أحياناً، يفقد العيد بهجته ويتحول إلى "نقطة مظلمة" في الذاكرة تسلب منّا براءة الطفولة وشعورنا بالأمان. فنجد أنفسنا عالقين وسط مخاوف كثيرة، وتطاردنا الكوابيس لأيام أو شهور أو حتى لسنوات. وكان يفترض بها أن تكون الأجمل والأكثر نقاءً في حياتنا.
كثيرون من حولنا يسيئون فهم الدين وتطبيق شعائره المرتبطة بالأضحى المبارك، فيسرقون البهجة من الأطفال ويستبدلونها بحسرة وانكسار للقلب.
كثيرون من حولنا يسيئون فهم الدين وتطبيق شعائره المرتبطة بالأضحى المبارك.
قرأت منشوراً لأحد الآباء على إحدى مجموعات فيسبوك خلال العام الماضي يشكو فيه من أن طفله الصغير، دون الخامسة، يصرخ خلال نومه مستنجداً لحماية خروف العيد (صديقه) من الذبح. وعلى عكس ما توقعت، كانت التعليقات تستهجن سلوك الطفل باعتبار أن الخروف خُلق ليذبح وأن عليه أن "يكون رجلاً" ويتوقف عن البكاء والنواح. ويطالبون والده بأن يحكي له قصة نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام.
لم يكن هذا هو الطفل الوحيد الذي صعق لذبح حيوانه الأليف الذي اتخذه صديقاً، ففي كل سنة يتداول بعض مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي صوراً ومقاطع فيديو تُظهر أطفالاً لا تتجاوز أعمارهم السادسة أو السابعة ينهارون وينخرطون في بكاء مرير وهم يتشبثون بخروف أو عجل.
صبيحة يوم العيد يختفي الصديق للأبد
لا أعرف لماذا يُصرّ بعض الأهالي على إحضار خروف العيد إلى المنزل بدلاً من تركه لدى الجزار أو تاجر المواشي، فيفرح به الطفل ويُقدّم له الطعام والشراب وقطعاً من السكر، ويلعب معه ويتخذه صديقاً، ويجمعه ارتباطاً وجدانياً به. حتى تأتي صبيحة يوم العيد، فيختفي الصديق للأبد. وتكون الصدمة كبيرة حين يراه يُقيد ويذبح وتتدفق دماؤه حوله، ويسلخ ويقطع لحمه. فلا تستوعب براءة الطفل ذلك المشهد الدميم، فيصيبه الذعر ويصبح عرضة للصدمات النفسية.
لا أزال أذكر أني حين أخذت جدتي كتكوتي الصغير الذي ربيته لنحو عام وأحببته وأطلقت عليه اسم "جوكر". وذلك بعدما أصبح ديكاً، وذبحته دون علمي لتطهوه أمي ضمن وجبة الغداء المكونة من الملوخية الخضراء والأرز، لآكل من لحم صديقي دون علمي. ثم فاجأوني بالأمر وضحكوا عليّ ساخرين!
لا أزال أذكر أني حين كنت في عامي الحادي عشر، أخذت جدتي كتكوتي الصغير الذي ربيته لنحو عام وأحببته وأطلقت عليه اسم "جوكر". وذلك بعدما أصبح ديكاً، وذبحته دون علمي لتطهوه أمي ضمن وجبة الغداء المكونة من الملوخية الخضراء والأرز، لآكل من لحم صديقي دون علمي. ثم فاجأوني بالأمر وضحكوا عليّ ساخرين!
عشرون عاماً مرّ ولم أزل أشعر بغصة كلما تذكرت قطرات الدم التي رأيتها على السلم حين عرفت أنها لصديقي الديك وأنني أكلته غافلة، رغم كوني لم أكن صغيرة جداً حينها. لكن الأطفال يتعلقون كثيراً بالحيوانات الأليفة والطيور.
