هل يمكن أن تؤثر العوامل والظروف الاقتصادية في تغيير التاريخ وصناعة الحوادث الكبرى؟ يأخذ ذلك السؤال مكاناً مهماً في بناء نظريات التفسير التاريخي، حيث وضعت العديد من النظريات العوامل الاقتصادية في مقدمة العوامل التي تساهم في خلق الحدث التاريخي وصناعته.
من ابن الأزرق إلى ماركس
فسر العديد من المؤرخين المسلمين حركة التاريخ، بوقوع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، ورأوا في تلك التغيرات سبباً رئيساً في تبدل حال الدول والأمم على مر القرون. من هؤلاء المؤرخين؛ أبو عبد الله بن الأزرق، المتوفى في عام 896 هـ، حيث يقول في كتابه "بدائع السلك في طبائع الملك": "الترف مفسد للخلق بما يوهم في النفس من ألوان الشر والسفسفة، فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامةً على نيل الملك، ويتصفون بنقيضها من خلال الشر الدالة على الإدبار والانقراض وتأخذ الدولة مبادئ العطب، وينزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يُقضى عليها".
في السياق نفسه، يضع أبو بكر الطرطوشي، المتوفى في عام 520 هـ، الترف والعوامل الاقتصادية على رأس قائمة الأسباب المُفضية إلى شيخوخة الدولة ودمارها والقضاء عليها. يقول الطرطوشي، في كتابه "سراج الملوك": "لا سلطان إلا بجند، ولا جند إلا بمال، ولا مال إلا بجباية، ولا جباية إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل". بناءً على ذلك، يجعل الطرطوشي المال ركيزةً أساسيةً من ركائز إقامة الدولة وبنائها.
على الجانب الآخر، فإن المدرسة التاريخية الماركسية قد ربطت دائماً بين تغيّر الأحداث التاريخية من جهة، والتغيّرات الاقتصادية المرتبطة بها من جهة أخرى. بنى الماركسيون نظريتهم في تفسير التاريخ على أن الصراع السياسي إنما هو انعكاس للصراع الاقتصادي الطبقي. ويحاول بليخانوف، في كتابه "تفسير التاريخ"، أن يفسّر سبب إعلاء الماركسية لدور الاقتصاد في تفسير الحوادث التاريخية، فيقول: "إن الوضع الاقتصادي لشعب ما، هو الذي يحدد وضعه الاجتماعي، والوضع الاجتماعي لهذا الشعب يحدد بدوره وضعه السياسي والديني وهكذا دواليك".
في الحقيقة، توجد العديد من النماذج التاريخية الواضحة التي تؤكد على قيام العلاقة الوطيدة بين الظرف الاقتصادي والتغير السياسي. سنستعرض هنا ثلاثة نماذج يرجع كل منها إلى حقبة تاريخية مختلفة.
المدرسة التاريخية الماركسية ربطت دائماً بين تغيّر الأحداث التاريخية من جهة، والتغيّرات الاقتصادية المرتبطة بها من جهة أخرى. بنى الماركسيون نظريتهم في تفسير التاريخ على أن الصراع السياسي إنما هو انعكاس للصراع الاقتصادي الطبقي
الفاطميون: من الخلافة إلى الوزارة
لو رجعنا إلى النصف الأول من فترة حكم الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، لوجدنا أن الدولة الفاطمية كانت قد وصلت في ذلك الوقت إلى أوج قوتها وازدهارها. وكان سلطان الخليفة الفاطمي قد وصل إلى عدد من المناطق والأقاليم التي لم يستطع أن يصل إليها أحد من أجداده حتى أنه قد تم الاعتراف به -لأشهر عدة- في بغداد عاصمة الدولة العباسية.
مع بداية النصف الثاني من عهد المستنصر بالله، وقع عدد من الكوارث الطبيعية التي ساهمت في إضعاف الدولة الفاطمية بشكل كبير، ونذكر من تلك الكوارث، وقوع الوباء في مصر في عام 455 هـ، حيث ذكر أبو الفرج ابن الجوزي، في كتابه "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم"، أنه "كان يخرج من مصر أثناء ذلك الوباء ألف جنازة". ثم زلازل مصر في عام 462 هـ، وهو ما أدى إلى تصدع العديد من المباني. كما أنه في عام 457 هـ، بدأت السنوات السبع "للشدة المستنصرية"، تلك التي ضربت عموم البلاد المصرية، والتي وصلت إلى ذروتها في عام 462 هـ، عندما أكل الناس بعضهم بعضاً وخرج الكثير من المصريين إلى خارج البلاد، وتوجهوا إلى بغداد أو بلاد الشام، وذلك بحسب ما يذكر تقي الدين المقريزي، في كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة".
