"كان يا مكان، زمان. طفلة صغيرة بتحب الأطفال، وكانت أمنيتها تكبر لغاية ما تقابل كل أطفال العالم. هتعمل معاهم إيه؟ هتقعدهم قدامها وتقول لهم عيشوا في سلام".
بهذه القصة القصيرة ودّعت الأبلة فضيلة توفيق مشاهدي أحد اللقاءات التلفزيونية معها، في ختام يناسب ما اعتاده جمهور تابع برنامجيها "حديث الأطفال" و"غنوة وحدوتة" مد عقود كان صوتها وحكاياتها خلالها مصدر طمأنينة وفرح له، إلى أن كُتِبَت النهاية اليوم بخبر رحيلها عن الحياة.
في الثلاثينيات، حين كان الراديو وسيلة المعرفة والتسلية الوحيدة داخل البيوت فيقصيه الآباء بعيداً عن أيادي الأطفال، كانت الأسرة تُفاجأ بطفلتها فضيلة تقف فوق أحد الكراسي. وحين يسألها أحدهم عمّا تفعل، كان الخيال يتسلم المهمة فتجيب أنها تُريد الدخول إلى الراديو
حلم الراديو
عام 1929، ولدت فضيلة توفيق، لأبوين مصريين. وكانت الكبرى بين أخوتها ونشأوا جميعاً في القاهرة.
في الثلاثينيات، حين كان الراديو وسيلة المعرفة والتسلية الوحيدة داخل البيوت فيقصيه الآباء بعيداً عن أيادي الأطفال، كانت الأسرة تُفاجأ بطفلتها فضيلة تقف فوق أحد الكراسي. وحين يسألها أحدهم عمّا تفعل، كان الخيال يتسلم المهمة فتجيب أنها تُريد الدخول إلى الراديو.
آنذاك، لم تكن فضيلة تختار الراديو فحسب، بل كان لها شروط، هي دخول غرفة بابا صادق، الإذاعي الذي كان مسؤولاً عن تقديم برامج الأطفال، لينضم بعده إلى قائمة أحبائها أب آخر هو الإذاعي الكبير، المؤسس الراحل محمد محمود شعبان "بابا شارو"، وقد جذبتها الحكايات التي يرويها في برنامجه اليومي، من دون أن تعرف أنها النبوءة، وأنها ستكون تلميذته ووريثه مساحته في الإذاعة المصرية.
في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، درست فضيلة، ثم عملت في مكتب وزير المواصلات، حامد باشا زكي. لكن بسبب قدراتها وعاطفتها الجياشة- التي بلغت بها حد البكاء في المحكمة- أدرك الوزير عدم قدرتها على تحمل أجواء المهنة، ونصحها بالعمل في الإذاعة التي كانت تتبع وزارته حينذاك.
تلميذة شغوفة
ولأن الحلم تحقق، ودخلت الطفلة في الراديو، بدا الشغف واضحاً لتعلّم كل شيء. حتى ولو كانت البداية بعيدة تماماً عن الأطفال، لأن المُقرر لها هو أن تكون مُذيعة على هواء مباشرةً (متابعة كل ما يتعلق بالأحداث الجارية)، ودرّبها الإذاعي الراحل حسني الحديدي على قراءة النشرات.
في حديثها عن محطات رحلتها، التي روتها في لقاءاتها بطريقة الحواديت تماماً، لم تُغفل فضيلة أي مُعلّم لها، فكانت تلميذة مُخلصة تردّ الفضل لأهله، مثلما بدا في حديثها عن مدربة أخرى لها هي الإذاعية صفية المهندس، التي علّمتها كيفية النطق ومخارج الحروف.
في حديثها عن محطات رحلتها، لم تُغفل أبلة فضيلة، فضل أي مُعلّم لها، فكانت تلميذة مُخلصة تردّ الفضل لأهله، مثلما بدا في حديثها عن مدربة أخرى لها هي الإذاعية صفية المهندس، التي علّمتها كيفية النطق ومخارج الحروف
ربما بدأ الأمر بشابة من غير خبرة أو معرفة، تُريد التعلّم مع الحديدي وصفية، إلّا أن الرحلة لم تستغرق وقتاً قبل أن يتحول الأمر إلى فضول دفعها إلى البحث عن مزيد من المعرفة الإذاعية، فاتجهت إلى مُعلّمة أخرى هي سهير القلماوي. ولأنها شغوفة بالتعليم لبّت القلماوي طلب فضيلة وجمعتها ومذيعين آخرين كي تعلمهم الحديث بالعربية الفُصحى والجلوس أمام الميكروفون.