الامتناع عن تناول اللحوم
في المجموعات المتعلقة بالأطفال أو التجمعات النسائية عبر منصات فيسبوك وواتساب وتليغرام، كثيراً ما تشكو أم من أن طفلها أو طفلتها امتنع/ت عن تناول لحم الأضحية أو حتى تحوّل/ت إلى نباتي/ة وامتنع/ت عن أكل اللحوم كلها، بعد رؤيته/ا لمشهد الذبح والدماء.
في المجموعات المتعلقة بالأطفال أو التجمعات النسائية عبر منصات فيسبوك وواتساب وتليغرام، كثيراً ما تشكو أم من أن طفلها أو طفلتها امتنع/ت عن تناول لحم الأضحية أو حتى تحول/ت إلى نباتي/ة وامتنع/ت عن أكل اللحوم كلها، بعد رؤيته/ا لمشهد الذبح والدماء
على الأرجح في كل عائلة ستجد شخصاً قاطعَ نوعاً أو أكثر من اللحوم، أو تحول إلى نباتي بسبب ذكرى سيئة تعود لطفولته وجعلته يشعر بالاشمئزاز تجاهه. فإحدى قريباتي - وهي سيدة يقارب عمرها الخمسين - لا تزال ترفض تناول لحوم الضأن منذ أن كانت طفلة تشاهد ذبح خروف العيد الذي يحضره أبوها، وتقول إنها تشعرها بالقرف.
أذكر أن طفلي حين كان في السادسة من عمره تقريباً سألني: "ماما هي دي فراخ حقيقية؟ ماما هي دي لحمة إيه؟" وخلال حديثي معه أدركت أنه لم يكن يدرك حتى الآن أن ما يأكله كان كائناً حياً قبل ذلك. وحين أدرك، قلّت شهيته للحوم لفترة كان يتقزز منها قبل أن ينسى الأمر، وهو الذي لم ير من قبل مشهد الذبح.
على الأرجح في كل عائلة ستجد شخصاً قاطعَ نوعاً أو أكثر من اللحوم، أو تحول إلى نباتي بسبب ذكرى سيئة تعود لطفولته وجعلته يشعر بالاشمئزاز تجاهه.
ما نغفل عنه، نحن البالغين، أنه حين يكون الطفل صغيراً، لا يدرك أن اللحوم مصدرها كائن حي فقد حياته ليصبح غذاءً لنا، فيعتقد ببراءة أن اللحم شيء منفصل عن الحيوانات الأليفة والطيور الداجنة، نظراً لتغير شكلها بعد السلخ والتقطيع والطهو عما كانت عليه وهي حية. وحين يرى فجأة مشهد الذبح، يصاب بصدمة نفسية. هذا إن لم يكن قد نشأ في بيئة ريفية تربي أسرته الدواجن والمواشي أو يكون ابناً لأسرة تمتهن الجزارة أو بيع الدواجن. حينذاك، يصبح الأمر مألوفاً بالنسبة إليه ويكون أكثر تقبلاً للفكرة نفسها.
أتذكر أنني حين رأيت للمرة الأولى رأس الخروف في أحد أدراج الـ"ديب فريز" الخاص بأمي، شعرت بالخوف والاشمئزاز. ولسنوات، ما عدت أتناول لحم حيوان أرى رأسه بعد ذبحه، حتى أنني كنت أحب مذاق لحم الأرانب، لكن شعوري تغيّر إلى النقيض بعدما رأيت رأس أرنب ميت داخل حلة الطهو، فلم أقربها منذ نحو عشرين عاماً.
كرهت الخروج خلال عيد الأضحى
في بيت أهلي، اعتاد جارنا الشيخ المسن جلب أكثر من 20 عجلاً لذبحها كأضاحٍ يتم توزيع لحومها صدقات. ولسنوات، اعتاد أن يضعها في مدخل البيت الذي يمتلك معظمه قبل العيد بيومين. ويحضر الجزارين لتستمر طقوس الذبح والسلخ وتقطيع اللحوم أمام البيت طوال أول أيام العيد. ولك أن تتصور بشاعة رائحة مخلفات ودماء 20 عجلاً، وكيف تستمر لأكثر من أسبوع رغم كل محاولات التنظيف.
وكان لنا جارٌ في بيت آخر يذبح في كل عيد أضحى عجلاً في مدخل العمارة السكنية ويلطخ هو وأبناؤه أيديهم بالدماء ثم يطبعون بصمات الدم على الحوائط بامتداد الدرج.
وقتذاك، كرهت الخروج من المنزل خلال عيد الأضحى بسبب الدماء في الشوارع وفضلات الأضاحي ومخلفات الذبائح التي يغفل أصحابها أن النظافة من الإيمان، وأن إماطة الأذى عن الطريق صدقة.
ما حدث للخروف كان سيحدث للابن
ينصح كثير من خبراء التربية والأطباء النفسيين بإبعاد الأطفال دون سن السابعة عن حضور الذبح ومشاهدة الدماء، لأنهم غير مؤهلين نفسياً، ولا يدركون جيداً الشعائر الدينية وقصة الأضحية والهدف منها، وأن لحومها ستذهب للفقراء والمحتاجين. وهذا قد يسبب لهم صدمة ومشكلات نفسية، إذ يدخل بعض الأطفال في نوبات صراخ دائمة وحالة رعب وقد يفقد بعضهم الوعي عند رؤية ذبح الحيوان ويعانون من الكوابيس بعض الوقت، جراء المخاوف النفسية التي تتراكم في حال إجبار الطفل على حضور طقوس الذبح ووضع يديه في الدماء كعادة شعبية دارجة بدعوى إبعاد العين والحسد.
ما نغفل عنه، نحن البالغين، أنه حين يكون الطفل صغيراً، لا يدرك أن اللحوم مصدرها كائن حي فقد حياته ليصبح غذاءً لنا، فيعتقد ببراءة أن اللحم شيء منفصل عن الحيوانات الأليفة والطيور الداجنة، نظراً لتغير شكلها بعد السلخ والتقطيع والطهو عما كانت عليه وهي حية
كما أنه أمر بالغ السوء أن تعلقوا أطفالكم الصغار غير المكلفين وغير المدركين بحيوان يتخذونه صديقاً ثم تنتزعونه منه، وترغمونه على رؤيته يذبح ويسلخ وتطالبونه بأكل لحم صديقه.
ليس من الجيد أن تجلبوا الأضاحي حية للمنازل، فمكانها المزارع وفي المجزر ومحل الجزارة، كي لا تسلبوا براءة أطفالكم وثقتهم فيكم كوالدين قادرين على الحماية، أو تتسببوا لهم بعقدة نفسية وكوابيس وقد يرفضون تناول اللحوم لوقت طويل.
ينصح كثير من خبراء التربية والأطباء النفسيين بإبعاد الأطفال دون سن السابعة عن حضور الذبح ومشاهدة الدماء، لأنهم غير مؤهلين نفسياً، ولا يدركون جيداً الشعائر الدينية وقصة الأضحية والهدف منها، وأن لحومها ستذهب للفقراء والمحتاجين
وفي تقديري كأديبة تكتب قصصاً تربوية للأطفال، إنه عند قراءة قصة نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل لطفل/ طفلة دون السابعة فإنه لن يفهم المغزى منها والاختبار الإلهي للنبيين. وكل ما سيعلق بذهنه هو أن الأب كان سيذبح ابنه، وسيتخيل أن ما حدث للخروف كان سيحدث للابن. وتعرفون خيال الأطفال، ربما يخشى عقله الباطن أن يذبحه أبوه نفسه!
وحين أقول ذلك لا أتنصل من الشريعة الإسلامية ومن قصص الأنبياء عليهم السلام، ولكن ما أعنيه هو أن لكل مقام مقالاً. والصغير الذي رفع الله عنه القلم حتى يبلغ الحلم، لن يدرك معنى الاختبار الإلهي والفرق بين النبي والإنسان العادي والرؤية وأضغاث الأحلام. فرفقاً بعقول الصغار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...