شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أبحث عن حكايات السودانيين... وفاء لابتسامة ياسر عبد اللطيف

أبحث عن حكايات السودانيين... وفاء لابتسامة ياسر عبد اللطيف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الثلاثاء 27 يونيو 202301:46 م

مر شهران على اندلاع المواجهات في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، مواجهات اندلعت فجأة في العاصمة الخرطوم، ونزح على إثرها سكان المدينة وهاموا على وجوههم كما هام السوريون على وجوههم سابقاً، وما زالوا.

أراقب الأخبار حيث أنا في فرنسا. قد يذيل خبر بسيط عن المواجهات نشرة أخبار هنا أو هناك، ولكن لا أخبار عن الناس، عن المدنيين، لا حكايات فردية تروي ما يواجهونه، لا اهتمام يوحي بأن هؤلاء بشر يخلفون وراءهم عاصمة وحياة. تبدو الفكرة مزعجة للغاية ولكن يبدو أن من لا ينزح إلى أوروبا، لا يشغل بال الإعلام الأوروبي، وأن الحرب تستحق التغطية حين تستخرج منها الدول الغربية مكاسب سياسية أو مادية أو عندما تجري في دولة أوروبية.

أفكر بما أعرف عن السودان، اكتشف أن السودان في عقلي وقلبي مختصر بابتسامة صديقي الراحل الفنان ياسر عبد اللطيف. درس ياسر التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية ومن ثم أصبح معيداً فمدرساً في المعهد لسنوات.

لا أذكر متى تعرفت إلى ياسر، فقد كان موجوداً دوماً في كل المناسبات الثقافية والعروض المسرحية، كان جزءًا من مدينة دمشق، كان يسكن أحياءها وباراتها، وكنا نلتقي في كل مكان وتجمعنا السهرات من خلال أصدقاء مشتركين. كنت أصادفه في المعهد في أثناء سنوات دراستي فأسأله: "كيفك ياسر؟". يضيء وجهه بتلك الابتسامة الساحرة، ويجيب: "أحسن مواطن سوداني في سوريا". ويضحك ونضحك جميعاً. كان ياسر يعشق التمثيل ويحب أن يعلمه، وقد عملت مع كثير من طلابه الذين يشرحون كم يدينون له بفهم المسرح والحياة والفن.

لا أذكر متى عرفت ياسر، كان موجوداً في كل المناسبات الثقافية، كان جزءًا من دمشق، يسكن أحياءها وباراتها، كنت أصادفه أثناء سنوات دراستي فأسأله: "كيفك ياسر؟". فيجيب: "أحسن مواطن سوداني في سوريا". فنضحك جميعاً

لم أكن أعتقد أننا صديقان، لكن يجمعنا أصدقاء مشتركون ومقربون منه ومني، لا أعلم متى تحولنا إلى صديقين، لعلنا صرنا كذلك بعدما تعذر اللقاء وأصبحنا نتراسل ونتبادل الاتصالات والاطمئنانات وبعض الحنين.

بعد الثورة السورية، عاد ياسر إلى السودان، وكان يعاني مثلنا من فراق الوطن الذي أحب ولكنه لم ينف مثلنا إلى بقاع الله الواسعة بل عاد إلى وطنه حيث أسس مختبراً مسرحياً في الخرطوم. أتخيل ياسر وهو ينقل خبراته ويروي لطلابه عن تجاربه الدمشقية. لم نتواصل كثيراً في السنوات التي تلت خروجه وخروجنا، التقينا فقط في بيروت حيث لعب ياسر دوراً في مسرحية وثائقية لا أتذكر ما كان اسمها ولكن غوغل يقول أن اسمها كان (حميمية) وهي تروي قصته هو، يسأله الممثل، أيهم الآغا، ويجيب هو بكل حساسية وصراحة وشجاعة، يروي عن الندم والخذلان والخوف، ويحكي عن الحب والشغف والمسرح في مسرحية أخرجها، عمر أبو سعدة، وأعد نصها، محمد العطار. نسيت الكثير من التفاصيل ولكنني أتذكر ياسر على المسرح، أتذكره حاضراً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، أتذكره يعري روحه أمامنا بكل شفافية، أتذكر أنه روى كيف أوقف عرض مسرحية من إخراجه ضمن فعاليات دمشق عاصمة الثقافة، أتذكر أنه كان حزيناً مخذولاً ولكنه كان شجاعاً.

