شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
الشاعرات وأحلامهن… كيف يشربن من هذا الينبوع العجيب؟

الشاعرات وأحلامهن… كيف يشربن من هذا الينبوع العجيب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

نبع اهتمامي بالتداخل بين عوالم الحلم وعوالم الشِّعر/الفن، من تجربة شخصية؛ إذ حدث مراراً أنني كتبت قصائد في حالة بين الحلم والصحو، وحدث أيضاً أنني استيقظت من النوم لكتابة عنوان مجموعة شعرية جديدة، استلهمت اسمها وعوالمها أثناء الحلم، وصار الحلم الذي نسيته، يتراءى لي يوماً بعد يوم أثناء الصحو، كأن السّتار الذي يغطّيه ينسدل عنه شيئاً فشيئاً، حتى أنني أشعر في بعض الأحيان بأنه لا حواجز بين عوالم الحلم والصحو، فكلاهما امتداد لبعضهما، والذي يرى في الحلم يمكنه أن يرى في الصحو أيضاً.

لذلك سألت شاعرات عربيات عن تأثير أحلامهن/كوابيسهن على الشعر الذي يبتدعنه، وإن تداخلت عوالم الحلم في عوالم الشعر لديهن، هل الحلم عالم يستقين منه قصائدهن؟

الأحلام... قلق ويوميات

كتبت سعاد سالم، وهي شاعرة وصحافية من ليبيا تقيم في هولندا:

"الأحلام والكوابيس رفيقات الطفولة؛ أدخلنني عوالم مجهولة كما حدث مع أليس في بلاد العجائب، حتى أن ما أراه في نومي يكون أحياناً أقرب إلى الرؤى، أي وأنا بين نوم ويقظة. في فترة الدراسة في الجامعة، كانت النتائج تأتيني في الحلم، حتى أن كل المشكلات الكبيرة التي تعرضت لها في ما بعد في العمل أخبرتني بها أحلامي.

حدث أنني استيقظت من النوم لكتابة عنوان مجموعة شعرية جديدة، استلهمت اسمها وعوالمها في أثناء الحلم، وصار الحلم الذي نسيته يتراءى لي يوماً بعد يوم أثناء الصحو، كأن السّتار الذي يغطّيه ينسدل عنه شيئاً فشيئاً

فأحلامي إذاً هي نبوءات متى استيقظتُ أعرف معناها. ثم دخلت المرحلة المرعبة حينما تجسدت أحلام الفقد بخسارة أخي ثم أبي، وما سبق ذلك وما تلاه من عدم الشعور بالراحة، ومن انغماس تام في الكآبة، والقلق المزمن.

هنا في هولندا، وبعيداً عن عائلتي، كانت أحلامي سبباً في تحطّم طاقتي، وشن الحنين طوفاناً من الذكريات، وأيضاً دروساً مكثفةً في التواصل مع جانبي الروحاني، الذي شوشت عليه الملهاة التي فرضتها علينا أوطاننا، ونقلني ذلك إلى الكتابة في زوايا تصف أحلامي وضيوفها.

ولكن في العموم، وأينما كنت، وحيثما حللت، ما أراه في نومي يصنع يومي بكل حمولته من علاقات بالناس، وبالعمل، وبالطعام، وبالتأكيد بالكتابة.

مثلاً، ينزعج نهاري من حلم حطّ في الليلة السابقة، وسيظل متمدداً فيه وفي رأسي، ويعكّر مذاق القهوة ويبطل سحر الكافيين، ولو كان جميلاً أو محايداً سيستيقظ معي منتعشاً ويشاركني المشي في النهار، ويجعلني في مزاج الأغاني والابتسام وإنجاز ما كسلت عنه... وأظل أفكر فيه مثل حبيب في أفكاري، لا يراه أحد، لكنه يبتسم فوق فمي.

أيضاً الأحلام المتكررة والأحلام المتصلة، ورسائل الموتى، ترتبط بي مثل لون جلدي وخلاياي، وجزء من سلسلة الحمض النووي لأسلاف كانوا حكماء وسحرة وعرّافين.

أغلب ما أكتبه هو هذا الكون، الذي قفزت فيه منذ زمن قديم، كما لو أنني اختبأت في لعبة اسمها "حالولة النبي" (الغميضة)، ولم يعثر عليّ أحد بعد".

