شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
المنطقة التجارية الحرّة في بنقردان... حلم وَأَدَتْه ثورات الربيع العربي؟

المنطقة التجارية الحرّة في بنقردان... حلم وَأَدَتْه ثورات الربيع العربي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 23 يونيو 202312:28 م

قوّضت ثورات الربيع العربي ترتيبات اقتصاديةً كانت قائمةً بين حكامها، ومنها ترتيبات نظام التونسي زين العابدين بن علي والليبي معمر القذافي، اللذين كانا قد اتفقا على إنشاء منطقة حرة للأنشطة التجارية واللوجستية في محافظة بنقردان الحدودية. مشروع كانت الغاية منه محاصرة المهربين وتقنين كل تجارة غير رسمية.  إلّا أن مساعي إتمام هذه الخطوة بقيت معلقةً إلى اليوم برغم تعاقب الحكومات على كلا البلدين وتوقيع اتفاقات وتفاهمات طوال السنوات الماضية.

بنقردان... بين رصاص ومهرّبين

تجد محافظة بنقردان التونسية الحدودية نفسها اليوم بعد مضي أكثر من عقد على ثورة الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير، عند مفترق طرق؛ فهي تتخبّط في شراك الهشاشة الاجتماعية ولقمة العيش المغموسة برصاص الوحدات الأمنية التي تعمل للحد من ظاهرة التهريب، كما تواجه حالةً من عدم القدرة على تغيير أوضاع سكانها المعيشية اليومية المنحصرة في إدخال المحروقات بطريقة غير شرعية من ليبيا، مقابل توريد شتى أنواع السلع التموينية.

تتبادر تساؤلات إلى أذهان أهالي بنقردان القريبة من الحدود الليبية حول الأسباب التي منعت استمرار العمل على تجسيد مشروع المنطقة الحرة على أرض الواقع؟ وما ذنب أهالي المحافظة إذا لم يجدوا مورد رزق غير التهريب؟ وهل يحق فعلاً أن تتحمل المنطقة مسؤولية تراخي الحكومات المتعاقبة في تونس وليبيا في عدم إحياء أو استكمال العمل على المنطقة الحرة؟

قوّضت ثورات الربيع العربي اتفاقا بين زين العابدين بن علي ومعمر القذافي على إنشاء منطقة حرة للأنشطة التجارية واللوجستية في محافظة بنقردان الحدودية

يقول الخمسيني عمّار، القاطن في عمادة الشهبانية في منطقة بنقرادن لرصيف22: "منذ بُعثت إلى هذه الحياة وأجدادي يزاولون مهنة التهريب لأنه لا سبيل للعيش دونها ولا يوجد سواها. ولا مفرّ لأبنائي وأحفادي منها إذا لم يفكّر رعاة الوطن في إيلاء المناطق الحدودية قليلاً من الاهتمام".

يضيف محدثنا أن فرصة النهوض بهذه المحافظة تُعدّ وهماً منذ أن تمّ التخلي عن فكرة المنطقة التجارية الحرة. "فحياتنا عبارة عن كرّ وفرّ مع عناصر الأمن. نحن نهرّب لنعيش وهم غير ملامين لأنهم يؤدون واجبهم الوطني لكن ما باليد حيلة غير المحافظة على هذه التركة التي توارثناها من أجدادنا، والحرص على ألّا نقع بين أيدي الأمن فتضيع عائلاتنا ويُشرَّد أبناؤنا". يضيف: "اللعنة على كل راعٍ تخلّى عن رعيته والتفت إلى مصالحه واتخذ من التمييز الجهوي درباً له".

صنيعة الديكتاتورية أم وليدة الديمقراطية

تتضارب المعطيات حول التاريخ الحقيقي لولادة فكرة المنطقة الحرة التجارية واللوجستية في بنقردان المحاذية للحدود الليبية. ففي الوقت الذي يؤكد فيه ناشطون وخبراء ليبيّون أن الرئيسَين الراحلَين قد اتفقا قبل إسقاطهما على إنشاء مشروع ضخم بين البلدين متمثل في بوابة للربط الاقتصادي والتبادل التجاري، يقول نظراء لهم في تونس إنه قد تم بعثه عقب ثورتي تونس وليبيا، وتحديداً في مطلع سنة 2015، ولكنه لم يرَ النور إلى اليوم بسبب الوعود المقدّمة في هذا السياق.

الحكومات المتعاقبة على البلدين والانقسام السياسي في ليبيا، بالإضافة إلى الظروف الأمنية والعسكرية والمتغيّرات الإقليمية والمصالح الدولية جزء من الأسباب التي أدت إلى وأد مشروع المنطقة التجارية الحرة في بنقردان التونسية

يعرّف الأستاذ والناشط في المجتمع المدني في محافظة بنقدران، جهاد بن ناجي، المنطقة الحرة بأنها مفهوم حديث في تونس يقوم على نوع من التكتل التجاري بين دولتين، أو ربما أكثر، وافقتا على إلغاء التعريفة والحصص الجمركية، وفيه تخلٍّ شبه كامل عن الإجراءات والتعقيدات الإدارية برمتها بحيث تتولى سلطة المنطقة الحرّة تعويض هذه الإجراءات كافة.

يرى محدث رصيف22، أن العدول عن تنفيذ هذه المنطقة التجارية ستكون له تأثيرات سلبيّة على تونس بما في ذلك تفاقم معدلات البطالة نظراً إلى أن هذا المشروع كان سيوفّر قرابة 2،500 فرصة عمل مباشرة، و6 آلاف فرصة بصفة غير مباشرة. كما سيقلص حظوظ تونس في تطوير مبادلاتها التجارية المنظّمة مع الجارة ليبيا.

انقسام ليبي وتهريب تونسي

الأسباب التي أخّرت إحداث هذا الحلم الحدودي، عزاها الناشط المدني الليبي والمحلل السياسي جمال الفلاح، إلى ثورات الربيع العربي والحكومات المتعاقبة على البلدين والانقسام السياسي في ليبيا، بالإضافة إلى الظروف الأمنية والعسكرية والمتغيّرات الإقليمية والمصالح الدولية. فيما أيّده الخبير الاقتصادي التونسي عز الدين سعيدان، فقط في نقطة الانقسام السياسي في ليبيا.

يعتقد عز الدين سعيدان، في مستهل حديثه إلى رصيف22، أن المشروع ذو فائدة كبرى للبلدين لكن الجانب السياسي في ليبيا هو المعطِّل لاستكمال المشروع الحرّ، ذلك أنّ موافقة أي من الحكومتين الليبيّتين سواء حكومة الوحدة الوطنية أم الحكومة المكلفة من مجلس النواب، تعني بالضرورة اعتراض الأخرى عليه، مستبعداً إنشاء مثل هذه المشاريع لا سيما في ظل ما تشهده ليبيا من عدم استقرار.

يرجح سعيدان أن تكون هناك محاولات واتصالات غير معلنة من الجانب التونسي، لأنه طالما توجد أطراف معطِّلة للمشروع، مثل المهرّبين، إذ ليس من مصلحتها إتمام المنطقة لأن المشروع سيقطع على بارونات التهريب الطريق أمام المعاملات مع ليبيا أو الجزائر.

من الواضح أن الزيارات واللقاءات بين مسؤولي الجارتين لم تتطرق إلى موضوع المنطقة الحرة، والتي كان آخرها لقاء جمع الرئيس التونسي قيس سعيّد برئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، ومحافظ المصرف المركزي الصديق الكبير، وغيرهما في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، برغم تصدّر الملفات الاقتصادية أولويات الزيارة.

فسّر الناشط المدني جمال الفلاح، ذلك لرصيف22، بتصدر "عقليّات"، المشهد السياسي، وهي لا تريد فتح ملفات سابقة تخدم القضية الوطنية ولا الاعتراف بإنجازات تُحسَب للأنظمة السابقة.