عن أهمية تدريب القلماوي قالت فضيلة وقد صارت الإعلامية الكبيرة: "احنا اللي كنا بندور على فرص علشان عايزين نبقى مذيعين كويسين"، دون أن تنكر خوفها من "الميكروفون"، الذي كانت تصفه له مُعلّمتها سهير بأنه "الأستاذ الذي يراقبك". تقول فضيلة وهي في التسعين من عمرها "حتى الآن بحترم الميكروفون".
مما تعلّمته فضيلة، كان الأداء التمثيلي على يد المخرج يوسف الحطاب، وهذا ما أفادها في قصّ الحواديت. لكنها ترد الفضل في تحولها إلى سفيرة أرض الحواديت إلى معلمها الإذاعي الراحل محمد محمود شعبان "بابا شارو"، الذي ورثت عنه برنامجها الأشهر "غنوة وحدوتة" الذي بقي على اسمه حتى بعدما بات معروفاً باسمها هي "برنامج أبلة فضيلة".
عين على الأطفال
كانت المهندس تُدرب فضيلة، لتستأذنها التلميذة في الذهاب إلى مُعلّمها الآخر، بابا شارو، إشباعاً لميلها إلى المساحة الأقرب لقلبها في الإذاعة، حيث الأطفال، فتجالسهم وهم يحيطون بها وتتحول إلى طفلة مثلهم.
تقول عن الزوجين اللذين صارا معلميْها الأثيرين صفية المهندس وبابا شارو: "احتضنوني زي بنتهم مع إني كبيرة".
في هذه الأجواء، كان التعامل مع فضيلة التي رأت بعد أن صار اسمها معروفاً، أن ما نفعها هو "حُبّها لمَن تعاملت معهم جميعاً"، سواء كانوا معلمين أو حتى أطفالاً. إذ قبل أن تعمل مع شارو "كانت عينها على الأطفال".
لكن في ذلك الوقت، كان بابا شارو "أخطبوط وملك للأطفال"، لا يمكن لأحد منافسته أو حتى مشاركته تقديم برنامج لهم. إلى أن واتتها الفرصة فكان "الغنوة والحدوتة"، وقد حوّلته من برنامج إلى أيقونة إذاعية تذكرها الأجيال منذ الستينيات حتى اليوم، سواء بالتتر أو بالصوت.
متعة في حدوتة
"يا ولاد يا ولاد... تعالوا تعالوا"، يكفي قول هذه الجملة كي تجد مَن أمامك يُكمل الأغنية، هذه الخاصة بتتر من تأليف مُدرّسة بمعهد الموسيقى هي عطيات عبد الخالق، لبرنامج كانت فضيلة ستُسميه "غنيوة وحدوتة"، والقرار في ذلك كان عائداً إلى طلبها من والدها وهي صغيرة أن تسمع "غنيوة".
هذه الطفولة رافقت فضيلة حتى في تقديم البرنامج، الذي عاونها فيه المؤلف نادر أبو الفتوح الذي كتب الغنوة والحدوتة معاً، بجانب مؤلف آخر هو عبد التواب يوسف، وهما عاونا فضيلة في تحقيق هدفها.
لفضيلة دائماً هدف. فكانت القدوة لأطفال. وهي رفضت أن تكون "ماما فضيلة" أو الجدة فضيلة، بل أرادت أن تكون أبلة، أي أختاً كبرى قريبة تستمتع مع الأطفال بالغناء واللعب.
ساعدها في ذلك ما تمتعت به من روح وأداء وصوت حنون مرح. هذا كله جعلها ماما ليست كغيرها من مذيعات الأطفال، بل أبلة يتمتعون معها بالوقت اللطيف، لأن النصائح والواجبات نفسها لم تكن تُفرَض بطريقة افعل ولا تفعل، بل بغنوة وحدوتة.
اختارت فضيلة أن تكون أبلة في وقت كان المُتبّع مع مَن يتعامل مع الأطفال أن يكون بابا مثل صادق وشارو، أو ماما مثل "سميحة" وبعدها "سامية" و"نجوى". وكان لفضيلة مبدأ هو "لا يوجد سوى أم واحدة فقط"، فقررت أن تكون "أبلة الراديو".
إخلاص للراديو
ظلت فضيلة "أبلة الراديو" منذ بداية الستينيات حتى العقد الماضي، ولم يفقد صوتها سحره على مدار عقود ظهر خلالها التلفزيون، الذي رفضت الانتقال إليه، معتذرة للسيدة الأولى- آنذاك- سوزان مبارك، حُباً بالراديو.
