تندرج هذه المادة ضمن ملف "أسرار الروائح الشرقية"
قد لا يقترب أحد مهما بلغت قدرته الأدبية وتمكنه اللغوي من وصف الرائحة، لكننا نكتفي بوصف تأثيرها لا سيما حين تغوص الرائحة في الماضي وتصبح وسيلة للتذّكر والحنين، وربما للحزن والحسرة، إلا أن للأطفال رائحة خاصة يعتقد البعض أنها متشابهة، وربما تكون كذلك خاصة أن وصفت ممن لم يخوضوا تجربة الأمومة، ورحلة التعرّف إلى رائحة جسد جديد ولد للتو.
تؤكد الأبحاث قدرة الطفل على التعرف إلى رائحة أمه، وتمييز حليبها عن حليب باقي النساء، وذلك بسبب اعتياده نظامها الغذائي أثناء الحمل، وقيامه باستنشاق صدرها فور الولادة لتعزيز إنتاج الحليب فيه، في المقابل يقول الطبيب جوهانس فراسنيلي في دراسته الخاصة بالروائح إن "الإشارات الكيماوية في حاسة الشم التي تشكّل أداة التواصل بين الأم وطفلها قوية جداً، لذا فإن رائحة حديثي الولادة تنشّط دائرة المكافآت العصبية لدى الأمهات".
تمارا كيلة: "تضاعفت قدرة الشم لدي"
تقول الشاعرة والطبيبة الأردنية تمارا كيلة لرصيف22: "تضاعفت قدرة الشمّ لدي لأكون أمّاً أفضل قادرة على حماية طفلها من أيّ خطر محتمل، ولتكون حبلاً سرّياً آخر غير ملموس يربطني بقطعة اللحم التي تابعت عملية إخراجها من رحمي ثانية بثانية تحت التخدير النصفي، فقد شعرت بكلّ المراحل لكن دون ألم، وما إن وضعوا ابنتي على صدري حتى تنفّست هواء الحياة الثقيل الدبق اللاذع، وسرت القشعريرة في جسدي كلّه".وتتابع: "لا يمكن لأم أن تنكر إدمانها على رائحة أطفالها، رغم أن الرائحة تتغيّر مع الوقت ويخفّ تركيزها كلما كبروا وانجرفوا بالحياة أكثر بعيداً عنها، ومع ذلك تبقى حيّة في ذاكرتها وتداعبها كلّما عنّ الحنين لتلك الليالي التي كانت تثمل فيها صغيرتها بالحليب على صدرها، ولا تجرؤ على تحريك رأسها كي لا توقظها رائحة الأطفال التي تشبه خليطاً غريباً من الحليب وجوز الهند وعبق الياسمين وماء الورد معاً، رائحة لا يكفي حقل من الزنبق لإشاحة الانتباه عنها، آسرة كعقار مخدّر، وتعرف طريقها المباشر لتحتل العقل والقلب، فتدّخر في رصيد الذاكرة لطوارىء الحنين.
كيلة: "يكفي أن أدفن أنفي في عنق طفلتي لأشعر براحة فورية وامتنان أبدي"
وتشير إلى أنه علمياً يُعتقد أن رائحة المواليد الجدد ناتجة عن بقايا المادة الشمعية الملتصقة بجسدهم أثناء وجودهم داخل الرحم وهي المادة التي تعمل على الحفاظ على رطوبة جلدهم ، لكنها بلا شك تتجاوز تلك الوظيفة البيولوجية المحدودة لتخدم وظيفة وجودية عبر التأثير الكيميائي المباشر لتلك الرائحة على مراكز السعادة في دماغ الأم، الأمر الذي يعزّز الرابطة بين الأم وطفلها ويضمن استمرار وجوده.
