان أهالي قرية سليم فحاولوا تنفيذ وصية النبي بالحفاظ على زراعة النخيل ورعايته والاستفادة من كل أجزائه، فيتبركوا بأكل الجمار أو طلع النخل لعلاج المرأة العقيم_حسب سلوى لرصيف22_، موضحة أنهم يستخدموا الجريد في صنع أكواخ أو عشش في الأرض الزراعية يراقب منها مالك الأرض أعمال الحرث والزراعة والري، ويرتاح في وقت الظهيرة.
لم تحترف قرى سوهاج الصناعات اليدوية القائمة على أجزاء النخل بهدف التجارة، تقول عثمان إن الجميع يحرص على زراعة النخل حتى الآن مهما بلغ من مستوى ثقافي أو اجتماعي فشقيقتها المقيمة في "فيلا" بسوهاج حرصت على زراعة النخيل وغيرهم من أقاربها المستشارين والأطباء فالجميع متعلق بالموروث القديم.
النخيل ليس سبيلاً للتجارة بين أهالي الصعيد إلا أنهم يستفيدون منه بأشكال مختلفة بداية من حبوب اللقاح المستخدمة كأعشاب علاجية تُخلط بعسل النحل، وصناعة الأسرَّة والمقاعد من الجريد، وتناول قطع "الجُمّار" حلوة المذاق، وصولاً لأوراق النخل "الخوص أو السعف" كأداة للتزيين
وفي الأقصر: رمز للشموخ
كلما اتجهت لجنوب الصعيد تضاعفت أعداد النخيل، فالصعيدي يعتبر النخل رمزاً للشموخ والعزة ويرى في ارتفاعه انعكاس لأصوله وثقافته وبيئته، يقول الدكتور معتز الصادق أحد أبناء محافظة الأقصر إن هناك اكتفاء ذاتي من محصول التمر في بيوت الصعيد فالغالبية العظمى من الأهالي يزرعون النخيل سواء في المناطق الزراعية في القرى أو المدن أو حتى داخل الكتل السكنية، فالبعض يزرع النخل داخل المنازل.
يعتز الصعيدي بالنخلة ويحزن لفراقها حسب ما يوضح الصادق، فإذا قُطعت النخلة بسبب نزاع على الأرض أو لمنفعة عامة بإنشاء طريق أو بهدف البناء السكني يحز قطعها في نفس زارعها، مضيفا أن النخيل ليس سبيلاً للتجارة بين أهالي الصعيد إلا أنهم يستفيدون منه بأشكال مختلفة بداية من حبوب اللقاح المستخدمة كأعشاب علاجية تُخلط بعسل النحل، واللحاء الخارجي البديل الأفضل لـ"اللوفة"، فضلاً عن صناعة الأسرَّة والمقاعد من الجريد، وتناول قطع "الجُمّار" حلوة المذاق، وصولاً لأوراق النخل "الخوص أو السعف" كأداة للتزيين.
يقول معتز إن زراعة النخيل في الأقصر لا تكون في شكل مزارع، فالتمر ليس محصولاً رئيسياً يُعول عليه، لكن القيمة الكبرى للنخيل عند المسلمين هي "قيمة روحانية" تكمن في كونها تطرح ثمرة ذات قدسية وهي التمر، موضحاً أن استخدام سيقان النخيل في بناء المنازل لم يعد منتشراً كما كان، فأغلب الناس اتجهوا للبناء الخرساني، مضيفا أن استخدامات أجزاء النخيل متعددة حتى أنهم يصنعوا من حامل الثمار ما يسمى بـ"الجرباحة" وهي "مكنسة" لتنظيف الشوارع.
في النوبة: النخلة الجميع
يتشابه الأمر في النوبة مع واحة سيوة، فالنخلة هناك مصدر رئيسي للرزق يتاجر في محصولها ومصدر للغذاء وواجب الضيافة الأول، يقول محمد أبو الحسن إن في النوبة النخل للجميع لا صاحب له، وأن أهالي النوبة كانوا يعتمدون على العائد من محصول التمر لتجهيز أبنائهم للزواج، موضحاً أن التمر أول شيء يُقدّم للضيوف في البيوت النوبية، وأنهم يستخرجون من قلب النخلة عصيراً يُسمى "هنو" مثل اللاجبي في واحة سيوة.
ويؤكد أبو الحسن لرصيف22 أنهم يستخدمون الجريد وجذع النخلة كأسقف وعروق للمنزل، كما يستخدم السعف في صناعة الأطباق والحصير وشيالات وغيرها من الصناعات اليدوية، ويستعملها الصغار كعوامة أو طواف ويتم تحركيها بواسطة "الكرنافة" وهي الجزء العريض في الجريدة.
يختلف موسم حصاد البلح في النوبة عن غيره من المناطق، فتُقام احتفالات مختلفة بواسطة القادمين من وجه بحري لشراء المحصول فيجلبون معهم الفول والطعمية وهو ما كان يشتريه النوبي مقابل البلح في شكل "مقايضة"، حسب أبو الحسن الذي يوضح أن النخيل يستخدم أيضاً في صناعة الحبال لربط المراكب والمواشي وصناعة الأسرة والخيام والمقاعد والطاولات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...