لم تكن كومة جوائز الغرامي والإيمي التلفزيونية هي ما دلّ وحده على نجاح مسلسل "الخلافة" أو "Succession" للمؤلف جيسي أرمسترونج، السيناريست والصحافي البريطاني، كذلك ولا التقييمات الرائعة جماهيرياً (8.9 على موقع (IMDP ونقدياً (95% على موقع Rotten tomatoes الشهير لنقاد وخبراء السينما)، ربما كان ما دعا محبو الدراما التلفزيونية إلى اعتبار المسلسل الذي انتهى عرض جزأه الرابع (والأخير؟) قبل أيام، من بين أفضل أعمال التلفاز عبر التاريخ، أنه استطاع أن يجمع ملايين المشاهدين عبر العالم، بغض النظر عن طبقاتهم الاجتماعية، ولسنوات أربع شبه متصلة (بين 2018/2023)، حول دراما عائلة من أثرى الأثرياء على الكوكب، ثرية إلى حد أن أبناءها يسخرون في أحد مشاهد الجزء الرابع من موظف يمت لهم بصلة قرابة – نيكولاس براون في دور جريج هيرش- لأنه وضع لنفسه خطة بديلة تضمن له الحصول على خمسة ملايين دولار (إذا ما خسر كل شيء)، وبعد الضحك والسخرية، يشرحون له أن الملايين الخمسة هي لا شيء، لا تختلف كثيراً عن أن يكون المرء – في عالمهم- معدماً.
إن الصراعات في طبقتهم – المحدودة جداً- تدور حول مبالغ بعشرات مليارات الدولارات، وهي حتى في هذا المستوى من الثراء الفاحش، لا تدور حقاً حول المال بحد ذاته، إذ إن أحداً منهم غير مهدّد في أي لحظة بأن يصير "معدماً"، حتى على غرار "موظف الملايين الخمسة".
إن المال في عالمهم (وأليس هو في عالمنا جميعاً كذلك بنسب متفاوتة؟) مكافئ لصراعات المكانة، والقوة، والاستحقاق، وصولاً إلى مشكلات الثقة بالنفس ومساعي التعويض العاطفي.
الصراعات في طبقتهم تدور حول مبالغ بعشرات مليارات الدولارات، وهي حتى في هذا المستوى من الثراء الفاحش، لا تدور حقاً حول المال بحد ذاته. المال في عالمهم مكافئ لصراعات المكانة، والقوة، والاستحقاق، وصولاً إلى مشكلات الثقة بالنفس ومساعي التعويض العاطفي
الثراء الفاحش لأسرة رجل الأعمال لوجان روي (براين كوكس في أداء مذهل) مالكة الإمبراطورية الإعلامية "وايستار رويكو"، كان مهدِّداً للتواصل اللازم بين المُشاهد وأبطال العمل، الذين لا يمكن أن يتمثل بهم سوى أقل من 00.001% من سكان الكوكب. نحن حتى لسنا بصدد الفرجة على صراعات عائلة ملكية تعجّ بالأميرات والعشاق السريين، أو أساطير ممالك خيالية تذخر بالتنانين والمخلوقات الأسطورية، وإنما يطلب منّا المسلسل أن نتعايش مع "مآسي" عائلة وطبقة لا نحمل تجاهها عادة أطيب المشاعر.
إنها أسرة من نمط عائلات ترامب أو والتون (وول مارت) وغيرها، ممن لا تحيا حياة الثراء غير المتصوّر فحسب، بل إنها كذلك ممن يختلط في حياتها البيزنس بالسياسة، والجريمة إن لزم الأمر، النمط الذي يتحكّم بالسياسيين الذي يتحكّمون بدورهم في أحلام الناس، نظرة إلى كواليس تضم أولئك وهؤلاء (وقد عمد الإخراج إلى التصوير بكاميرات متحركة توحي بالتلصص على طريقة الوثائقيات) تبين كيف أن آلام وأحلام ملايين الناس ليست إلا أوراق لعب بين أصابع تحتكر الثروة، وتحرّكها، لا المصالح فحسب، بل كذلك المطامع الصغيرة والعقد النفسية، ويمكن لها – على سبيل المثال- أن تقرّر في لحظة تسريح آلاف الموظفين لمجرّد تحدي منافس "مستفزّ".
هذه المهمة الصعبة إذن، مهمة التواصل وحتى التعاطف أحياناً مع أبناء لوجان روي الأربعة (كيندل ورومان وشيف وآلن)، في صراعهم من أجل وراثة مقعد أبيهم، المهاجر العصامي الذي فعل كل شيء لبناء إمبراطوريته المالية الإعلامية والسياسية، وقد بدأت صحته الجسدية والعقلية تخونه في عمر الثمانين، لم يكن ليعالج صعوبتها سوى النّص المذهل الذي تناوب عليه ثلاثة مخرجين، المتماس أحياناً مع النص الشكسبيري في "الملك لير"، ولكن الأهم هو وضع اليد على ما يمكن أن يمسّ المشاهد، الذي ربما يستطيع بالكاد أن يدفع اشتراك منصّة المشاهدة، ليبقى منجذباً طوال سنوات إلى دراما العائلة المليارديرية، وقد وجد السيناريو مبتغاه في "فكرة" الأب، علاقة الأب بأبنائه وقد كبروا وصاروا يتحيّنون فرصتهم وسلطتهم وثرواتهم، من "خير" الأب وضده في الآن نفسه.
عائلات الثراء الفاحش أقرب إلى العائلات الملكية، لا قيمة فعلية لأبنائها من دون الوصول إلى العرش، من دون "خلافة" الملك، ولأنه عرش، فإن وراثته لا تتحقق إلا بالدم والدموع
إن فرصتهم لن تكون إلا على حسابه، وهم في هذا يختلفون عن مُشاهد الطبقة الوسطى الذي يعلّمه أبواه ثم يطلقانه إلى العالم كي يؤسس حياته في مكان آخر. أما عائلات الثراء الفاحش فأقرب إلى العائلات الملكية، لا قيمة فعلية لأبنائها من دون الوصول إلى العرش، من دون "خلافة" الملك، ولأنه عرش، فإن وراثته لا تتحقق إلا بالدم والدموع، حتى داخل العائلة الواحدة، بل بصورة أشدّ داخل العائلة الواحدة. وفي حين يبقى العرش الملكي – مهما اشتد الصراع – في حدود العائلة الملكية، فإن عرش الإمبراطورية الاقتصادية قد يضيع في رفة عين، بحكم لعبة السوق والأسهم ومؤامرات الشركات.
من هنا يكون صراع الأبناء الأربعة مزدوجاً، صراع بين بعضهم البعض لوراثة مقعد الأب، وصراع ضد الطامعين الخارجيين الذين يستعدّون لابتلاع المؤسسة التي شاخ مؤسّسها، بل وصراع ضد الأب/ الملك نفسه، الذي لم يتقبّل بعد أن أيامه فوق العرش قد انتهت. إنه يحب أولاده، لكنه لا يثق في قدراتهم، يحبهم لكنه أيضاً يحب نفسه ويثق فيها أكثر، وكفاح ثمانين عاماً لا ينتهي ببساطة حفلة عائلية صغيرة هادئة لتسليم العرش.
لكن صراع الأبناء الأكبر، بخلاف الأب والسوق والمنافسين فضلاً عن غيرتهم الشخصية، هو صراع وجودهم نفسه، سؤال استحقاقيتهم لوراثة مقعد إدارة هذه الإمبراطورية الشاسعة، فليس في السوق الشرس "ولاية عهد" بل قتال لا ينتهي، فهل هم – حفنة الشبان تلك- جاهزون له، أم أن أقل مدير من مساعدي أبيهم القدامى هو أكثر منهم خبرة وحنكة ودراية وعلاقات، وأكثر استعداداً للغدر بهم؟
على أن المأزق الحقيقي لأبناء لوجان روي لم يكن خاصاً بهم وحدهم، إنه مأزقنا جميعاً، إنه عن استحالة أن نصبح آباءنا، أياً كان ما يعينه ذلك خيراً أو شراً. إننا لسنا هم، لم نولد في زمنهم ولم نعش – حقاً – خبراتهم ولم نكسب أو نخسر تحدياتهم، ولم تترك الحياة علاماتهم نفسها في أرواحنا، بل عشنا في ما وفروه لنا أو ما حرمونا منه. إننا – على الأكثر- ورثتهم، وقد لا نرث إلا أسماءهم، ولذا فإن صراع كيندل روي (جيريمي سترونج) ليحتل مقعد أبيه، في الحياة والسوق والسياسة، كان محكوماً عليه مسبقاً بما صار إليه في النهاية، وكذلك هو مصير كل من يحاول أن يصبح أباه، بدلاً من أن يكتشف نفسه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع