يتبرع أخي الصغير صباح كل عيد أضحى ويده على كتفي قائلاً بتهكم: "اليوم يومك يا فتى! فانظرْ وقد منحتَ الصبر. ماذا ترى؟"، بينما يصدر أخي الأوسط صوت الخروف في كل مرة يمرّ بجواري! وحقاً لا أعرف المعنى لارتفاع حواجب أمي عندما يدعوني والدي إلى نزهة معه وحدنا في هذا اليوم، هل هي حركة عصبية ما أو تلميح مقصود؟
هل أنا البكر الوحيد الذي يشعر بالقلق في كل عيد أضحى؟ اليوم الذي وضعت رقبة الابن البكر على محك ذبحٍ، ولماذا؟ لأن أباه شاهد حلماً! يا له من فهم لعالم الأحلام! هل كان إبراهيم يمتحن الله؟ أو كان يمتحن ولاءَ ابنه البكر أم صبرَ كليهما على فهمه الخاص لمنامه؟ يا للآباء ومفاجآتهم وبما يمكن أن يعبثوا به!
هل كان إبراهيم يمتحن الله؟ أو كان يمتحن ولاءَ ابنه البكر أم صبرَ كليهما على فهمه الخاص لمنامه؟ يا للآباء ومفاجآتهم وبما يمكن أن يعبثوا به!
تاريخياً، لا أفهم ماهية هذا العيد، وشخصياً، لا أعرف سبباً واقعياً للفرح فيه سوى نجاة الابن البكر! وهنيئاً لنا تدخّل الله، وسريعاً، فقد أخبر إبراهيم فوراً في القرآن ودون أي استطالة شكسبيرية (قد صدقت الرؤيا: إنا نجزي المحسنين. إن هذا لهُو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم"، ولن نأخذ يهوه على محمل الجد، فهو يخبر إبراهيم شخصياً أن يذبح ابنه، ولكنه يرسل ملاكاً ليمنع تنفيذ القرار! أيعقل أنه الفصل بين السلطات؟ أم أن الله يمارس بيروقراطية ما؟ هل أزعج أحدهم نفسه بتفسير معنى توزيع المسؤوليات؟
إنه الذبح إذاً! فيذبح المسلمون في عيد الأضحى الخراف كلَّ عام متقربين من الله، بينما يذبح اليهود في ذات اليوم من كل عام الدجاج للخلاص والغفران من الخطايا! يا لسوء حظّ الحيوانات التي لا تحتاج من ماضيها بما يتجاوز جيناتها الخاصة حتى تشبهنا. الخروف للتقرب، والدجاج لغفران الخطايا، ونعْم التخصصات! بالتأكيد، كانت مائدة الآلهة السورية في العصور القديمة أكثر صحةً بتنوعها وفيها السمك والطيور والثيران والخمور والبخور والنباتات. يبدو أن التوحيد لعبادة إله واحد ترافق مع التفرد بحمية غذائية لمصلحة البروتين الحيواني!
صراحةً، كان القلق يغالبني على نسبة مواليد الخراف كل عام، لأن إحساس المضحي الكريم بالندرة يرعبني، فأراجع وقبل أشهر أوضاع المراعي عبر العالم وعلاقتها بالطقس ونسب هطول الأمطار، وبالتأكيد آخر ما كُتب عن الأوبئة السارية بين الغنم. ثمة سنوات كانت مرعبة حقاً، أمام جنون البقر وأنفلونزا الطيور، ثم الخنازير. من يعلم بماذا سيشعر المضحي الكريم أمام واقع الندرة للمادة المضحى بها من انقطاع عن ماضيه وتطلعاته وعقله، فيشعر بالانفصال عن إيمانه أو الخطيئة في أفعاله، فيحلم بذبيحة جديدة يختارها من القرية الكونية، وهو حلمٌ يعرف الله وحده والراسخون بالعلم معناه.
هل أخبرتكم في مقالتي السابقة المتواضعة أنني من الراسخين في العلم؟ فخذوا عني ما يقول الطبيب النفسي بيير داكو في كتابه "تفسير الأحلام" تحت عنوان "أحلام ضرب العنق": أحلام ضرب العنق نادرة، ولكنها قوية دائماً. إنها أحلام 'خصاء' بالتأكيد، فالرأس 'مقطوع' أو مهدد بالقطع. وذلك يعني أن الحالم يشعر بأنه مفصول عن تطلعاته وعقله وأفكاره. وقمة جسمه مهددة بالفصل أو مفصولة. ويظهر هذا النوع من الحلم عند وهن العزيمة، أو عند الشعور بالإثم بـ'الرأس'، أي بأسلوب التفكير والكلام والتعبير عن الأفكار".
أليست هي نفسية إبراهيم؟ الأب المتمرد على تقاليد أجداده بعبادة الآلهة، والداعي لعبادة إله واحد وما قابل به أهل قبيلته دعوته هذه من نبذ وإقصاء وتعنيف وتجارب قاسية وضاغطة! ما الحكمة إذاً؟ أن نحذر من تمرد الأب على تقاليد الأجداد باعتباره مقدمة لحلم مشؤوم للتضحية بالابن؟ بالتالي هل نفهم أن تمرد الابن على تقاليد أجداده هو مقدمة الأب لتضحية مشؤومة بابنه؟
كيف نحل عقدة الشؤم هذه؟ ببساطة ولندفن سرَّ الذبيحة معاً وللأبد. لكل ذبيحة أو أضحية وجهان؛ فإن صحّ أن قتلَ الذبيحة ضربٌ من الجريمة، فلا يفوتنا أن الذبيحة لا تكون مقدسة ما لم تُقتل. أي أن الذبيحة والجريمة ما كانتا لتستجيبا للعبة الإبدال المزدوج السابقة لو لم تجمع بينهما صلة نسب عاطفية. فعندما أراد إبراهيم التضحية بابنه، منعه الله، لأن ابنه (إسحاق أو إسماعيل) ليس مقدساً ليستحق أن يكون أضحية تُقتل! كان الله يقول لإبراهيم: لا، لا! استمر بما يضحي به أجدادك من الوثنيين. بمعنى آخر، إن وقت الذبيحة البشرية التي تستحق أن تكون مقدسة بالقتل لم يحن بعد. ولنسأل: هل كان إبراهيم يبحث عن تمايز قطعي عن أضاحي وذبائح أجداده بسلوك غير تقليدي جداً وهو قتل الابن؟ ودعونا لا نتابع هذه الفقرة أحبتي!
أعلم أن بعضهم يحاول التلاعب بالحقيقة ويعلن أن طقس التضحية البشرية وبالابن البكر كان رائجاً بين الكنعانيين. نعم، إن منشأ هذه المعلومة شَعبانِ لطالما أكنّا مشاعر الحبّ والودّ للكنعانيين، فكان لهما سلوك استثنائي في الإسهام بالحفاظ على تراثهم، إنهما اليهود والرومان.
ضغط الفناء العنيف الذي تعاني منه منطقتنا بالتحديد، والعالم، هو سبب خوفي من عودة الأب ليبحث عن ذبيحة جديدة بناءً على حلمٍ لا نفقه ماهيته ولمصلحة دين جديد.
ذات العقلية التي نقبت في القدس وفلسطين لتبحث عن سطرٍ توراتي ما، فتعلن ميلاد ديانة يهوه بين الكنعانيين، تشبثت بكلمة مولوخ أو مولك، التي وردت في الترجمة السبعينيّة السبعونية للتوراة باعتباره إلهاً ضحى الكنعانيون بفلذات أكبادهم من أجله، فيحرقونهم بعد ذبحهم.
استمر السجال والكتابة حول هذه الفكرة أقل من مئة عام وكادت تكون مسلمة تاريخية لو لم تأتِ تنقيبات العقود الاخيرة، لتقول صراحة إن الكنعانيين من الساحل السوري حتى الساحل الإفريقي في تونس وإسبانيا لم يعرفوا إلهاً يدعى مولوخ، فبدأت الكلمة تهرب إلى معنى مؤسسة عبادة محددة ومرتبطة بمكان محدد للتضحية بالأطفال، وطبعاً ما زالت هذه "المؤسسة" مجهولة الوجود إلا في نصوص التوراة، بل أن أكثر الدراسات تمحيصاً في محتويات الجرار الفخارية التي وضعت فيها جثامين الأطفال في قرطاجة من تمائم وعقود اللؤلؤ وطريقة الإغلاق، والتي اعتبرت لزمنٍ دليلاً على التضحية بالأطفال، وكما يقول فينفرد إلليغر في كتابه "قرطاجة مدينة البونيين والرومان والمسيحيين"، تجعل المرء يفكر بدفن حنون من قبل الوالدين. ويختم بعد صفحات من النقاش حول هذه النقطة وخاصة شهادات الرومان "إن خط التطور من الأضحية البشرية (التضحية بالذات والتضحية بالأطفال والتضحية بالعبيد أو الأسرى) عبر الأضحية الحيوانية إلى أضحية غير الدموية هو مركب فكري يحتاج إلى برهان".