لم نتواصل كثيراً في سنوات منفاي الأوروبي وسنوات عودته إلى السودان سوى لنناقش بعض المشاريع التي لا تكتمل أو لنتشاور في أمر فني لا يرى النور، إلا أننا تواصلنا أثناء الثورة السودانية، في العام 2019. حدثني ياسر وكان صوته يشتعل حماسة وحياة وأخبرني كيف ستتغير الأحوال وكيف انتصرت إرادة الشعب، فرحت معه، ولكن الغيرة في صوتي تسربت إليه، إذ لم أستطع إخفاءها، حسدت ياسر وشباب وصبايا السودان، وفرحت بالطاقة الإيجابية التي كان يحدثني بها ياسر وبالمشاريع المستقبلية التي كان يتخيلها ويحلم بها في الوقت الذي حزنت فيه أكثر لحالنا، إذ اقتلع، عمر البشير، من الحكم ولم يتزحزح الأسد عن السلطة رغم الترنح الذي أصاب النظام السوري لسنوات، ولكن ياسر طمأنني أننا نستطيع العمل معاً من أجل الحرية وأن المسرح سيستمر من أجل الحياة ومن أجل شعوبنا المقهورة، وأن نصر أحدنا سيعني بلا شك نصر الآخرين القادم.

اقتلع، عمر البشير، من الحكم ولم يتزحزح،الأسد، رغم الترنح الذي أصاب النظام السوري لسنوات، ولكن ياسر طمأنني أننا نستطيع العمل معاً من أجل الحرية وأن المسرح سيستمر من أجل الحياة ومن أجل شعوبنا المقهورة.

بدأ مصير الثورة السودانية يبدو أكثر ارتباكاً، مع بداية حجرنا الأوروبي أثناء وباء الكوفيد، وبدأ العالم ينشغل بلقاحاته وتعاليم التعقيم والتباعد الاجتماعي، وفجأة، وصلنا خبر وفاة ياسر عن خمسين عاماً بنزيف دماغي حاد في أحد مشافي الخرطوم.

منذ شهرين وأنا أفكر بصديقي ياسر، أفكر بما كان يمكن يقوله وأن ينقله عن حال أهله وأحبته في الخرطوم، أفكر فيه وأحزن لرحيله كما أحزن لحال اللاجئين السودانيين الذين لا يعبأ العالم كثيراً بتشردهم. أفكر بالحرب التي قامت فجأة في السودان كما رحل ياسر فجأة عن هذا العالم الذي لم يناسب طموحه ولا حبه للحياة ولا حريته اللامحدودة.

أبحث عن حكايا السودانيين، أبحث عن صفحات النشطاء السودانيين كي أتابع أخبار الحرب، رغم أنني متعبة، تلاحقني صور السوريين الضحايا التي خزنتها خلال سنوات طوال، وأخبار قارب غرق بمن يحمل من لاجئين، تطالعني صورة شاب سوري وجد أخاه بين الناجين من القارب ولكنني أحاول أن أتجاوزها لأبحث عن حكايا سودانية أملاً في أن أفي صديقي ياسر بعض حقه على سوريا التي خذلته. أبحث ولكن العالم يعاندني، لا أجد ضالتي، لا حكايا سودانية يرغب العالم في أن تصلني، لا أخبار سوى عن حملة السلاح والمتحاربين، لا قصص عن الناس، عن آمالهم وأحلامهم. أجد حلقة من بودكاست أتابعه، يخصص المعدون حلقة من بودكاست (بحب) للحديث عن اللاجئين من السودان، تقول امرأة سودانية وصوتها يتهدج: أغلقت باب بيتي وأنا لا أعلم متى أعود. تقول أخرى: لا أرغب في أن أصبح لاجئة، أرغب في أن أعود إلى وطني. أتذكر خذلان ياسر، وأهمس: أتمنى لكما العودة، أتمنى ألا تخذلكا كما خذلتنا، أن تعدوا وألا تحرما من وطنكما.

أبحث عن حكايا السودانيين، أبحث عن صفحات النشطاء السودانيين كي أتابع أخبار الحرب، رغم أنني متعبة، تلاحقني صور السوريين الضحايا التي خزنتها خلال سنوات طوال، وأخبار قارب غرق بمن يحمل

أتمنى يا ياسر، أتمنى أن لا يخذل العالم السودان كما خذل سوريا، ولكنك تعلم يا صديقي أن العالم لا يفكر بنا كثيراً ولا يحلم بمسارح حرة ولا بحكايا إنسانية. أتمنى أن تكون في مكان أفضل، تحلق على خشبة تليق بطموحك وأن تمثل ما تحب وأن يصفق لك الجمهور طويلاً كما تستحق وأتمنى أن يصبح السودان كما حلمت، بلداً حراً يليق بأهله.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard