لعبت الإذاعة الحكومية المصرية دوراً بارزاً منذ انطلاقها عام 1934، وهو دور لا يقل أبداً في أهميته عن الدور الذي لعبته السينما الغنائية التي سبقتها بعامين، من حيث إعطاء مساحة مناسبة للعديد من الأصوات الموهوبة التي استحوذت على أسماع الجمهور وأنظاره. فكان من بين هذه الأصوات الملفتة، صوت المطرب عبده السروجي الذي اشتهر بأغنيته "غريب الدار" التي كتبها علي الشيرازي ولحنّها محمد قاسم.
من هو السروجي؟
تشير المعلومات القليلة المتوفرة إلى أنه من مواليد عام 19011 بالقاهرة، وأن اسمه الحقيقي عبد الحافظ السروجي. فارق والدُه الحياة وهو لا يزال في طفولته، فأدخله أخوه الأكبر كتّابَ الشيخ سلامة بلقعة الكبش. تعلّق بأخيه متعهد بيع الصحف، فكان يزوره من حين لآخر، وأدرك بنفسه تغاضي "الكمساري" عن باعة الصحف الأطفال أثناء ركوبهم الترام. فتعلّم القفز على سلم الترام رقم 5 و22 في المنطقة التي عاش فيها، بين المدبح والسيدة زينب. وعندما أجاد القفز على سلم الترام، طلب من أخيه أن يعطيه كمية مناسبة من الصحف، ليبيعها في الميادين.
من منادٍ لبيع الصحف والمجلات في ميدان السكاكيني إلى أحد أبرز الأصوات التي ظهرت على الإذاعة المصرية... المطرب عبده السروجي أول من غنى "على بلد المحبوب"
كانت أول مرة ينادي فيها على الصحف والمجلات بصوته العذب في ميدان السكاكيني، حيث كان يتفنن النداء في كل مرة، ويبدل في مواويله البلدية. حينها اعتادت فتاة من أصول يونانية أن تشتري منه إحدى الصحف، لتقرأها لوالدها في شرفته كل صباح.
لعبت الصُدفة دورها حين علم السروجي أن هذا الوالد كان يعمل مدرساً للموسيقى، فنصحه بالالتحاق بمعهد الموسيقى، حيث كان يستمع إليه يومياً عندما ينادي على بضاعته! فقرر للمرة الأولى في حياته أن يجلس بين الركاب، ويدفع ثمن تذكرة الترام بنفسه، وبدأ في التفكير جدياً في مستقبله الفني.
التحق بالفعل بالمعهد وحصل على الدبلوم، وذلك حسبما أشارت مجلة "آخر ساعة" في عددها الصادر في 15 آب/أغسطس 1951 تحت عنوان "قصة المغني بائع الصحف".
كان السروجي من بين أوائل الأصوات التي غنّت في الإذاعة المصرية منذ افتتاحها. فتغنّى بألحان كبار الملحنين مثل: محمد قاسم "أنا مالي"، وعبد العظيم محمد "خصام الأحبة"، وحسين جنيد "دنيا الهنا"، ومحمد الموجي "غنيت على عودي"، وفؤاد حلمي "لو كنت غالي"، وأحمد عبد القادر "النوبا دي سماح".
كما كان أول من تغنّى برائعة رياض السنباطي "على بلد المحبوب" من كلمات أحمد رامي ضمن فيلم "وداد" عام 1935 من بطولة كوكب الشرق أم كلثوم التي لم تقتنع باللحن في بداية الأمر عندما أسمعه لها السنباطي.
عندما غنّى السروجي الأغنية ضمن الفيلم، خرجت الجماهير إلى الشارع تتغنّى بها. لاحقاً قررت أم كلثوم أن تسجلها على إحدى الأسطوانات التجارية بعد أن لاقت انتشاراً واسعاً بصوت صاحبها.
أوبيرت وأفلام
شارك السروجي أيضاً في مجموعة من الأفلام السينمائية هي: "وداد" (عام 1935)، "ملكة المسارح" (عام 1936) من بطولة بديعة مصابني، "حياة الظلام" (عام 1940)، "على مسرح الحياة" (عام 1942)، "وادي النجوم" (1943)، "حب من السماء" (1943)، "من الجاني" (1944)، "أحلام الحب" (1945)، و"نجف" (1946).
لعل أهم ما تميّز به السروجي هو النبرة البلدية المُحبَبة في الغناء، فكان صوته قريباً إلى حدٍّ بعيد من البسطاء في الحارات الشعبية الذين وجدوا في أغنياته ملاذاً لهم من قسوة الأيام
كان السروجي واحداً من بين الأصوات اللامعة التي شاركت ضمن أوبريت "الليلة الكبيرة" الذي ألفه صلاح جاهين، ولحنّه سيد مكاوي، وأخرجه صلاح السقا.
ظل السروجي يغنّي في الإذاعة حتى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، لكنّه فضل الانسحاب تدريجياً للاختلاف في وجهات النظر بينه وبين القائمين على الأمر. يشير الملحن والكاتب الصحافي محمد قابيل في كتابه "موسوعة الغناء في مصر" (2006) إلى أن متعهد بيع الصحف ماهر فراج استمع إلى صوته، فأعجب به، وقرر أن يلحقه بالعمل معه كمشرف على مكاتب التوزيع التابعة له بالقاهرة.
فأحب المهنة وظل مخلصاً لها طوال حياته حتى أنه عندما ابتعد عن الإذاعة المصرية، عاد لمزاولتها من جديد، وكُتب في النعي الخاص به بجريدة الأهرام أنه "صاحب مكتب نشر"، حيث فارق الحياة في 6 يونيو/حزيران 1987، وشُيعت جنازته في اليوم التالي.
تأثر السروجي كثيراً بالموسيقار محمد عبد الوهاب، وأصبح واحداً من أفراد بطانته إلى جانب محمد عبد المطلب. تزوج من السيدة فاطمة يوسف غنيم، وأنجب منها البنين والبنات. وصل مرتبه إلى ما يقرب من 30 جنيهاً في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي. وقد بلغ حبّه لأم كلثوم أنه أعاد غناء مختارات من أغانيها التي لحّنها السنباطي في حفلاته.
كما غنّى لشهر رمضان من كلمات الشيخ محمد الفيومي وألحان محمد قاسم أغنية "أهلاً يا رمضان".
ولعل أهم ما تميّز به السروجي هذه النبرة البلدية المُحبَبة في الغناء، فكان صوته قريباً إلى حدٍّ بعيد من البسطاء في الحارات الشعبية الذين وجدوا في أغنياته ملاذاً لهم من قسوة الأيام.
كان من حظ المستمعين أيضاً أن قامت شركة "صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات" بإعادة طباعة شريط كاسيت عام 1981، لتذكرهم بأجمل الأغنيات التي تغنّى بها هذا الصوت الشجي على مدار حياته في الإذاعة الحكومية المصرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...