أمام كل تلك الظروف العصيبة، اضطر الخليفة المستنصر إلى أن يلجأ إلى أحد الأمراء الأقوياء، وهو بدر الجمالي حاكم عكا. قام المستنصر بتعيين الجمالي على الوزارة في القاهرة، وتنازل عن الكثير من سلطاته للوزير الجديد بهدف الخروج مما تمر به البلاد من فوضى واضطرابات بلغت شدّتها أن كادت تقضي تماماً على الدولة الفاطمية.
استغل الجمالي الفرصة على الوجه الأمثل، وأجرى العديد من الإصلاحات الاقتصادية المهمة داخل مصر. أدى ذلك بالتبعية إلى تبدل شكل الدولة الفاطمية، وتغيير الكثير من القواعد الأساسية التي بُنيت عليها. ظهر ذلك في استحداث تغيير خطير في نظام تعيين الوزراء في الدولة، إذ كان من المعتاد أن يتم تعيينهم من رجال القلم والأدب، وكان دور الوزير يقتصر على تنفيذ أوامر الخليفة الفاطمي فقط. لكن منذ بداية عهد الوزير بدر الجمالي، وحتى نهاية الدولة الفاطمية، أصبح يتم اختيار الوزراء من أرباب السيف والحرب، وأصبح الوزير هو صاحب السلطان الحقيقي في مصر، أما الخليفة فلم تكن له أي سلطة فعلية.
"إن الوضع الاقتصادي لشعب ما، هو الذي يحدد وضعه الاجتماعي، والوضع الاجتماعي لهذا الشعب يحدد بدوره وضعه السياسي والديني وهكذا دواليك"
الثورة الأمريكية: لا ضرائب من دون تمثيل
إذا ما رجعنا إلى ظروف الثورة الأمريكية ضد بريطانيا وملابساتها، في القرن الثامن عشر الميلادي، لوجدنا أن الصفة التي تغلب عليها هي الصفة الاقتصادية، ذلك أن القوانين والقيود التي وضعها التاج البريطاني وفرضها على المستعمرات الموجودة في القارة الأمريكية، قد أدت إلى وقوع العديد من المشكلات الاقتصادية في القارة الأمريكية، ومن ثم تسببت في اشتعال نار الثورة.
في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، سنّت الحكومة البريطانية قانون الملاحة، الذي بموجبه تم فرض نقل جميع المواد الخام والسلع الاستهلاكية من أمريكا إلى إنكلترا عن طريق السفن الإنكليزية فقط لا غير. كما أن إنكلترا فرضت على تلك المستعمرات دفع الكثير من الضرائب بشكل متزايد، وبلا مبررات منطقية.
تسببت تلك الضغوط الاقتصادية في تزايد حالة الغضب والنفور من جانب سكان المستعمرات ضد الإمبراطورية البريطانية. وعبّر سكان المستعمرات عن غضبهم وسخطهم بجملة شهيرة قُدّر لها أن تكون -في ما بعد- إحدى أهم العبارات التاريخية للثورة الأمريكية وهي عبارة: "No taxation without representation"، والتي تعني "لا ضرائب من دون تمثيل". تسارعت أحداث الثورة بعد ذلك بشكل متلاحق، حتى تم الإعلان عن قيام الدولة واختيار جورج واشنطن ليصبح أول رئيس للبلاد في عام 1787 م.
في الحقيقة، لا نستطيع أن نجد أي عامل آخر مهم يستطيع أن ينافس العامل الاقتصادي في تبرير قيام الثورة الأمريكية، فمشاركة الطبقات الاجتماعية بمختلف درجاتها ومسمياتها في أحداث الثورة، تلغي فكرة المبرر الاجتماعي لقيامها. وكذلك فإن العوامل الإثنية لا تصلح لأن تفسّر قيام الثورة، ذلك أن الغالبية الغالبة من سكان المستعمرات الذين اشتركوا في الثورة، كانوا يعودون بالأساس إلى أصول أنجلو-سكسونية. على سبيل المثال، كان جورج واشنطن -وهو واحد من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة وزعيم الثورة وأول رئيس للدولة الأمريكية- إنكليزي الأصل. في السياق نفسه، لم تُشِر أي من الكتابات التاريخية التي تطرقت إلى دراسة الثورة الأمريكية، إلى وجود أي أبعاد دينية أو مذهبية ساعدت في قيام تلك الثورة.
تعاونت المخابرات البريطانية مع مثيلتها الأمريكية في تدبير عملية مخابراتية واسعة النطاق تُعرف باسم "العملية أجاكس"، وكان هدفها العمل على إفشال مصدق وحكومته، ووضعه في موقف محرج أمام شعبه، بغية إفقاده الظهير الشعبي الجماهيري الذي يعتمد عليه ويستمد منه قوته ونفوذه
انقلاب مصدق: تأميم النفط
في عام 1951 م، وصل السياسي الإيراني البارز الدكتور محمد مصدق إلى كرسي رئاسة الوزراء في العاصمة الإيرانية طهران. مصدق، صاحب النزعة الاشتراكية القوية، وجد أن أصعب التحديات التي تواجه حكومته هي فرض سيطرتها على منابع النفط الموجودة في منطقة الخليج. فحاول في البداية أن يصل إلى اتفاق جديد مع الجانب البريطاني الذي كان يسيطر على حقول النفط الإيرانية من خلال شركة النفط الأنكلو-إيرانية منذ عام 1913 م. ولكن الجانب البريطاني رفض أن يُعدّل بنود الاتفاقات التي تم إبرامها من قبل مع الإيرانيين، وتمسك بحقه وامتيازه في استخراج النفط الإيراني والاستفادة منه حتى عام 1993 م. أمام ذلك التحدي، أعلن مصدق، بمباركة شعبية واسعة، عن تأميم صناعة النفط في إيران بحيث تُشرف عليها الحكومة بشكل كامل.
كان من الطبيعي والوضع كذلك، أن تتحرك بريطانيا بكل قوتها لإنقاذ مصالحها الاقتصادية في إيران، فأقامت تحالفاً دولياً لمنع شراء النفط من حكومة مصدق، كما رفعت شكوى ضد إيران في محكمة العدل الدولية في مدينة لاهاي في هولندا. وبالإضافة إلى كل ذلك، فقد تعاونت المخابرات البريطانية مع مثيلتها الأمريكية في تدبير عملية مخابراتية واسعة النطاق تُعرف باسم "العملية أجاكس"، وكان هدفها العمل على إفشال مصدق وحكومته، ووضعه في موقف محرج أمام شعبه، بغية إفقاده الظهير الشعبي الجماهيري الذي يعتمد عليه ويستمد منه قوته ونفوذه.
وبالفعل تحققت أهداف العملية أجاكس، حيث تمت إشاعة الفوضى والاضطرابات في إيران، ودخل الشاه، المدعوم من الولايات المتحدة وإنكلترا، في صراع دستوري مع مصدق، فاستصدر قراراً بإقالته وتعيين الجنرال فضل الله زاهدي بدلاً منه، وهو الأمر الذي أدى إلى اجتياح المظاهرات لعموم الأراضي الإيرانية، وانتهت تلك الأحداث بسقوط مصدق ونظامه، وإعادة توزيع امتيازات استخراج النفط الإيراني على الولايات المتحدة وإنكلترا مرةً أخرى بعد أن تم إلغاء قرار تأميمه.
كان العامل الاقتصادي هو العامل الأهم في تلك الأحداث، فمؤامرة إنكلترا وأمريكا، التي انتهت بالانقلاب على مصدق، لم يكن لها هدف سوى إعادة النفوذ الاقتصادي للدولتين على النفط الإيراني مرةً أخرى، خصوصاً أن النفط سلعة إستراتيجية في غاية الأهمية وتستطيع أن توفر لمالكها المزيد من القوة على الساحة الإقليمية والدولية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.