"الحُلمُ مَسكنُ الخَوف، ومَسكَنُ الجنون"

وكتبت ملاك لطيف، وهي شاعرة بحرينية صدر لها ديوان "عصافير النافذة الأخيرة":

"لا تبدأ القصيدة من حلم، كما لا تبدأ من واقع، لكنّها قد تبدأُ من اللحظة التي بينهما، واللحظة التي تجمعهما. وقد لا يجمعهما زمن القصيدة ذاتها، بل صفاتٌ تتمثّل بينهما، تتمثّل في القصيدة؛ ففي الحلم، تتجلّى حقيقةٌ ما، وفي الواقعِ تُخفيها، لكنّنا في القصيدة نكتبها متخفّين بالكلمة والصورة. في الحلم نتبادل النّظر مع أنفسنا، وفي الواقع نهرب من العين، أمّا في القصيدة فنحن عراةٌ من النّظرة ومن تفاديها.

الشّعر مساحةٌ للنّجاة وللهرب، مساحةٌ نطفو فيها بعد حلمٍ مريع، أو واقع مُرّ. نمسك الكلمة لنستدلّ على ذواتنا، ونخلق الصورةَ لنعيد تركيب الأثرِ، نمنحه حجماً ونتخلص منه. فيما يفعل لا وعي الحلم عكس ذلك، يُضخّم أيّ خوف، ويضعنا أمام وجوه ربّما نسيناها، ويعيد لنا كلّ ما تجاهلنا.

الحلم مرآة الدّاخل، دون سعي منّا. ففي الحلم تخذلنا المقدرة، ونَعجزُ عن التّحرر من الحدث. وكُلّ محاولةٍ في الحلم تُفضي بنا إلى قدمين متعبتين، لسان ثقيل، وصمت دائم. نرى النفس تنطوي، وتنقبض، وتمضي، وتقف. تقف أمام مشهدٍ من دم، أو من ألم، أو من موت. مشهدٌ يُفزِعُنا، ويُحيلُنا إلى قصيدة.

الحُلمُ مَسكنُ الخَوف، ومَسكَنُ الجنون.

رأسي المُسنَدُ على جِدارٍ... يفسحُ الوقتَ للحُلم

الأحلام مادّة خصبة للتّجربة، إذ تُطلق ذواتُنا العنان لدواخلها، تُزيل الحواجز والطبقات، وتبقى هي وحدها. ننظر، ونرعى النّظرةَ والحدث. وقد تكون هذه المادّة بكلّ ما رأيناه هي المادّة الشعريّة، بكلّ صورها، أو من الممكن أن تكون تخيُّلاً نُحيلهُ على حالة الحلم.

 يتحوّل الحلم ذاته إلى قصيدة، حالة شعرية متكاملة، مبنيّة على مشهديّة الحلم. وهو المادّة الأكثر كثافةً، وسهولةً ربّما، في إيجاد صورة شعريّة جديدة، متعلّقة بالشاعر، قادمة من لا وعيه.

وعن الحُلم الذي يبقى عالِقاً خلال يومي، أستيقظُ لأجدَهُ واضحاً في الذّاكرة، وأثرهُ لا يمرُّ. كتبتُ في قصيدَةٍ:

تتحرّك أنفاسنا داخل المساحات الفارغة في الجسد ما أن نموت، نُنسى في اليوميّ.

نُعلّق ما أبصرناه من حلم عن موتانا السابقين،

ونعدد أسماءهم فورَ وصولنا الأرض، نحفر في الأرضِ طويلاً كي نصل إلى من سبقونا.

نصل إليهم عظاماً، ويصلون إلينا روائح.

نصِلُ إليهم نسياناً، ويصلون إلينا ذاكرة.

أكتبُ عن الحلمِ الذي أراهُ متى ما أطبقتُ جفنيّ، واضحاً يقودني نحو الهاوية. ومُتّقداً يُفضي بي إلى جَحيم.

جحيمٌ في رأسي؛ هكذا يبدو لي الحلم كلّ ليلة. هكذا أراه، وهكذا أستيقظ عليه.

فأقول في القصيدة:

حالمة بنفسي، بعودة ميّتي إليّ...

لننام على السريرِ نفسه،

أنظرُ إلى يدي في عظامِه، وأمسحُ عنهُ غبارَ جلدِهِ، وأهيّئ له النّوم.

ننامُ في الحلمِ نفسِه، نرفلُ الصّحراء نفسها، ونرمي جسدي وجثّته في البحرِ نفسِه.

يهيّئ لي الحُلم وقتاً لغير الممكن، وقتاً للموت، للقاءِ الموتى، لقاءَ مَن نسيت وما نسيت.

وفي جانب آخر، يتحوّل الحلم ذاته إلى قصيدة، حالة شعرية متكاملة، مبنيّة على مشهديّة الحلم. وهو المادّة الأكثر كثافةً، وسهولةً ربّما، في إيجاد صورة شعريّة جديدة، متعلّقة بالشاعر، قادمة من لا وعيه. أتساءَلُ حينها: هل هذه الصورة من ابتكاري الشخصيّ؟ أم هي تنتمي إلى داخلي، دون جهدٍ منّي في خلقِها أو خلقِ موضوعها. وفي النهاية هي صورتي الشعرية، وهي قصيدتي.

الأحلامُ مُترعَةٌ بالشّعر، والشّعر مغموسٌ بالحلم، وفي كلّ قصيدةٍ نقرؤها، تلك الغرائبيّة منها تحديداً، قد تكون حلماً من أحلام شاعرها. قد تكون قصيدةً لم يبدأها الشاعر بكلمةِ الحلم ولم يُشِر إليها، محتفِظاً بهذا لذاتِهِ، وكُلّما قرأ قصيدته تلك، راودهُ الحلم في اليقظة، أحالهُ إلى مشهدٍ معدّل، مشهد أقرب إلى الواقع بعدما كُتِب.

كما لو أنك تغيّر/ي جلدَك لمواصلة الطريق القديم

أما الشاعرة والناقدة التونسية هدى الدغاري، التي صدرت لها أربعة دواوين شعرية هي: "لكل شهوة قطاف"، "ما يجعل الحبّ ساقاً على ساق"، "سبابتي ترسل نيراناً خافتةً"، "يا كُلّي الناقص، يا فداحتي الكاملة"، فقد بدأت حديثها بسؤال: هل الشعر لا ينبت إلا في تربة حالمة؟"، وأفاضت: "هل أنا شاعرة تعيش الحلم وتروِّض الكوابيس ثم تركن إلى ظل تينة لتكتب قصيدتها؟ هل يمكن أن أعتبر أن خيالاتنا التي تثقل رؤوسنا وتسكن أرواحنا، هي في الحقيقة أحلامنا، تلك الأحلام المفرطة في الخيال، المتمردة على قوانين الطبيعة، فلا تستكين حتى تخرج في هيئة قصيدة؟".

وفي محاولة لفهم الارتباط بين الحلم والشعر، تضيف هدى: "قصائدنا هي أحلامنا المؤجلة أو خيالنا المفرط في الحلم".

ومن باب الإفراط في الحلم أو الخيال، تابعت: "كنت دوماً أحلم بأن أكون حديقةً مثلاً، أو باباً يفتح ويغلق في آن واحد. أحلم أيضاً، وأنا أكتب بأنني جنس ثالث، يستبطنني مع آخر، قريني الذي لا ينفك عني لحظة الكتابة".

لا أدري، هل بوسْعي أنْ أُنْصتَ إلى عشبةٍ عالقةٍ بشقِّ حائط؟

هكذا تخرج مني القصيدة، أو هكذا يأخذني خيالي الحالم وقت انبجاس القصيدة. إذ إنني متعددة، مركّبة، كتلة من المناخات والأحاسيس المتناقضة، متى تهيأت داخلي، تقذف القصيدة إلى العلن!

فأنا أكتب بساق على الأرض وأخرى معلقة في سماء الأحلام".

ثم تستحضر هدى، غاستون باشلار، أحد أهم المنظّرين لعلاقة الشعر بالحلم، فتقول: "عندما تحدّث باشلار عن أحلام اليقظة، اعتبرها أحلام ذوات ترى وتحس وتفكّر وتنصهر في أحلامها وهي تكتبها، انصهاراً كليّاً.

فأحلام اليقظة هي أحلام الأنا وهو يُرتّب الوجود ذاتيّاً، فيغيّر أماكن الأشياء وصورها وهيئاتها بل إنّه يغيّر ذاته فيُلبسها صوراً مشتقّةً من عالمه الشّعريّ المفارق بالضرورة للواقع المرجعيّ.

ها أنذا أتحدث عن الحلم بذاتي المزدحمة، بأفكار شتى ورؤى وأشياء، ترسَّبت فيَّ وأخرى انبجست مني كحمم مشتعلة على ظهر قصيدة، ومع ذلك لم أزل مذهولةً، غير قادرة على فهم هذا الحلم، هذا اللا شيء المترامي داخلنا لكن نقذف فيه دون أن نعرف كنهه".

لكنْ، أبعدَ مني ومن ظلي،

رأيتُ

ما فعلتْه مدنُ النّمل.

وتتساءل مجدداً: "كيف لي أن أستوعب ما يحصل، لحظة خروج القصيدة؟ هل أنا لحظتها داخل الحلم بلحمي الحي؟ أم هو شرود ينتهي بخطف القصيدة والعودة إلى الواقع؟!

أحاول أن أفهم هذا الانخطاف الذي يحصل لي نحو أماكن وأزمنة قصيّة، فأخال نفسي في دغل وأنا في قاعة الدرس مع تلاميذي، أو أتلبَّس ذواتاً لا تشبهني في لحظة انخطاف كاملة، فأقول القصيدة على لسانها ثم أعود، تماماً، كمن سقط من علوٍ شاهقٍ منتظراً ارتطامه بالأرض، فيجد نفسه سليماً معافى!".

"عندما كبرت ابتلعتني تيارات الشعر ودهاليزه المظلمة وتقاطع العالمين العلني والسري وصرت أكتب برأسين؛ أحدهما يرى العالم الموضوعي، يتتبع تفاصيله ويقتنص مشاهده بعيني بومة، وآخر يصعد كسمكة نافرة من قاع البحر إلى الأعلى ليفتق الجدار الفاصل بين هذا الواقع والحلم"

وتبدأ هدى باستعراض تذكّرها لحلم متكرر، فتقول: "أتذكر حلماً كان يتكرر دائماً لي في ليالي الشتاء الباردة وأنا طفلة ما زلت في سنوات التعلم الأولى. كنت كلما تمددت على سريري ورفعت عيني المثقلة بالنوم إلى زاوية مبللة في سقف الغرفة، تتحول إلى شخوص تتكلم وتتنقل في رأسي وتتحول تلك البقعة المبللة بفعل الرطوبة، إلى دهاليز وممرات معتمة. بالكاد أنهض فزعةً، مخافة أن أسقط في دهليز أو تبتلعني حفرة:

حين كنتُ طفلةً

تعودتُ صنعَ ثقبٍ

سرّيّ

في غطائي الصوفي

أرى منه العالم

فيما يظنُّ الجميع

أنني نمت.

وعندما كبرت ابتلعتني تيارات الشعر ودهاليزه المظلمة وتقاطع العالمين العلني والسري وصرت أكتب برأسين: أحدهما يرى العالم الموضوعي، يتتبع تفاصيله ويقتنص مشاهده بعيني بومة، وآخر يصعد كسمكة نافرة من قاع البحر إلى الأعلى ليفتق الجدار الفاصل بين هذا الواقع والحلم؛ لأطلَّ على العالمين في وقت واحد.

مرعب أن تقف برأسين بين العالمين، رأس يرى مثلاً شجرةً تنبت في أرض، وآخر يراها تنبت في سماء".

وتختم هدى قائلةً: "دخلت الشعر بهذا التقاطع العجيب بين الحلم والواقع، وبوجه هلامي عارٍ من الأفكار، متلبس بدغل ونهر منساب على أطرافي الأربعة وذهول وخيالات متزاحمة وسماء واطئة (منخفضة) تطير فيها الوعول، وأرض تنبت ببغاوات وقبّرات، لربيع يختبئ وراء التلة.

أمسك المنشّة جيداً قبل النفض:

بعضُ الغبار هو أفكارك غير المكتملة في حياة أخرى".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

خُلقنا لنعيش أحراراً

هل تحوّلت حياتنا من مساحةٍ نعيش فيها براحتنا، بعيداً عن أعين المتطفلين والمُنَصّبين أوصياء علينا، إلى قالبٍ اجتماعي يزجّ بنا في مسرحية العيش المُفبرك؟

يبدو أنّنا بحاجةٍ ماسّة إلى انقلاب عاطفي وفكري في مجتمعنا! حان الوقت ليعيش الناس بحريّةٍ أكبر، فكيف يمكننا مساعدتهم في رصيف22، في استكشاف طرائق جديدة للحياة تعكس حقيقتهم من دون قيود المجتمع؟

Website by WhiteBeard
Popup Image