يضيف جمال الفلاح: "يكفي أن هناك الكثير من رجال الأعمال الذين يسعون إلى إحداث هذه المنطقة، وتالياً يضغطون اليوم على حكومة الوحدة الوطنية وحكومة السيدة نجلاء بودن في تونس، من أجل أن يتم إنجازها والبدء فيها سريعاً لأنها تُعدّ منطقةً حيويةً جداً ستخدم أهالي المناطق الحدودية في البلدين".

السوق الحُرّة... تهديد للمصالح الإماراتية والتركية؟

برغن أن تونس لن تصبح غنيّةً بين ليلة وضحاها أمام تركة المشكلات الاقتصادية التي ورثتها الحكومة التونسية، والتي لم تُحلّ حتى الآن، وتعمّد دول خارجية وقوى إقليمية عرقلة إحداث المنطقة الحرة بين تونس وليبيا لما تمثله من تعطيل وحدّ لمصالحها في منطقة شمال إفريقيا ككل، يتأسف الباحث الليبي في معهد الدراسات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية، حافظ الغويل، لعدم استحداث هذا المشروع على أرض الواقع، ورأى أنه ليس من مصلحة بعض الدول العربية، وعلى رأسها الإمارات، إنشاء المنطقة الحرة في بنقردان، طالما تبحث عن السيطرة الدائمة على أي حركة اقتصادية في شمال إفريقيا بما فيها تونس وليبيا ومصر واحتكار العلاقات التجارية بين أوروبا والدول الإفريقية.

الأكيد هو أن الفرص الاقتصادية التونسية الليبية تصطدم بمطبات إقليمية وتحديات داخلية

من جانبه، يعتقد سعيدان، أنه ليس من مصلحة تركيا إنشاء منطقة حرّة تكلّف كلاً من تونس وليبيا أربع نقاط نمو تسهم في نهوض اقتصاديهما وتحولهما إلى بوابة اقتصادية إفريقية.

ويرى سعيدان أن تركيا تعمّدت إقصاء التونسيين من السوق الليبية واقتحمت السوق التونسية في التوقيت ذاته سنة 2011، مؤكداً تجاوز العجز التجاري التونسي مع تركيا اليوم عتبة الأربعة ملايين دينار، أي ما يعادل 1.3 ملايين دولار مقارنةً بسنة 2010 التي تميزت بعجز تجاري بلغ صفراً.

حلول تفتقر إلى العزيمة السياسية

أكثر من عشر سنوات مرّت، ولم يتجاوز مشروع السوق الحرّة في محافظة بنقردان مرحلته الأولى، وسط تضاعف المخاوف من أن يفقد هذا المشروع جدواه مع تقدّم الجانب الليبي في إحداث مشاريع مماثلة.

يقول الباحث حافظ الغويل، إن الحلول موجودة إذا امتزجت بالرغبة السياسية، وذلك سيحدث وفق رأيه من خلال معالجة التشوهات والخروقات الاقتصادية والأمنية بين البلدين، ثم توحّد القطاعين الخاصين في تونس وليبيا واتفاقهما على مشاريع ثنائية تدفع نحو إنشاء أو إتمام المنطقة الحرة، وتالياً تحريك دفّة الحكومات نحو هذا الاتجاه.  

فيما يرجح الخبير التونسي عز الدين سعيدان، أن السلطات التونسية لن تنجح في الخروج بأي حلول ما لم تنتظم الانتخابات في ليبيا وتتوحد إثرها السلطة التنفيذية.

الأكيد هو أن الفرص الاقتصادية التونسية الليبية تصطدم بمطبات إقليمية وتحديات داخلية تمنع تنمية الشعبين وتحول دون رفاهيتهما، إلا أنها قد تفتح المجال للبحث عن بدائل اقتصادية أخرى تحلّ محلّ المناطق الحرة من قبيل السماح للتونسيين أو الليبيين بالاستثمار في كلا البلدين في المجالات كافة دون قيد أو شرط، أو تفعيل اتفاقيات كتلك التي تُعنى بالدفع الثنائي بين المصرفين المركزيين التونسي والليبي، لتسهيل عمليات التبادل التجاري بين مختلف الفاعلين الاقتصاديين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image