وتختم: "يكفي أن أدفن أنفي في عنق طفلتي لأشعر براحة فورية وامتنان أبدي رغم كلّ الروائح الأخرى غير السارة التي تصدر عنها، الروائح المغفورة في حضرة رائحة النعيم، للدرجة التي لا أشكّ معها أنّ حتى زفيرها الناعم نسيم قادم من الجنّة"
ربما تقدر الأمهات على وصف روائح أطفالهن وحفظها بعد عملية الولادة مباشرة، بسبب تضاعف قوة حاسة الشم أثناء فترة الحمل، فغالبية النساء يعانين من قوة حاسة الشم لديهن وبالتالي نفورهن أو إقبالهن على روائح معينة، تضيف تمارا كيلة: "عرف زوجي أني حامل للمرة الثانية من قدرتي على التقاط روائح لم يميّزها هو ولا سواه من العاملين في البقالة بينما كنّا نبتاع بعض أغراض البيت، فقد كان لا يزال يذكر كيف تحوّلت إلى كلبة أثر أثناء حملي الأول إلى الدرجة التي كان يمكنني فيها التقاط رائحة دخان حريق قبل المجسّات الحسّاسة ورائحة سيجارة مشتعلة حتى عند الجار الخامس".
آمنة أبو صفط: الرائحة التي تجعلني رحيمة
ثمة أسئلة يمكن أن نطرحها على أنفسنا كأمهات حول قدرتنا على وصف روائح أطفالنا بعد سنوات قليلة من عمر الأمومة، تقول الشاعرة الفلسطينية آمنة أبو صفط لرصيف22: "بالكاد أتذكر رائحة أطفالي لكنني لا أنسى المشاعر التي صاحبت اكتشافها. لا أحمل بالعادة أطفالاً رضّعاً، حتى أنني لا أقترب منهم واكتفي بمراقبتهم من بعيد بينما امتلأ حيالهم بالشفقة والإرباك، منذ مدة قصيرة اضطررت إلى حمل طفلة لم تتجاوز الثلاثة أشهر حين باغتتني والدتها بطلب المساعدة وقالت (ممكن تحملي البنت شوي) فلم أستطع أن أرفض، أخذت الطفلة بين ذراعي وتأملتها بحذر، قربت أنفي من ثيابها وأغمضت عيني، بدأ قلبي يخفق. إنها الرائحة.وتضيف: "فكرت للحظات كم تجعلني هذه الرائحة رحيمة وأظن أنها تجعل الأمهات كلهن كذلك، رغم أنها ليست جميلة كرائحة مجردة إن حاولنا تحكيمها. لطالما ألهمتني مشاهد الخراف التي تستدل على حملانها وسط العشرات منها من خلال شمها، شاهدت ذلك مراراً بمتعة وإعجاب، بينما يصبح الأمر أكثر تعقيداً عند البشر تفعل الحيوانات ذلك بسهولة وبراعة كي تهتدي لصغارها الضائعين. بعد مدة قصيرة من ولادة طفليّ بدأت أفقد رائحتي لحساب رائحتهما، أشم نفسي فأجد رائحتهما تغطى على رائحتي، كم أحببت ذلك حتى أنني لم أتفانَ مرة في التخلص منها، إنهما يتقاسمانها معي بسخاء مثل أوقات صحوهم ونومهم وحاجاتهم كافة، وأظنها طريقتهما المخلصة بعد أشهر من الالتصاق في قول الحب. مشكلة الرائحة أنها حية للغاية، يمكن للصوت والصورة أن يصبحا ماضياً لكن الرائحة تظل نشطة مهما مضت، ما إن تشمها حتى تبدأ بإيلامك. فبقدر ما تربطني الرائحة في تعاملاتي مع الأفراد والأشياء بقدر ما تقلقني سطوتها في أعماقي، كيف لا وتلك رائحة أطفالي التي بها أعيد ترتيب الحواس".