وتلك العقود شهدت أيضاً ظهور إعلاميات على شاشات التلفزيون مثل "ماما نجوى، وماما سامية"، اللتين حققتا نجاحاً ساعدتهما فيه عوامل لم تخل من إبهار التلفزيون بالألعاب والعرائس، لكن ظل الحضور الطاغي لـ"غنوة وحدوتة"، القائم على صوت وأداء فضيلة اللذين كانا يأخذان الأطفال إلى عالم الخيال.
ورغم تفضيلها لقب "أبلة"، تعامل كثيرون مع فضيلة بروح الأمومة، كما بدا في نعي أجيال مختلفة لها. وحزن بعضهم بلغ حد إعلان مقرّ دفنها غداً الجمعة في كندا حيث كانت تُقيم وابنتها في أعوامها الأخيرة، كي يشارك من يرغب في تشييع جنازتها هناك.
فالسيدة لم تكن فقط لمَن تمتعهم بالحدوتة، بل تفيدهم بأحاديث، وذلك عبر برنامجها الثاني "حديث الأطفال"، وفيه كانت تنشر سُبل التربية السليمة، التي حظيت بها من جدها الذي قالت عنه إنه صاحب أكبر تأثير عليها، بتعليمها العبادات والمبادئ بطريقة هادئة وسلسلة، وكان له الفضل في طريقتها في إلقاء الحواديت.
في أحاديثها الأخيرة، كانت تُبدي تعاطفاً مع أمهات طحنتهن مشاغل الحياة، أو مع طفلات تعرّضن للضرب في المدارس أو المنازل. وحين قارنت نفسها بهن رأت نفسها محظوظة، لأنها كانت تناشد الأمهات والمدرسين عدم العقاب المُهين، واستبدال الضرب بالحرمان من شيء على أقصى تقدير.
حديث الأطفال
فضيلة "المحظوظة" بأسرتها، لم تكتف ببرنامج يصل به للأطفال معاني ومبادئ كالاحترام والحب عبر الحواديت الممتعة. بل كانت طموحة في تعليمهم وإفادتهم على مستوى آخر، وذلك ببرنامج "حديث الأطفال" مَن صنّفت جمهوره بأنهم مَن في عُمر المراهقة وحتى الثمانية عشر.
وفي هذا، كان للإذاعية هدفها، وهو تعليم الطفل بخطاب يناسب أوقاته، وذلك لإيمانها بأن "المبادئ الطيبة تُكتَسب منذ الطفولة بمختلف مراحلها؛ ما جعلها تُطالب بعودة تقرير السلوك الخاص بالتلميذ مع شهادته المدرسية".
ولهذا؛ كان "حديث الأطفال" الذي شهد بين ضيوفه أبرز شخصيات المجتمع مثل أنيس منصور، ومحمد عبد الوهاب، الذي وافق على الاستضافة شريطة عدم مخالطة الأطفال وأن تكون هي الوسيطة في نقل الأسئلة والإجابات بينهم. بينما في محاولتها للوصول إلى العالم فاروق الباز لجأت هي إلى وساطة أخيه أسامة الباز- شقيقها في كلية الحقوق؛ لتفاجئ بترحيب العالم، والذي استضافت بعده الراحل أحمد زويل.
ورغم النجاح، استعصى على الإذاعية ذات الكاريزما استضافة شخصية واحدة بين قائمتها، وهي أم كلثوم، مَن كانت على حد قول فضيلة "تُحبها" وتُلقّبها مداعبة بـ"البت بتاعة العيال". لكن حين عرض الاستضافة رفضت تمامًا محادثة الأطفال وكان ردها "انتي عايزاني أقعد مع العيال؟".
لكن أموراَ مثل رفض أم كلثوم للقاء، لم تزحزح فضيلة عن نجاحاتها، فمن خلال برنامجها اكتشفت وساعدت فنانين مثل "هاني شاكر، ومدحت صالح، وحنان شوقي"، ومَن كان مُلهمة لمَن هم أصغر منها بعقود، ومَن كان التفكير دائراً لإعادة برنامجها وشارو بانتظام.
كل هذا لأنها فضيلة، مَن ظلت صديقة للأطفال حتى وقد صار بعضهم في الشيخوخة، فهي مَن استمع إليه الأب وابنه وربما حفيده. مَن كانت شهرتها ليس لقرابة من أحد- ولو كانت اختها الممثلة الناجحة الراحلة محسنة توفيق- فقد كانت الشهرة والنجاح بفضل موهبة وشغف ومحبة صارت متبادلة بينها وبين أطفال عرفوها وأحبوها بصوتها الهادئ وأدائها الطفولي اللطيف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...