بالمختصر لا توجد في سوريا الطبيعية عادات أو تقاليد أو أسلوب منهجي لمؤسسة تُعنى بتقديم الأضاحي البشرية أو الأطفال كطقس موسمي أو فصلي، فهي عادة أو نمط سلوك نفسي غريب عن الذهنية السورية القديمة، ولكن هذه التضحية البشرية وجدت بين الشعوب التي عاشت بمحيط سوريا القديمة، وليُسمح لي أن أسجل اقتراحاً لأحدها، الرومان على سبيل المثال.
التضحية بالذات البشرية كحالة، وليس كطقس، هو الطاغي على السلوك الكنعاني بالتحديد؛ فأمام ضغط البقاء القاهر وللحفاظ على كرامة حالة معينة من العار الذي قد يلحق بها ويوليها المضحي مكانة خاصة في وجدانه، ظهرت حالات من التضحية الرهيبة بالذات، تفسر ما فعله القائد القرطاجي هميلقار بعد هزيمة هيميرا وقد اختفى بلا أثر، فيقول هيرودوت نقلاً عن القرطاجيين أنفسهم إنه عندما لم يتمكن من وقف الهزيمة، صبّ الهباتِ والقرابينَ فوق الأضاحي، ورمى بنفسه بين ألسنة اللهب، أو ما فعلته زوجة هسدروبعل قائد مدينة قرطاجة ومرافقوها من المحاربين بعد أن سقطت قرطاجة أمام الرومان وانسحبوا إلى معبد المدينة المحصن، وسلم القائد هسدروبعل نفسه إلى المنتصر الروماني سكيبيو، فما كان منها إلا ان أشعلت النار وذبحت أولادها ورمتهم بالنار وتابعت حاشيتها ذات الفعل الانتحاري. هذه التضحية الرهيبة بالذات ألا تشبه تضحية عدي تميمي الأخيرة بكنعانيتها أفعال أسلافه؟!
ضغط الفناء العنيف الذي تعاني منه منطقتنا بالتحديد، والعالم، هو سبب خوفي من عودة الأب ليبحث عن ذبيحة جديدة بناءً على حلمٍ لا نفقه ماهيته ولمصلحة دين جديد. ولقرائي الذين سيحتجون على عودتي إلى وسواسي المرضي الخاص، استعطفكم يا أعزاء وأتمهلكم، فمنذ عقدين قال رئيسُ أقوى دولة نووية في الكون إنه يتحدث بالهاتف مع الله، وشن حرباً دمّر فيها دولة وشعباً! وأقوى ثاني رئيس دولة نووية في الكون، قال في العام الماضي: لماذا نحتاج العالم إذا لم تكن روسيا فيه؟!
يذبح المسلمون في عيد الأضحى الخراف كل عام متقربين من الله، بينما يذبح اليهود في ذات اليوم من كل عام الدجاج للخلاص والغفران من الخطايا! يا لسوء حظ الحيوانات التي لا تحتاج من ماضيها بما يتجاوز جيناتها الخاصة حتى تشبهنا!
وبين التصريحين مارس الساطور كاملَ حيويته قولاً وفعلاً على أضاحي منتقاة من ضعفاء الأطفال والنساء والرجال. أليس خوفي من سكين نووية صغيرة وبأناقة ليبرالية أن تعلن ذبيحتها الجديدة، مبرَّراً؟ بالتأكيد يتوجب علينا هذه المرة أن لا نعتبر الله مسؤولاً عن الحدث ورمزيته كما كنا نفعل طوال قرون من ادّعاء توكيله قدرية بقائنا الخاصة. أو على الأقل أن نعتبر من ملاحظة المؤرخ الإنكليزي غيبون اللاذعة وهو يتحدث عن الرومان: "إذا صدق المرء ليفيوس فقد احتل الرومان العالمَ دفاعاً عن النفس".
في أثناء مراهقتي كنت أتنفس الصعداء كل مرة ابتعد عن أيام عيد الأضحى سالماً، ويزداد إيماني بتضحية الخروف الأزلية متعظاً بالذبيحة الأولى وسيد الخراف وسيد بيت الظلمات الراعي تموز، وأسمح لنفسي في اليوم التالي لنهاية العيد بالترنم ببعض المراثي وسكبِ بعض الدموع، وبالتأكيد قليلاً من النبيذ، إذا تحققت مشاهدة قطّ أسود يلعق مخالبه دون التباس في المشاهدة. ولكن تمردي الشخصي تغير وتطور، مارسته وزوجتي بإنجاب بكرٍ أنثى وليس ذكراً بكراً، وأنتظرها ألّا تكون الأمَّ الحزينة، بل الأمّ المتمردة. أيتها الأم ألم يحِن وقت أحلامك لتكوني أنت مصدر القداسة الجديدة؟!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...