آمنة أبو صفط: "لطالما ألهمتني مشاهد الخراف التي تستدل على حملانها وسط العشرات منها من خلال شمها، لكن الأمر أكثر تعقيداً عند البشر"
الارتباك والخوف والشعور بالخطر جميعها مشاعر يمكن لذاكرة الروائح استعادتها بسهولة، خاصة أن فترة الأمومة المبكرة هي خليط عجيب لمشاعر متناقضة يصرّ المجتمع على تنحيتها مقابل الغزل المفرط بروائح الأطفال الزكيّة، متناسياً أن الرائحة الجميلة لا تنبعث من أجسادهم بل من العطور التي نرشّها على ثيابهم.
رشا عمران: هي لعبة الخيال والذاكرة
ماذا عن الأمومة الطويلة، هل يمكن للنساء تذّكر روائح أطفالهن بعد عقود من الزمن؟ وهل تظل الرائحة وسيلة حنين بين الأم وأبنائها؟ تقول الشاعرة السورية رشا عمران لرصيف22: "عندما أتوا بابنتي إلي لأرضعها، نظرت إليها وتساءلت من هذه؟ لكن ما إن انتهت من الرضاعة وبقيت آثار حليبي عليها حتى أيقنت أن هذه الطفلة هي ابنتي، اختلطت رائحة جسدي المتعب برائحة فمها المتلهف للحياة، هل ثمة رائحة خاصة بكل طفل لا تنساها أمه؟ لا أظن هذا، ما يحدث هو أن الخيال يدخل إلى الذاكرة ويتواطأ معها على اختراع ما نسميه رائحة أطفالنا كي لا نخرج عن سردية الأمومة. تلك الرائحة هي مزيج من روائح كل شيء: جسدي أنا وجسدها الغض والهش ورائحة السرير ورائحة الشامبو الذي كنت أستخدمه لها، ورائحة معطر الملابس في الغسالة الآلية ورائحة طعامها وفضلاتها وقيئها، رائحة تذكرني أنه ذات يوم خرجت من رحمي طفلة جميلة صغيرة كان لديها حيز حياة ينفصل عني حالما أنتهي من إرضاعها! أما رائحتها اليوم ككائن مستقل فهي التي صنعها، رائحة الآخرين، بمن فيهم أبناؤنا، نتخيلها كلما أحسسنا بشوق لهم، يدهشني من يحتفظون بملابس أطفالهم ويشمونها مؤكدين أنها تحتفظ برائحتهم، لا ينتبهون أنهم في قلب اللعبة التي يلعبها الخيال والذاكرة معاً.رشا عمران: "هل ثمة رائحة خاصة بكل طفل لا تنساها أمه؟ لا أظن هذا، ما يحدث هو أن الخيال يدخل إلى الذاكرة ويتواطأ معها على اختراع ما نسميه رائحة أطفالنا كي لا نخرج عن سردية الأمومة"
سنابل قنو: استنشق نومها وأغمض عيني
لم يمر على تجربة الأمومة خاصتي كثيراً من الوقت، لكنني أستطيع وصف رائحة ابنتي كأني ولدتها للتو، كانت رائحة جلدها تشبه رائحة الصباح، أو تشبه رائحة اللون الأزرق الفاتح، فقد تنفّست رقبتها ورأسها وعلقت تلك الرائحة في ذاكرتي مدة جيدة من الزمن.مع الوقت بدأت تتلاشى لتحل روائح أخرى مكانها، بعضها عَطِر والآخر سيىء؛ فأنا أميّز رائحة مرض ابنتي، ورائحة برازها، ورائحة اتساخها، وربما هذا يفيد بأني أكثر حساسية تجاه الروائح المزعجة، لكنني حتى اللحظة استخدم رائحتها لتحسين نفسيتي، فحين تنام أضع أنفي على ظهرها وأستنشق رائحة تخفف من توتري وتعبي وتعيدني لتلك اللحظة التي توقف فيها العالم قليلاً حين استنشقت رائحة جلدها للمرة الأولى وأغمضت عيني، وأعتقد أن تلك الرائحة الزرقاء البعيدة ستظل حاضرة في ذاكرتي للأبد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...